فى صباح اليوم الاول من سبتمبر 1969 علمت عن طريق الاعلام بوقوع الانقلاب او الثورة - اختر اي الأسماء ، فلا مشاحة فى الألفاظ اذا عرفت المعانى - 'وانا مازلت فى شقة اسكنها بزاوية الدهمانى .بمديتة طرابلس. تشاءمت كثيرا من مجرد وقوع انقلاب عسكري 'لانعرف من قام به ، ولا ندرى ما هي اهدافه وسياسته ، ومصدر التشاؤم أننى قرأت الكثير عما فعله مسلسل الإنقلابات فى بعض البلدان العربيه ' وما آلت اليه حال تلك البلدان من بؤس اقتصادي ' وكبت فكري ' وعجز سياسي . وقلت لنفسى ولآخرين الآن جاء الدور على ليبيا وعلينا الإنتظار لنرى ماذا سيحدث.... على كل حال ها هي ليبيا تصبح دولة جمهورية يحكمها العسكريون . عندما وقع الانقلاب ' كنت من الناحية الوظيفيه ' اعمل بصحيفة(العلم) وكان مقرها فى عمارة فى ميدان اغسطس بطرابلس . ومن خلال المتابعة ، ومن خلال موقعى الصحفى لاحظت ترحيب الشعب بالتغيير ،ولاحظت ان خطاب الضباط الأحرار يركز على الشعارات الوطنية والاسلامية ، ومنها تحرير ليبيا من التبعية للغرب ، وتحريم بيع وشرب الخمور ، وغير ذلك من الشعارات التى تعبر عن ثقافة المجتمع وتطلعاته نحو الحرية والعدالة والسيادة الوطنية . مواقف وفى اجواء تلك التغيرات وتلك التوجهات ، كانت لى مواقفى عبرت عنها فى مقالات كثيرة طرحت فيها ارائى فى عدد من القضايا ، نشرت بعض تلك المقالات فى صحيفة الثورة ، والبعض الآخر نشرته فى صحيفة الرائد ،كان هامش الحرية فى بداية التغيير هامشا معقولا ، وكنا نعبر فى الصحافة عن كثير من قناعاتنا مع شيئ من الحذر . ثم نشرت مجموعة من من تلك المقالات فى كتابى ( مواقف فكرية ) وفى مقالة لى بعنوان ( الحرية والوعي الاجتماعى ) نشرتها بصحيفة الرائد بتاريخ 12/ 7 /1389 هجرية قلت : ( وعندما تفجرت ثورة الأول من سبتمبر فى ليبيا كان شعارها الأول الحرية ، وهذا الشعار او هذا المبدأ الانسانى العظيم يتطلب من كل انسان ان يكون فى مستواه ، وان يقدر قيمة الحرية ، والحرية الاجتماعية فى تقديرى تحتاج الى اجواء وضمانات لكي تكون نابعة من ضمير الفرد ، وتلتقى فى وجدان المجتمع ككل .. الحرية ليست شعارا يكتب او يردد .. انما الحرية سلوك وخلق وموقف .. ولكي تتحول الحرية الى الى سلوك وخلق وموقف لابد من الوعي الاجتماعى ، ولابد من ضمانات لنجاح مبدأ الحرية .. لابد من حركة فكرية ناضجة يعبر من خلالها اهل الأفكار والأقلام عن حرياتهم بحيث يقفون عند حدود حريات الآخرين ، وبحيث تكون حرية كل انسان ليست على حساب انسان آخر . وهذا يحتاج الى ضمانات معينة ومحددة ، وهذه الضمانات يمكن ان يحددها التشريع الذى تختاره الدولة ، ويمكن ان يحدده الوعي الاجتماعى المتكامل والمتفهم لذلك التشريع . واننى كمواطن فى هذا المجتمع سأعتز دائما بموقف الأحرار حتى من اولئك الذين يخالفوننى الرأي بل ربما يخالفوننى المنهاج . وان بناء ليبيا الجديدة يحتاج الى جهود كل الفئات ، وكل الطاقات ، فبلادنا قليلة السكان ، ومتسعة الأرجاء ، والذى ارجوه ان