لقد كان من نعم الله علينا أن اهتدينا مبكرا إلى قيمة الدستور وأهميته في تماسك الأمم وتطورها، فكان أن منّ علينا بايات الطغيان منذ قرن ونصف بعهد للأمان... لكن حنين الظلم والاستبداد سرعان ما حرّك فيهم دواعي الانقلاب عليه والتنكيل بشعب كان يئن من الجوع والبؤس والحرمان، حتى قوض الله سلطانهم بحلول الاستعمار.. ولما كان دعاة التحرر فينا يدركون أثر غياب العدل والإصلاح والمؤسسات في كبوتنا السابقة، ويقدرون قيمة الحرية والديمقراطية وأهمية الدستور من أجل نهضتنا اللاحقة، فقد اختار الشيخ الثعالبي للحزب الذي أنشأه اسما يوحي بالحرية والدستور ليكون أكبر حركة تحرر في بلادنا، وكان من أكبر تحركات شعبنا ضد الإستعمار يتمثل في مطلب ديمقراطي ببرلمان تونسي.. ثم مضت عقود وشاءت الأقدار أن يخلص الحكم لدعاة الدستور لوحدهم، وكان الأمل يحدو الجميع في أن يكون دستورنا مثلا نفخر به، حاميا للحقوق والحريات، ومؤسسا لاجتماعنا ولتشاركنا في هذا الوطن ومن أجل هذا الوطن.. لكن بدا جليا أن الصراع نشأبين تصورين في فهم حاضر أمتنا ومصيرها. تصور ينطلق من الماضي ويبني مشروع المستقبل في الماضي وبأساليب الماضي... يبحث عمّا يجمع طوائف الشعب وشتاته في ماض مشترك ومذهب واحد وقيم واحدة وثقافة واحدة ورؤية أحادية وتجمع واحد وراء الزعيم أو الرمز الأوحد. تصوّر يسعى إلى تثبيت الواقع ويتغذى من الخوف من المستقبل ومن أن تسبب الحرية أو الديمقراطية من انفراط عقد الأمة أو انقسام الشعب أو انهيار الدّولة. لذلك لم يكن للدستور لدى أصحاب هذا التصور سوى قيمة رمزية، بل كل الأولوية عندهم كانت للأحادية ولثبات الأوضاع ولتواصل أركان النظام وللولاء المطلق لزعيمه.. ثم كان التصور الثاني والذي نتبناه، فقد انطلق من رؤية للمستقبل ضمن مشروع للمستقبل وباعتماد وسائل ومناهج المستقبل.. تصور يبنى على الأمل والثقة في النفس والعزم على بناء غد أفضل بدل خطاب الخوف والتخويف والإحباط والوهن. تصور يؤمن بحقوق الإنسان وكرامته وحريته، وبأن لا شيء يعلو عليها حتى ولو كانت مصالح أنظمة فيحق لها انتهاكها.. تصور يرى أن ما يجمع بين أطيافنا وتعدد مشاربنا وتوجهاتنا هو الرغبة في العيش المشترك ضمن قواعد مشتركة والأمل في بناء نموذج متقدم. تصور يؤسس لمجتمع متعدد وفاعل في حركة دائمة وحيوية متجددة،،، لا كما يريده أصحاب التصور الأول مجتمع أشبه بركوده بحياة من في القبور.. لذلك فقد اقتنعنا كما اقتنع غيرنا من قبلنا، أن وطننا نؤسسه بالتقاء الإرادة الحرة لأبنائه، وأنّ الدستور هو العقد الجامع بيننا والمنشئ لشراكتنا والمحدد لمفهوم المواطنة والمنظم لاجتماعنا والمؤسس لمؤسسات السيادة لدينا ولقواعد التعامل داخلها... وأنّ كل تحوير أو تغيير في نص العقد يلغي ما سبق ويؤسس لاجتماع جديد. لذلك كنا نأمل أن لا يقل حرصنا عن حرص من سبقنا من الأمم إلى الحداثة والتطور حين اعتبروا كل تحوير للدستور مؤسسا لجمهورية جديدة، وأخضعوه للشروط القاسية.. لذلك حين يقوم من تصدروا للأمانة في بلادنا ومن نسبوا لأنفسهم الانتماء إلى تجمع جعل الدستور من أسمائه إلى خرقه وانتهاكه في كل مرة، وحين يبادر من ادعوا حرصهم على الدستور إلى تحريك الغوغاء في مسيرات للدعوة لتحويره وتغييره كلما اقتضت مصلحة البعض فيهم ذلك. حتى أضحى دستورنا خرقة بالية لهم. وحين توشك المناشدات المتتالية والأخيرة أن تقوض آخر روابط الاجتماع بيننا وأن تدمر بدعوات تأبيد الحكام ما بقي من أطلال الجمهورية التي أنشأها عقدنا.. فإن الصمت يصبح محرما ، لأن في الصمت مشاركة في الجريمة..