أتذكر لحظات وداع اليوم الأخير حين غادرت تونس بتاريخ 18 رمضان 1992 , فيومذاك قبلت والدتي على جبينها مدركا أن مشوارا مؤلما سيبدأ في حياتي بمجرد مغادرتي لتراب وطن لم أتعود على فراقه منذ أن حللت روحا وجسدا بهذا الوجود ... كان يوما عصيبا ولحظات تهتز لها عروش من ألقى السمع والبصر والفؤاد وهو شهيد ... بكت والدتي لحظة المغادرة , وغادرتني كما غادرت الحياة الدنيا بعد سنوات قليلة متأثرة بمداهمات ليلية وفجائع البوليس السياسي وميليشيات حزب تعودت على ارهاب أفراد العائلة على مدار الليل والنهار ... غادرت والدتي الحياة الدنيا متأثرة بسرطان الكبد بعد أن أصابها من ويل نظام بن علي مايعجز اللسان عن وصفه ... قالت لي في آخر وصاياها وفي آخر لقاء : الله وعباد في كل بلاد ..., وأوصتني بالصبر على المكاره في مشوار مجهول كان سيقودني باتجاه السجن و التعذيب أو مرارات المنفى... انتقمت السلطة أيام مغادرتي بل قبيلها بأشهر , من أحد أشقائي بوضعه في السجن بعد أن اتهموه باطلا بالانتماء الى حزب سياسي محظور ..., ودامت رحلة عذابه ومعاناته الى حدود سنة 2000 حيث قضى خمسة أعياد وراء القضبان , بل انه وضع بالزنزانة حين أراد مرافقة والدتي رحمها الله تعالى الى مثواها الأخير ... ومع كل زيارة الى مسقط الرأس كان الشقيق يلزم من قبل البوليس السياسي بالامضاء ثمانية مرات في كل يوم عيد , لدى مقرات أمن بن علي ... والدي رحمه الله , والذي توفي مقهورا مغبونا على نفيي خارج حدود الوطن قبل أسبوع واحد من فرار الطاغية ..., عانى معاناة كبرى في السنتين الأخيرتين مع جلطة دماغية ومع تعقيدات صحية أخرى بعد اجرائه لعملية في مكان معقد وحساس ... تصوروا أنهم قطعوا خط اتصالي به على هاتفه المنقول , واستطاعوا قطع صلتي به لمدة شهرين تقريبا حين كان يلازم المصحات وغرف العمليات وفراش المرض ... ولكنه كان يسأل أفراد العائلة باكيا كلما ذكر اسمى أمامه , ليلح بعدها عليهم بالاتصال بي والاطمئنان علي بالاستماع الى صوتي ... كانت آخر مكالمة معه قبيل وفاته رحمه الله بأسبوعين , وامتزج فيها العجز عن النطق السليم بالدعاء والبكاء وأحاسيس الوداع لي ولهاته الحياة الدنيا ... ودعني والدي رحمه الله , 3 مرات : المرة الأولى حين اصطحبني الى مدينة قابس في آخر يوم لي على ترابنا الوطني , وكنت أغالبه الابتسامة والضحك عساي أخفف عنه قهر نظام مستبد قاده حاكم متأله , استخف قومه بعد أن ظن أنهم قد أطاعوه ... بكى حينها في صمت ولم أستطع عناقه بحرارة , مخافة تفطن أجهزة رصد طاغية مستبد ... أما الوداع الثاني فقد كان صبيحة الجمعة : 8 جانفي 2009 حين غادرت بيتنا باتجاه محكمة جائرة وضعتني وراء القضبان بمدينة صفاقس ... وقبلها بليلة كنت أروي له قبيل نومه بساعة قصة خداع وكذب سلطة لم يتغير عليها أي شيء بعد مرور 17 سنة من قصة نفي وعذاب ... وكان الوداع الثالث عبر الهاتف وقبل أسابيع قليلة من فرار بن علي , حين أحسست بأنها آخر مكالمة لي مع من أقول في حقه : ربي اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات يوم يقوم الحساب... أردت تعزية بعض أفراد العائلة عبر الهاتف في وفاة والدي , ولكن تخوف الكثيرون وأغلقوا خط الهاتف ... وزادت مرارتي وأدركت أن لحظات سقوط بن علي باتت وشيكة , فدعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ... كنت أدعو مستجيرا خاشعا خاضعا , أن يعجل بنهايته ونهاية مشوار عذاب لشعب وبلد عانيا كثيرا من حكمه الصنمي المتأله , فقد كانت صوره الضخمة تملأ كل زاوية وكل ركن حتى خلت أن في تونس آلهتين , واحدة مزيفة تعبد بالنهار- بن علي - , وأخرى حقة لايشرك بها حين يستجار بها في غسق الليل ... ولازلت أستعيد الذاكرة , بما فعله الطاغية بنا وبشعبنا , حتى مررت على صورة شقيقي الأكبر محمد - رحمه الله - , والذي توفي مقهورا حين صدمه القطار ذات صبيحة , وقد كانت معاناتي أكبر حين تذكرت رسالته لي قبيل أسابيع من وفاته , حين حدثني عن المرض والفقر والحصار والظلم وألوان أخرى من القهر ... تقلبت