تكون تجربة الثورة فى ليبيا تختلف عن كل التجارب الثورية التى مر بها العالم العربى .) ***** وفى صحيفة الثورة كتبت مقالا بعنوان ( البناء بعد الجلاء ) بتاريخ 17 ربيع الاول 1390 هجرية . وقلت فيه ( وها هو اليوم يعيش الشعب الليبى افراح الجلاء ، وها هي قاعدة ويلس كما سماها الاميركان تصبح قاعدة عقبة بن نافع كما سماها اصحاب الارض ، واصحاب القاعدة الشرعيون . لقد عاد الحق لأهله ولقد اختفى صوت ( هنا قاعدة ويلس ) الذى كان يتردد فى المذياع ، ويتردد فى الاذاعة المرئية التابعة للاجنبى . لقد دخلت ليبيا بعد اليوم الحادى عشر من يونيو مرحلة جديدة ، واصبحت ليبيا بدون قواعد اجنبية .. ومن هنا تكون بداية الشوط الجديد .. الشوط الذى يسقطعه شعب هذا القطر نحو البناء ونحو التقدم الحضارى . ان الذى نريده الآن هو ان تنصرف كل الجهود وكل الطاقات للبناء .. لقد اصبحت السيادة كاملة على الأرض الليبية ..وهذه السيادة لن تكون ذات معنى ، ولن تكون ذات قيمة الا اذا وجد الانسان الذى يعمل ويكدح من اجل العزة والكرامة والسيادة ) هذه المقالة موجودة فى كتابى ( مواقف فكرية ) وفى مقالة لى بعنوان ( لكي لا ينحرف الشعب بالثورة ) طالبت بوضع ضمانات عادلة عند محاكمة اي متهم من رجال العهد الملكى وجاء فيها : ( ان اي متهم من رجال النظام السابق يجب ان توفر له كل ضمانات المحاكمة العادلة ، وان توفر تكون هيئات للتحقيق وللمحاكمة والدفاع .. ورغم اننى لست قانونيا ولكننى اب وأود ان تظل هذه الثورة متميزة عن كل تجربة الثورات العربية الأخرى .. ولقد كانت منذ الساعات الولى متميزة ، ونرجوا ان تحافظ على هذا التميز ، ومن بين ما يمكن ان تتميز به هو تحقيق كل الضمانات العادلة فى محاكمة المتهمين ، ويكون ذلك باختيار هيئات التحقيق والمحاكمة من الرجال النزيهين الأكفاء ، وان تضمن كذلك حق الدفاع لكل متهم بكل الوسائل القانونية المشروعة ...وانهيت المقالة بجملتين : ان اعظم الرجال من يشعر الآخرين بانهم عظماء .. وان احط الرجال من يشعر الآخرين بانهم منحطون ) نشرت هذه المقالة بصحيفة الرائد 22 /7 / 1389 هجريه . وموجودة فى كتابى ( مواقف فكرية ) الطبعة الأولى 1971 دار الفتح بيروت - لبنان مقالات كثيرة اخرى كتبتها اشيد بكل خطوة ايجابية وصحيحة ، كما كتبت مقالات احذر فيها من خطر بعض الافكار والاتجاهات الغلط ، وكلها موجودة اما فى الصحف ، مثل صحيفة الثورة ، الرائد ، وبعضها فى كتابى ( مواقف فكرية ). * * * من طبيعة الانقلابات العربيه ' ومن فساد سياساتها ان تعمل على الغاء كل او جل اعمال من سبقها ولو كانت تلك الأعمال تاريخية وجيده، والتى هي ملك للشعب وللوطن وليست للأشخاص ولا للنظم السياسية الزائله بفعل سنن التغيير ' وسنن الشيخوخة والفناء . وانطلاقا من هذا المفهوم ' الغيت كل الصحف السابقه ' واصدر النظام الجديد صحيفته وسماها (الثوره) واستأنف جميع الصحافيين عملهم فى الصحيفة الجديده لبضعة شهور . اما بالنسبة لى فقد واصلت عملى بها لمدة