: المشهد الخالد في حياة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة كان في أشهره الأخيرة من حفلة الوداع , قبل أن يتيح به الرئيس الحالي زين العابدين بن علي في انقلاب سلمي دخل به التاريخ ... مفاخر بورقيبة الثلاث حين كان يربت على وجه واحد من أبرز وزرائه قائلا بأنه يفتخر بتحقيق ثلاث : 1- تحرير البلاد من الاستعمار وبناء دولة الاستقلال . 2- تحرير المرأة . 3- القضاء على أصحاب التوجهات الاسلامية , أو من كان يتلذذ بتسميتهم ب"الخوانجية" .. مكاسب يمكن مناقشتها طبعا , فالاستقلال ولو كان نسبيا بمعايير امتلاك السيادة والقرار بالنسبة لبلد بحجم تونس يبقى أمرا لايمكن لنا كتونسيين الا أن نباركه ونعتبره مكسبا غير قابل للرجعة أو التنازل ... استقلال يمكن أن يكون مكبلا باتفاقات سرية لانعلمها على حد قول البعض من المتعاطفين مع الزعيم الراحل صالح بن يوسف , الا أنه في كل الحالات حقيقة ثابتة في ظل وجود هياكل مستقلة للدولة التونسية الحديثة ... هياكل قد لانختلف في أنها قامت على تمجيد بورقيبة زعيما تاريخيا , كما اعتباره شخصا منزها عن العيب والنقصان , الا أنها تبقى برغم كل مااعتراها من شمولية وخلل , افرازا لواقع تونسي تطبع في سياقه العربي بطبائع الاستبداد ... محاولات الاصلاح واجتهادات التقويم على صعيد المؤسسات كانت ملجومة برؤية الزعيم الأول للدولة في تاريخ تونس , أو لنقل بتقصير النخب وتخاذلها في تحصين الدولة الحديثة من الجنوح ذات اليمين أو ذات الشمال ... لكن وبرغم كل ماذكرت , فانه لامفاضلة بين الحكم الفرنسي وبين دولة قامت على ثنائية التعليم والصحة كأولويتين رئيستين في سياسات مختلف الحكومات ..., ولو سلمنا جدلا بتعديل نسبي لسلم الأولويات على مدار عقدين أخيرين من تاريخ الدولة. وضعت تونس أمام تحديات جادة باتجاه تطوير سياساتها على مدار أكثر من نصف قرن , واصطدمت في كل مرة باغراءات الحكم وأمراض السلطة , اذ أن محاولات الدمقرطة والمأسسة ولجم الأفراد والجماعات بحكم القانون كان مصطدما بعوائق الايديولوجيا ورؤية بورقيبة التاريخية لمنظور الدولة ( قيامها على محور انجازاته العظيمة دون الاعتراف للشعب بما قدمه من تضحيات في مؤازرة المشروع التحرري ) . اختبار الديمقراطية فشلت فيه تونس بقدر نجاحها في تعبيد مسالكها وتطوير كثير من بناها التحتية , أو تطوير مستوى رفاه جزء من مواطنيها .., اذ ظل اللغز المحير لدى الجميع متمحورا حول قيمة الاستقلال اذا لم يعزز بمسارات توسيع المشاركة وترسيخ مسار دولة الحق والحكم الرشيد وحماية المواطن من مسالك التعذيب... ولكن رغم ذلك فلااختلاف لدى التونسيين - الا من شذ - حول قيمة تحصين البلاد بمشروع مؤسساتي يتيح للجميع حقوق المواطنة ويحمي المواطن من تغول الدولة وزحفها العربي باتجاه مربعات الاستبداد ... المفخرة الثانية في الفقه البورقيبي تظل حائمة حول مقولة تحرير المرأة , ولاغرو في أن تحرير المرأة العربية وحتى المسلمة عنصران مطلوبان في محيط زينه فقه الانحطاط والتخلف , غير أن بورقيبة قدم الشكل على الجانب المضموني في عملية التحرير كما التحرر ... فالتونسيون بجنسيهم كانوا في حاجة الى تحرير العقول واعادة تشكيلها بناء على متطلبات رسالتهم السماوية - ( اقرأ )- , أو حتى من منطلق تحديات عصر العلم وثورة المعارف , ولم تكن المرأة بفقه شكلاني يزيل السفساري أو الحجاب من على هامتها كفيلة بتحقيق المراد ... الحجاب أو الملبس لم يكن تاريخيا عنصر تخلف أو تقهقر أو تراجع في تاريخ الشعوب , بل ان المرأة اليابانية مازالت تتمسك بلباسها الخاص في معظم مدن اليابان , الا أنها قد تفوق في تعلمها أو