بي الأحوال في منفاي قبل أيام وبعد سقوط الديكتاتور المخلوع , وتذكرت كيف أنني غادرت البلد حاملا معي حقيبة ظهر , أعدت لي فيها والدتي رحمها الله لباسا فيه من كل زوجين اثنين ... وفي أسفل حقيبة الظهر أخفيت نسخ من شهائد علمية , ثم سرعان مازحفت بين الأسلاك الشائكة ونباح الكلاب وأضواء كاشفة تزحف على ظلام الليل لتحوله الى ساعة أخرى من ساعات القهر ... لم أفكر ساعتها في حقول الألغام الحدودية , ولا فيما يمكن أن يحدث لي حين أقع فريسة الكلاب في شريط حدودي معقد ... ثم التفت الى الذاكرة في برمجة معاصرة بعيد فرار الديكتاتور المخلوع , وتأملت في مشهد مغادرته دون حقيبة ولامتاع عبر الخطوط الجوية التونسية , فمن عز وجاه ومال وحرس وبطانة وسلطان , الى فرار مذل تناقلته كل تلفزات العالم ووكالات أنبائه... لم يتعظ حاكم تونس المخلوع من نصائح قدمتها له في عشرات المقالات حول مخاطر التمديد والتوريث وعاقبة الظلم والفساد , بل انه كان يظن أنه سيحكمنا حتى لحظة الموت , بعد أن يكون قد رتب انتقال السلطة الى زوجته أو واحد من أقاربه أو أصهاره ... مازلت أذكر حملته علي , على صفحات صحيفة "كل الناس" وموقع "بالمكشوف" ومواقع "الدايلي موشين" و"اليوتوب" ومونتاج الفيديوهات المخجل , لازلت أذكر أقلام سفهته وسحرته ومايمنعني الحياء من ذكره , ولم يكن ذلك الا قبيل شهرين أو ثلاثة من سقوطه ..., حين تصديت الى عرائض مناشدات التمديد له في دورة رئاسية جديدة سنة 2014 ... وللأمانة التاريخية , وقبل ليلة واحدة من سقوطه تلقيت رسالة تهديد بريدية , كان مضمونها ثلاث نقاط أتركها لذكائكم ... وتلك الأيام نداولها بين الناس ... لم يدم ظلمه وقهره لشعب أعزل يحب الحياة بعزة , حين وهب لها دماء الشهداء والجرحى وتضحيات سجناء الرأي وعذابات المنفيين ... لم يكن مشوار المنفى , مشوار اثراء لي على صعيد المال والممتلكات , فهاأنا أعود اليها فقيرا كما خرجت منها أول مرة ..., ولكن أحتسب أمام الله ثم أمام شعبي ماأصابني من أذى كما ماأصاب شعبا وبلدا بأكمله من قهر وخراب , في ظل اختزال الوطن في مناشدة كانت الطريق المباشر الى تفجير الثورة - لو كانوا يعقلون طبعا - ... رحم الله شهداء تونس الأبرار الذين سبقوا محمد البوعزيزي- رحمه الله - بعشرين سنة , حين قدموا أنفسهم فداء للفضيلة , ثم للشعب والوطن ..., فسطروا بذلك ملاحم لايمكن اختزالها في ثورة لم يكن عمرها 23 يوما بل 23 سنة ... سأعود الى تونس زائرا باذن الله , وليس لي ماأقدمه لها سوى رحيق أفكار ورؤى كانت تعتصرني ألما وبكاء ومرضا أحيانا بعد صحة ..., وقد أجهضوها حين قدمت لهم طوق نجاة سنة 2005 بدعوتي الى مصالحة وطنية حقيقية شاملة , وقد خاطرت نهاية سنة 2008 بالعودة الى الوطن حين كانت أحكام بعقدين من السجن تنتظرني - لولا لطف الله - ... سأعود قريبا باذن الله , داعيا الى التأسيس الى مرحلة جديدة قوامها العدل والحرية والكرامة والمساواة والمواطنة الحقيقية , وسأعود ان شاء الله , داعيا الى طي مجلدات من الغل والحقد والاقصاء والكراهية ..., لأن الوطن أكبر من آلامنا ولأن شعبنا أعاد تشكيل الوعي عربيا واسلاميا ودوليا , وأسقط أكبر مراكز البحث والدراسات الاستراتيجية وأكبر توقعات مراكز القرار والاستخبار , حين لقن الطغاة وحلفاءهم دروسا في السياسة والاستشراف المستقبلي ... سأعود متطلعا الى الغاء حكم الفرد وعبادة الأصنام وتأليه الزعماء , لأدعو كمواطن تونسي بسيط الى دولة جديدة , تتأسس على قيم الحق والقانون والحكم الرشيد ..., وأحسب أن الجميع قد فهم الدرس , فماأعظمها اليوم من أمانة وماأثقل حملها في الدارين ... ولم يبق لي في الأخير الا أن أتعجب حين يتداعى البعض على الكعكة كما يتداعى الأكلة على قصعتها ...! أريد أن أعود اليك بسيطا متواضعا , واقفا على قبر شهدائك ياوطني ...! أريد أن أعود اليك مترحما على روح والدي ووالدتي وشقيقي وبعض أقاربي أيها الوطن , فلتفسح لي , فلتفسح لي , فلتفسح لي...! حرره مرسل الكسيبي* بتاريخ 31 جانفي 2011 26 صفر 1432 هجري .