لا تزيد عن اربعة شهور'. خلال تلك الشهور الاربعه كتبت ونشرت سلسلة من المقالات الفكريه ' السياسيه ' والاجتماعيه والثقافية ' وعبرت عن آرائ وعن قناعاتى ' كما كنت افعل فى صحيفة العلم وصحف ليبية اخرى . وبالتأكيد لم تكن مقالاتى تلك موضع ترحيب او قبول من بعض الحكام الجدد ' كما كان لؤلئك الحكام الموقف نفسه مع صحافيين آخرين ' واتخذ قرار بنقلنا الى ادارة الخدمة المدنيه ' تمهيدا لوظيفة اخرى ' او للإستقالة ' او للتقاعد الذى جرى التشجيع على قبوله. اخطر القرارات اخطر القرارات بشأن الصحافة ، وحرية التفكير والتعبير ، ومسألة الأحزاب تمت منذ عام 1972 عندما صدر (قانون تجريم الحزبية ) وجاء فيه (الإتحاد الاشتراكى العربى هو التنظيم الشعبى السياسى الوحيد فى الجمهورية العربية الليبية... والحزبية خيانة فى حق الوطن .... وعقوبتها الاعدام ....) وفى العام ذاته تم منع الصحف الخاصة من الصدور ، ومنعت النقابات من حق التظاهر . ومنذ تلك المرحلة ، واجوائها المخيفة توقفت اقلام كثيرة ، وصمتت اصوات كثيرة كانت تملأ المنابر بخطبها الوطنية الحماسية ، وعن كل خطيب يصدق قول الشاعر الثائر ابوالقاسم الشابى: كلما قام فى البلاد خطيب موقظ شعبه يريد صلاحه ألبسوا روحه قميص اضطهاد فاتك شائك يرد جماحه أخمدوا صوته الإلهي بالعس ف ، أماتوا صداحه ونواحه وتوخوا طرائق العسف والإر هاق توا ، وما توخوا سماحه هكذا المخلصون فى كل صوب رشقات الردى اليهم متاحه ***** فى ذلك الوقت كان صديقى محمد رمضان هويسه ' يعمل فى التجارة والمقاولات ' وبدأ يتوسع فى نشاطه الخاص وعرض علي ان أشاركه فى العمل ' بحيث اتولى مركز المدير الإدارى للمؤسسه مؤسسة هويسه للتجاره والمقاولات . واتفقنا على ذلك . بعد سبع سنوات من التعامل مع الكلمة والفكرة ' والعمل الإذاعى والصحفى ' فرضت علي الظروف السياسية الجديدة فى البلاد ان أغير مهنتى التى بدأت بها حياتى العمليه ' وكنت احبها واتفاعل معها ' وانتقلت الى ميدان آخر ' ليس لى به صلة من قبل ' وليس لدي الاستعداد الكامل للتعامل مع تفاصيله اليوميه . ولكن لابد من اقتحامه ' وصحبة محمد هويسه ' وما يتمتع به من خصال وانتخاء كفيلة بتذليل كل الصعوبات.... فى تلك المرحلة من مهنتى الجديدة ،وبعد سنة تقريبا من العمل فى ذلك القطاع شعرت بالضيق وعدم الانسجام مع شروطها وما تنطوى عليه من متاعب ، خاصة التعامل مع العمال وهم من مختلف البلدان العربية ، ثم التعامل مع ادارة الميناء واستقبال مواد البناء المستوردة ومنها الأسمنت والحديد ... وبعد ذلك التعامل من مؤسسات الحكومة صاحبة المشاريع ، او المؤسسات المصرفية، دعا النظام الى اجراء انتخابات لعضوية مجلس الأمة الاتحادى الذى يجمع بين مصر وسورية وليبيا ، وتتكون عضويته من ستين عضوا مقسمة بالتساوى بين البلدان الثلاث ، وقررت الحكومة قبيل يوم الاقتراع بنحو عشرة ايام او اقل ان يكون المرشح حاصلا على الأقل على الشهادة الثانوية ، فقلت لماذا لا اذهب الى بلدتى الزنتان