يوم 29 نوفمبر 2009 كان يوما تاريخيا في تهاوي صورة مشرقة عرفتها سويسرا على مدار عقود وربما قرون ..., فحين توجه الناخبون الى صناديق الاستفتاء اختار 57.5% من السويسريين حظر المآذن , لتسقط بذلك صورة متألقة جدا ارتسمت في أذهان العرب والمسلمين عن هذا البلد الرائع والجميل ... في سويسرا لايتجاوز عدد المآذن أربعا بين الاف من الأبراج والصوامع التي تمثل رموزا دينية مسيحية ويهودية .. , اذ لم تضق ديمقراطية جينيف وبارن وبازل ذرعا ببيع يهودية ولاكنائس مسيحية مثلت كما الاسلام جزءا من فسيفساء تعددية طالما افتخرت بها سويسرا ... لم تتورط سويسرا في حروب عالمية ولم تنخرط بشعبها المتعلم والمثقف في محاور الحرب الباردة , بل انها كانت على مدار قرن أو أكثر معقلا ليبراليا اجتمعت تحت سقفه كل تلابيب الحرية الاعتقادية والفكرية والسياسية ... مالذي جرى اليوم حتى تستفتي الحكومة السويسرية شعبها على حظر المآذن ؟! , اذ ثمة مؤشر خطير داخل البيت الأوروبي حين يحدث مثل هذا الاستفتاء السيء والكريه داخل سويسرا تحديدا .. لو طرح نص الاستفتاء بركاكته تلك في بلد مثل هولندا أو فرنسا لربما وجد له العرب والمسلمون مسوغا سياسيا في ظل تنامي نفوذ اليمين العنصري في هذين البلدين , أما أن يقع الاستفتاء وباشراف حكومي في معقل الديمقراطية الغربية فان ثمة خللين مسا ضفتي الحوار المسيحي الاسلامي , وهو مايوجب الوقوف عندهما في هذا المقال بالبيان والتحليل... على الضفة الاسلامية : دعونا ننطلق أولا من الذات العربية والاسلامية , فهي ذات اختطفت صورتها الحضارية الجميلة صور غياب المشروع الديمقراطي المعاصر بأغلب بلدان المنطقة , وهو مايعني للغرب تصدير عالم من اللاديمقراطيات الى عالم ديمقراطي... فاذا كانت الأقلية المسلمة بسويسرا تتشكل من وجود عربي ومغاربي متنوع فان أول ماتذهب اليه أعين الراصدين السويسريين هو حالة الاحتقان السياسي والديني أحيانا في جل بلدان المنطقة , ومن ثمة فان نتائج الاستفتاء على موضوعة المآذن ستتأثر حتما بصورة شعوب وحكومات فشلت في افراز حالة ديمقراطية واصلاحية تستوعب تناقضات مجتمعاتنا العربية والاسلامية . حين تصبح سويسرا ملاذا للحالمين بالمشروع السياسي العادل , فان العرب والمسلمين سيكونون أول المتمسكين بقيمة ماتوصل اليه العقل السياسي السويسري المعاصر , لكن بالمقابل فان تمتع السويسريين بقيم العدل كأساس للعمران قد يجعلهم أمام مخاوف تفشي الظلم بصفته مصاحبا ملازما لتخريب أسس العمران .. وبلاشك فان تعاسة وبشاعة ماأقدم عليه تنظيم القاعدة قبل سنوات حين استهدف بعض عواصم ومدن الغرب كان نقطة تحول تاريخية في علاقة شبه ايجابية بين الشرق والغرب , لولا بعض توترات التجاذب بين المحورين في ظل استشكال الوضع الفلسطيني وترشحات الوضع العراقي .. العالم العربي والاسلامي فشل حينئذ في استيعاب الديمقراطية والتنوع الداخلي مما جعل سجونه الأكثر احتضانا لأفواج المعارضين والغاضبين على غياب مناخات الحرية والعدل ..وهو ماانعكس بوجه عام على الصورة العامة للجسم العربي والاسلامي داخل المجتمعات الغربية ..مع سوء تدبير وتقدير وتصرف من قبل من تبنوا قناعات اختطاف صورة الاسلام لفائدة مشروع مقاوم تدثر كثيرا باراقة دماء الأبرياء من خلال الالتفاف المحرف على القيم الجهادية ... وفي ظل استمرار حالة الصراع بين سلطات تتمسك بالسلطة بثمن وأد أحلام الاصلاح والمأسسة والدمقرطة وبين معارضات انحرف بعضها الى الحماسة العنفية .., في ظل هذا الواقع ضاعت أحلام العرب والمسلمين وهدمت أحيانا بيع وصوامع بفعل عسكرة الأنظمة وردود فعل بعض جماعات العنف الثوري التي حاولت تجيير الاسلام بطريقة سيئة في مواجهتها لانتهاكات حقوق الانسان أو تعفن الواقع السياسي العام... هذا المشهد يلقي اليوم بسوء ألوانه وأطيافه على صورة الاسلام والمسلمين في الغرب وهو مايعني أن نتائج الاستفتاء السويسري لم تكن لتختلف كثيرا لو وقع تنظيم مثيل له في أي بلد غربي أو أوروبي ... ماذا عن المشهد الأوروبي ؟ المشهد الأوروبي , وفي ظل احتكار وسائل الاعلام من قبل لوبيات معروفة فانه يخضع لمصالح أطراف تعمل على نسف جسور التواصل بين العالم العربي والاسلامي ونظيره الغربي .., وهو مايعني أن وسائل الاعلام تقوم ومنذ سنوات بعملية شحن مقصودة تهدف الى اظهار الاسلام بصورة سيئة في عملية خلط مشبوهة بين القيم الدينية السمحاء ومايقابلها من واقع يتسم بالتراجع والتخلف على مستوى جغرافية بلدان الهلال الخصيب . التغذية الاعلامية السيئة والمشبوهة ساهمت أيضا في توجيه اتجاهات الرأي العام وتشكيل يمين عنصري قد ينقلب على الأقليات المسلمة واليهودية في ظل عدم تفريق اليمين بين يهودي ومسلم , اذ لازالت الايديولوجية اليمينية تستلهم أدبياتها من ميراث النازية والفاشية مع ميل الى استحضار النموذج الهتلري حين القيام بأعمال فيها تعدي على السلامة الجسدية لليهود أو المسلمين ... هناك فشل اعلامي عربي واسلامي في مخاطبة العقل الغربي , وهو مايعني أن الاعلام مازال وبقدر كبير صناعة احتكارية للوبيات المسيحية واليهودية ولرؤوس الأموال السياسية مع استثناء للوجود الاسلامي المعتدل ضمن منظومة وسائل الاعلام المعاصرة والحديثة... نحن حينئذ أمام مشهد اعلامي وسياسي غربي لاينصف العالم العربي والاسلامي , بل ينظر اليه من زاوية الثروة والبترول والغاز والاستثمار المالي والسياحي مع حرص على ابراز صورة المرأة الشرقية الراقصة في فنادق تونس والقاهرة ودبي وأبي ظبي ... صورة سيئة وكريهة تستخف بالمخزون الحضاري العربي والاسلامي وتعكس واقعا مشحونا بالدمار والاحتقان في اقطار الصومال واليمن والسودان وفلسطين والعراق وباكستان وأفغانستان... صورة لن نلوم عليها السويسريين بدرجة أولى أو الغربيين , برغم مسؤولية الحقبة الاستعمارية وواقع الاحتلال واسناد الديكتاتوريات عن واقعنا الحالي بشكل جزئي ومباشر ... لكن بالمقابل فان قابلية الاستعمار والاحتلال ليست صناعة غربية , بل انها صناعة محلية عربية واسلامية , في ظل تعنت بعض الأنظمة وفسادها كما تخلف بعض المعارضات التي فضلت جلب الحذاء العسكري الأجنبي على التعامل مع أنظمة محلية .. الشعوب بلا شك تتحمل مسؤولية انخراطها في المشاريع القومية من خلال تبنيها لقضايا فلسطين والعراق وأفغانستان وصدام حسين وجمال عبد الناصر ونصر الله وأحمدي نجاد , في مقابل تخاذلها تجاه واقعها المحلي وتصفيقها صباحا مساء لحاكم لم يطلب منها أكثر من الطاعة والاتباع ..فاذا بها تحوله الى الهة في الأرض كما الهة يستسقى بها الحرث والزرع ويبارك بها النسل والثمر.. مالعمل حينئذ ؟ علينا أن ندرك وللمرة الألف بأن صراع الأنظمة مع الشعوب , وصراع الشعوب مع الأنظمة بالشكل الذي تترتب عنه الضغائن والأحقاد والصراعات الدموية هو مقدمة لاضعاف الصف العربي والاسلامي , وهو مايعزز من حالة استخفاف الغرب بدول المنطقة , كما علينا أن نؤمن سويا بأن انتهاك حقوق الانسان ومصادرة الحريات ووأد أحلام الشعوب في الحياة الحرة والكريمة هو نقطة ارتكاز في النظر الينا كعرب ومسلمين بتلك الصورة السيئة والكريهة حين يقع النظر الى قضايانا العقدية بطريقة نعم أو لا كما هو حاصل في الاستفتاء السويسري سيء الذكر... ان تحصين حرية الاعتقاد والتعبير والاعلام وتعزيز قيم حقوق الانسان والمواطنة واحترام الحقوق الدينية لدينا وافراز نموذج حضاري وعادل في الحكم هو الكفيل بتقوية أجهزة المناعة المحلية والوطنية والاقليمية لدينا , ومن ثمة جعل الاخر المخالف في الصين أو الهند أو روسيا أو أستراليا أو أمريكا أو أوروبا يحترمنا ..., ودون ذلك ستتراجع مكانتنا على الصعيد الداخلي والخارجي بما ينبئ بعودة الاستعمار والهيمنة بأشكال حاذقة وجديدة ,أو ربما العودة ببلداننا الى بوتقة الاستعمار العسكري الجديد تحت وصاية أممية ... الاستفتاء على حظر المآذن في سويسرا مؤشر خطر لابد من حسن فهمه ولذلك اخترت هذه المرة الخوض في أعماق ما وراء دلالات الخبر , فهلا أحسنا فهم الرسالة ؟