ذكائها المكتسب أو درايتها بشؤون العصر كثيرا من نساء الشرق والغرب... ربما كان النقاب على وجه المرأة مبالغة فقهية تستمد "مبرراتها" من بوابة عصور سد الذرائع , الا أنني مازلت على رأي اسلامي وعقلاني يعتبر الحجاب كفاية شرعية مطلوبة في تحقيق المراد الديني .., وهو مايعني لدي أن اجتهادات بورقيبة كانت شخصانية مهووسة برؤيتها لشؤون الدنيا والحياة ... وقع بورقيبة في خطأ فادح حين أقحم الدولة في مربعات شخصية تقوم على الاعتقاد الذاتي , كما وقع فقهاء مسلمون في الخطأ حين أداروا رحى الاسلام وأقعدوها على النقاب , وهو ماجعل الطاهر الحداد يشن حملة شعواء عليه كغطاء للوجه شبهه بلجام الكلاب ... يبقى الحجاب , كغطاء للرأس , مستمدا شرعيته بلا شك من النص الديني المقدس , ولاغرو حينئذ بأن ارتداءه لن يزعج حاكما أو محكوما ماقام على الحرية والاقتناع والاختيار الناضج... ربما كان بورقيبة شكلانيا في مسألة اللباس , الا أن بعضا من اجتهاداته في موضوعات المرأة تبقى مندوحة ومستحسنة لدى معشر النساء والرجال , اذ ان مجلة الأحوال الشخصية كانت في عمومها اجتهادا اسلاميا قابلا للتطوير والهضم بناء على واقع حداثي قد لايتعارض في جوهره مع مقاصد وروح الاسلام في ارادته الناهضة. ماذا عن مفخرته الثالثة ؟ كارثة كانت باعراب المفخرة لدى الزعيم الراحل بورقيبة وبعض من تمسك بنهجه الشكلاني دون امتلاك ارادة محاكمة التجربة عقلانيا وعرضها على محاكمة الفكر بالفكر ... الاسلاميون التونسيون , هم أحب من أحب وكره من كره ! , جزء من الخارطة العربية والاسلامية , يمكن التفاعل معها من منظور المثاقفة والاستيعاب في المنظومة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية للدولة ... لايمكن من منظور المواطنة والدولة الحديثة , اقصاء تيار فكري أو سياسي أو القضاء عليه بفعل المحاكمات والسجون أو أشكال من التعذيب ... فالتونسيون بمختلف مشاربهم لهم الحق بالقانون والدستور وكل التشريعات الدولية ذات العلاقة بالشأن , في التعبير عن ارائهم وقناعاتهم السياسية ..., لهم حقوق التنظم والانتخاب والترشح للمناصب العامة , كما عليهم واجب الذود عن سيادة بلدهم واستقلاله ومايتهدده من مطامع خارجية ... يستوي في ذلك الاسلاميون التونسيون مع من سواهم من يساريين أو قوميين أو ليبراليين أو منخرطين في صلب التجمع الدستوري الديمقراطي ... ولاشك في أن حقوق المواطنة , تشمل بظلها رعاية وترتيبا لأسس التوافق والتعايش والتسامح كل التونسيين والتونسيات دون البحث عن خلفيات الناس ومشاربهم العقدية أو الايديولوجية أو السياسية ... كان بورقيبة وللأسف الشديد حاكما شموليا في علاقته بالاسلاميين كما علاقته باليساريين أو علاقته بالتيار القومي ,,, وهو مافوت على تونس في تاريخها الحديث فرصة دخول النادي الديمقراطي كأول دولة عربية رائدة في هذا المجال ... "القضاء" على الاسلاميين بمنطق المحاكمات , أو النفي أو استباحة أدوات القمع والتعذيب , يعتبر خطيئة فاشلة في حق شريحة كبيرة وواسعة من أبناء تونس , ولاشك لدي في أن بورقيبة كان مهووسا في هذا بحرصه القاتل على الانفراد بالسلطة , ولم يكن يحركه في ذلك منزع وطني أو انساني أو مصلحة عليا للبلاد... انزاح بورقيبة بفضل الله , في لحظة تاريخية حاسمة من الحكم , ليترك وراءه ملفا ثقافيا وسياسيا من الطراز الثقيل , فقد التبس على النخبة الحاكمة ميراثه الايجابي من أخطائه القاتلة ! , لتدفع تونس ومن جديد ضريبة هذا الالتباس ... التفت بعض النخب على المشروع السياسي الجديد للجمهورية الثانية , لتجعل من بورقيبة خصما وحكما يبتغى منه العدل والقسطاس في مفخرة كارثية...!