وارشح نفسى لعلها تكون فرصة مواتية للإنتقال من ميدان العمال والاسمنت والحديد الى ميدان النيابة والسياسة من منبر مركزه القاهرة وما لها من مكانة فكرية وسياسية .. وفعلا خضت معركة الدعاية الانتخابية لمدة اسبوع او خمسة ايام ، وتنقلت من يفرن شرقا الى اغدامس غربا خلال تلك الأيام القليلة ، وكنت المرشح الوحيد من الزنتان ، لكن الأمور لم تكن ملائمة ولم افز فى الانتخابات ، وكان ترتيبى الثانى ، وصوت لى قرابة اربعة آلاف لا اتذكر الرقم الصحيح بينما الفائز حصل على اكثر من اربعة آلاف ، وبعد انتهاء الانتخابات عدت الى موقعى بمؤسسة هويسة . تواصل العمل فى هذا المجال قرابة ثلاث سنوات ' كانت مليئة بالنشاط فى المكتب الواقع فى شارع عمر المختار فى قلب مدينة طرابلس 'وفى مواقع مشروعات البناء 'ومواد البناء ' فى الزاويه ' وفى غريان ' وفى طرابلس ' وفى جبل ترهونه ' وفى اجراء الإ تصالات والمفاوضات مع المؤسسات ذات العلاقة بتلك المشروعات . كان المرحوم محمد هويسه صاحب طموح كبير بأن يصبح من رجال الاعمال الكبار ' وكان يشارك فى عطاءات تصل تقديراتها الملايين ....وتمكنت خلال تلك السنوات من بناء منزل لى بالزنتان الجديدة وتسمى المنطقة ( حريبة ) وفى مكان يقع وسط المنطقة التجارية ، وهو المنزل الذى هدمه النظام الحاكم يوم 16 مايو 1984 بسبب معارضتى السياسية ، ونشر خبر التهديم فى صحيفة الفجر الجديد الصادرة يوم 17 مايو 1984 وهي احدى صحف النظام . خطاب زواره واعتقالات المثقفين وبينما نحن فى خضم ذلك العمل والنشاط العمرانى والاقتصادى ' جاء خطاب زواره فى ابريل سنة 1973 ليضع نهاية مؤلمه لا لتلك المشروعات وتلك الطموحات فحسب ' ولكن ليضع نهاية لحريتنا وحقوقنا الإنسانية . ومنذ ذلك الخطاب دخلت ليبيا فعلا فى النفق المظلم ' حيث ترتب على ذلك الخطاب ' تعطيل كافة القوانين المعمول بها فى البلاد ' وإعلان ما سمي بالثورة الثقافيه ' والثورة الاداريه ' وكان اول ضحايا تلك الثوره مجموعات من العلماء والمفكرين والمثقفين والادباء والخطباء والشعراء ' ومن مختلف التيارات الفكرية والسياسية 'الذين اعتقلوا من بيوتهم او من مكاتبهم او من الجامعة ' وزج بهم فى سجون طرابلس وبنغازى ' واتهموا جميعا (بالحزبيه) اي انهم اعضاء فى تنظيمات محظوره طبقا لقانون تجريم الحزبيه ' وعقوبة تلك التهمة الاعدام . وقد صدر هذا القانون سنة 1972 م . شملت تلك الاعتقالات مجموعات وجهت اليها تهمة الإنتماء الى) : (الاخوان المسلمون) (حزب التحرير الاسلامى) (الشيوعيون الماركسيون ' او الاشتراكيون العلميون) (الشيوعيون التروتسكيون) (مجموعة الجبل ' وهم من البربر الإباضيه) وافراد آخرون ' سجنوا لأسباب وتهم اخرى ' ولكنها سياسيه. كانت التهمة الموجهة ضدى الانتماء الى تنظيم (الاخوان المسلمون) ' وتعرض جميع المعتقلين بطرابلس منذ الأيام الاولى للتعذيب ، وذلك قبل معرفة اسمائهم او التهم الموجهة اليهم ، ثم جرى التعذيب اثناء التحقيق وهو تعذيب بدنى ' وتعذيب نفسى معنوى ' واستمر ذلك التعذيب لمدة ثلاثة شهور تقريبا . وادلينا باعترافات تؤكد حقيقة وضع تيار الاخوان ' كما بينته فى الصفحات السابقه ' اي انه لم يكن هناك تنظيم قائم عندما وقع الإنقلاب' ولم يحدث اي جديد بشأنه بعد وقوع الانقلاب ' الا ان هذا التيار كان متحفظا فى تاييده لحركة الانقلاب . كان عدد الذين سجنوا من تيار الاخوان والمتعاطفين معهم حوالي ثلاثين شخصا فى طرابلس والمدن المجاورة لها مثل الزاويه ' صبراته ' غريان .....أما فى بنغازى فكان عددهم بضعة اشخاص ' جلهم اعتقلوا بعد تحقيقات طرابلس ' ونقلوا فيما بعد الى طرابلس . عندما تورط النظام فى عملية اعتقال الاخوان ' ولم تؤكد التحقيقات وجود تنظيم قائم ' أصرت السلطات ان تخرجه اخراجا مناسبا يعطى دليلا على صدق العقيد القذافى الذى كرر فى خطبه ' وجود تنطيم للاخوان فى ليبيا لأنه يعرف عناصر منهم فى الماضى . وتمشيا مع ذلك ' أكرهت المجموعة القيادية سابقا على ان تدلى باعترافات تذاع عن طريق وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمطبوعة . علمنا فيما بعد ان ضغوطا كثيرة ' من شخصيات ليبيه ' واخرى اسلاميه من خارج ليبيا ' قد مورست مطالبة باطلاق سراحنا . وبعد اكثر من سنة تقريبا القى العقيد القذافى خطابا فى مؤتمر التنظيم الاشتراكى العربى ' حزب الدوله ' واعلن فيه ' اطلاق سراح الاخوان على ان يشتغلوا للاسلام من خلال جمعية الدعوة الاسلاميه ' وان يرحل بعضهم خارج ليبيا ' وان يدعوا للاسلام ' فى بلدان اخرى فى افريقيا وآسيا ، او اي بلد آخر ، المهم ان يخرجوا من البلاد . ونفذ هذا القرار بعد ان قضي بعضنا فى السجن قرابة سنتين ' وقضى آخرون مددا اقل من ذلك. من خمسة دقائق الى عامين يقدر عدد الذين اعتقلوا فى تلك الحمله بطرابلس بحوالي مأتي شخص ' منهم الشيوخ ومنهم الشباب ' منهم العلماء والمثقفون' ومنهم طلاب الجامعات والمدارس الثانويه . نعود الى ذكر طريقة الاعتقال التى اتبعت معى ' بينما كنت فى مكتبى بشارع عمر المختار فى طرابلس 'دخل احد ضباط المباحث ( جهاز امنى ) وطلب منى باسلوب مهذب انه يريد الحديث معى على انفراد لأنه كان معى بعض العاملين بالمؤسسه ' فدخلنا الى مكتب الاخ محمد هويسه ' الذى لم يأت بعد ' وقال بلغة مهذبة كذلك ' نريد منك ان تذهب معنا لمدة خمسة دقائق الى المباحث العامه ' وادركت على الفور اننى ساعتقل ' كان ذلك الحدث فى اليوم السادس عشر من شهر ابريل 1973 ' وكنت على علم ان حملة الإعتقالات قد بدأت إثر خطاب زواره يوم 15 ابريل ' وكنا حذرين من موقف السلطة العسكرية ' ولكن لم نكن متأكدين من امر الاعتقال ' لأننا كما اكدت سابقا ' لم نكن اعضاء فى تنظيم قائم . قبل ان اخرج مع ضابط المباحث قلت لاحد العاملين فى المؤسسه ' اذهب الى صهرى ' محمد العيادى فى دكانه المجاور للمكتب ' واخبره باحتمال ألا اعود واننى ذاهب الآن مع احد ضباط المباحث وان هناك اعتقالات فى البلاد. ثم خرجت مع ضابط المباحث ' وركبنا فى سيارة فولكس فاجن ' كانت تنتظر بسائقها فى الشارع امام المكتب ' واتجهنا الى مبنى المباحث العامه ' ويقع قريبا من مسجد مولاي محمد فى وسط طرابلس . بقيت بضع دقائق لاحظت فيها حركة غير عاديه ' ورايت دخول معتقلين آخرين من بينهم عبد الرزاق ابوحجر . بعدها جاءنى ضابط آخر وقال لى سنتوجه الآن الى بيتك ' وهذا يعنى تفتيش البيت للحصول على اية وثائق ادانه ' وكان هذا الضابط وهو الآخر يتصرف باسلوب مهذب ' ودخلنا بيتى الذى لم يكن فيه احد ' كان ذلك فى الصباح وزوجتى وابنتى هناء فى المدرسه . قام الضابط بتقليب بعض الكتب فى مكتبتى بطريقة عاديه ' وبدون اية استفزاز . تركتهم فى المكتبه ' وقلت للضابط ' يبدو ان الغياب سيطول ولذلك اريد تغيير ملابسى ' ودخلت الى غرفتى ' وخلعت بدلة العمل ' ولبست ملابسى الوطنيه ( الحولى ) من الاشياء الطريفة التى وقعت خلال قيام الضابط بتقليب الكتب الموجودة فى الصالون وجد ورقة بها قصيدة للدكتور عمرو النامى ' وفى القصيدة نقد للرئيس عبد الناصر ' الا ان ذلك الضابط ' تركها او نسيها ' وكانت يمكن ان تستعمل اثناء التحقيق ضده ' لأن بعض ضباط التحقيق كانوا سيئين ويبحثون عن اي شعرة لإدانة المعتقلين ' اما بعضهم الآخر فكانوا عقلاء ' ويتصرفون بحذر ويحاولون عدم الاساءة الى المعتقلين . بعد الانتهاء من زيارة البيت ' اخذ الضابط مجموعة صغيرة من الكتب الاسلاميه ' لكبار كتاب الاتجاه الاسلامى الحديث من امثال سيد قطب . وعدنا من جديد الى مبنى المباحث ' ثم اخذونى الى مركز شرطة ميناء طرابلس . فى حديثى مع الضابط الذى ذهب معى الى البيت ' عرفت انه من غريان . فى مركز الشرطه تعرفت على احد عناصر الشرطه من الزنتان ' وطلبت منه ان يتصل باحد اقاربى ليبلغه عن مكان وجودى . بقيت فى مركز الشرطه يوما او يومين ' وكان معى احد طلبة الجامعه ' ثم جرى نقلنا الى السجن المركزى بطرابلس ويسمى كذلك( الحصان الاسود). منذ ان دخلنا السجن ' انقطعت اى علاقة لنا بما هو خارج اسوار السجن وعنابره وزنزاناته ' وبدأت منذ اليوم الأول عملية التعذيب وقبل معرفة حتى الأسماء ' مع كافة المعتقلين ' وهي عملية هدفها الأساسى اذلال تلك النخبة من العلماء والمثقفين والطلبه . ومارس التعذيب جنود اجلاف من الجيش . كان المعتقلون فى غرف كبيرة تسمى(عنابر ) فى كل عنبر يوجد ستة او ثمانية اشخاص ' وطوال الاسبوع الأول ظلت تلك المجموعات معزولة عن بعضها البعض . وبعد ذلك فتحت تلك العنابر ' وعرف كل واحد ابعاد حملة الإعتقالات ' والوجوه والاسماء والاعداد وبدأت المناقشات همسا وعلانية حول ما جرى ' وحول احتمالات المستقبل . ثم جاءت الفترة الحرجه والصعبه ' وهي فترة التحقيق الذى استمر مع بعض المجموعات حوالي ثلاثة شهور ' تتخله ايام يتوقف فيها التحقيق ' تعرض الاسلاميون فيها الى انواع من التعذيب وخاصة (الفلقه) وتعنى ضرب الأرجل بالعصي .والحبس الانفرادى . فى الحبس الانفرادى كنت مجاورا لكل من عبد العزيز الشلحى الذى اعتقل منذ بداية الانقلاب وعبد الحميد البكوش ومحمد هويسه ومحمد احمد البشتى ' وكنا نجرى احاديث متواصله كلما ابتعد حارس تلك الزنزانات عبر فتحات صغيرة توجد فى الجانب السفلى من كل زنزانة . كانت الاحاديث تتناول شتى القضايا والمواضيع فى السياسة والأدب وفى آخر الاخبار ' اخبار السجن والمسجونين ' واخبار التحقيق ' وكنا نستمع الى الشعر من عبد الحميد البكوش ' ونستمع الى الشعر الذى يحفظه محمد احمد البشتى. ***** قضيت حوالي شهر فى الحبس الانفرادى(الزنزانه)كانت من اسوإ ايام السجن،ثم عدت الى العنبربعد ان قارب التحقيق ان ينتهى مع مجموعة الاخوان.كان من الطبيعى ان تتبادل كل مجموعة ماذا جرى مع كل واحد،وماذا سئل،وماذا قال،وكيف كان التعامل معه،ومن هو الضابط الذى حقق معه.كان الضابط الذى تولى مسئولية التحقيق مع المجموعه يدعى ،مفتاح سنان، وقد استخدم القسوه فى كل فترات التحقيق. استمرت عملية التحقيق قرابة ثلاثة شهور، وكانت تلك الشهور الثلاثة من اكثر فترات السجن سوءا،وخاصة بالنسبة للاخوان ولحزب التحرير. بعد ان انتهت عملية التحقيق مع كل المجموعات،وتوقفت عمليات التعذيب البدنى والنفسى، جرت بعض التغييرات فى اوضاع المعتقلين،حيث تم اطلاق سراح بعضهم،وتم نقل الآخرين الى عنبر آخر وتقسيمهم على غرف ، فى كل غرفة ما بين ستة الى عشرة اشخاص.وتغيرت المعاملة الى وضع افضل من السابق،فسمح لأقارب المعتقلين بالزيارات الاسبوعيه،وباحضار انواع الاطعمه والملابس والكتب والمجلات واجهزة الراديو. واحضرت ادارة السجن او المباحث العامه جهاز تلفزيون.اما فى رمضان فقد سمح بإحضار الطعام من البيوت للمعتقلين يوميا. . فى تلك الظروف تم نقل مجموعة من المعتقلين فى بنغازى الى السجن المركزى بطرابلس ، وكان من بينهم د محمد المفتى الذى تعرفت عليه لأول مرة ، واكتشفت من ثقافته وقدراته الفكرية ودماثة اخلاقه شخصية جديرة بالاحترام والتقدير ، وكان للمكان والزمان دورا مهما فى نمو العلاقة بيننا ، وصار الحوار العقلاني يبنى جسورا متينة للتواصل بل للصداقة والمودة والاحترام . والمفتى اليوم مايو 2006 احد المفكرين الليبيين اللامعين ، وقد اعطى وما زال يعطى بقلمه السيال الكثير من الأعمال فى كتبه ومقالاته الماتعة ، وهو صاحب نهج متميز ، يجمع فيه بين التاريخ والاجتماع والجغرافيا والتراث ، ويصيغ افكاره بمفردات جذابة ولغة سهلة مريحة ، تشد القارىء الى النص ، وتترك أثرها الواضح ، فيحدث التفاعل بين الكاتب ،والمتلقى وتلك هي خاصية الكاتب المبدع . . القراءة والكتابة بالسجن فى هذه المرحله،وضعت لنفسى اسلوبا خاصا للتعامل مع هذه الظروف الجديده،وللتعامل مع الوقت وكيفية توظيفه توظيفا مفيدا'وبدأت استثمر الوقت فى القراءة والكتابة'وكان من ثمارها دراسة نشرتها فيما بعد بعنوان(أقباس على طريق الشباب)وقد صدر منها ثلاث طبعات،ولقيت تجاوبا جيدا،واعتبرت من الدراسات القليله التى تناولت موضوع الشباب،وقد شرحت فى مقدمة الطبعة الثالثه ظروف واسباب إختيار الموضوع،وكيف نشرت طبعته الأولى فى ليبيا،ثم كيف صودر ومنع توزيعه وبيعه.فى نفس الوقت اتجه بعض المعتقلين الآخرين الى القراءة والكتابة،نثرا وشعرا،وفى مقدمة هاؤلاء الدكتور عمرو النامى الذى كتب كتابه (ظاهرة النفاق فى إيطار الموازين الإسلاميه) كما كتب عددا من القصائد ونشر بعضها فيما بعد فى مجلات تصدر فى خارج الوطن . من المهم الإشارة الى أن الإعتقالات جرت بدون أية اجراءات قانونية ولو شكليه، وبعد فترة طويلة فى السجن اعيد التحقيق مع المعتقلين من قبل ما سمي فى ذلك الوقت باللإدعاء العام،وكان يرأسه السيد حسن بن يونس، ثم جرت محاكمة صورية سريعة من قبل القضاء العادى،بموجبها صدر حكم بإطلاق سراح كل المعتقلين،وتم ذلك الإجراء بعد عشرين شهرا من الحبس غير القانونى. ومن التصرفات الظالمه التى حدثت فى نفس يوم الإفراج عن المعتقلين،ملاحقة مجموعة حزب التحرير،ومجموعة التروتسكيين وآخرين من الذين كانوا ضمن المفرج عنهم،وتم إرجاعهم الى السجن المركزى بطرابلس،وبعضهم أرجع بعد وصوله الى بيته وفى غمرة الإحتفال بقدومه. وبعضهم تم اعدامهم فيما بعد وهم من حزب التحرير. منذ تاريخ الافراج عنا فى ديسمبر 1974 واكراه بعضنا على الذهاب للعمل بجمعية الدعوة الاسلامية اصبحت افكر فى المستقبل وكيف يجب ان اتصرف للتعامل مع التطورات السياسية الجارية فى البلاد .... ولتلك صفحات اخرى من رحلتى مع الناس والأفكار . جولة فى افريقيا فى عام 1976 قمت انا ومجموعة من الزملاء بجولة فى القارة الافريقية كوفد اسلامي من جمعية الدعوة الاسلامية ، وتوجهنا جوا من طرابلس الى الجزائر عابرين منها الى موريتانيا ، ومنها الى داكار عاصمة السنغال ، ثو توجهنا الى تومبكتو ، فغامبيا ، وكوناكرى عاصمة غينيا، ومنها الى ليبريا ثم الى فرىتاون عاصمة سيرليون ، ثم الى لاجوس عاصمة نيجيريا ، وبعد ذلك زرنا التوج ثم غانا ، وطلبنا تاشيرة لزيارة ساحل العاج فرفض طلبنا .... لأول مرة زرنا تلك البلدان والتقينا بالمسئولين عن عدد من الجمعيات الاسلامية الموجودة بها لبحث ظروفهم والصعوبات التى تحول دون نشر التعاليم الاسلامية . كان الجميع يتطلع الى الحصول على مساعدات ماليه ولم تكن معنا اية اموال نقدمها ولو فى الحد الأدنى ، انها جولة استطلاعية فقط ... كانت الجولة مفيدة من حيث الاطلاع على واقع تلك البلدان وواقع المسلمين فيها ، وكان الواقع يعكس الفقر والجهل والتخلف فى كل شيئ ، وواقع المسلمين ربما الأسوا حيثما حللنا .. ومن الصدف عندما وصلنا الى لاجوس وكان معى على ابوقرين ، ورمضان خبيزه ، وقع انقلاب عسكري بعد يومين تقريبا من وصولنا فشلت الحركة تماما ، وبقينا بين هوتيل الاقامة وبيت السفير وهو من عائلة الشريف الطرابلسية ، وكانت اسرته من الاسر المهاجرة الى نيجريا ، فكان كريما ومجاملا ، وظلت تلك الحال نحو اسبوع ، وفور فتح المطارات سافرنا .... بعد انتهاء تلك الجولة التى استغرقت اكثر من شهر عدنا عن طريق القاهرة ، ومرة اخرى صادفتنا الاضرابات الشهيرة التى نظمت احتجاجا على ارتفاع المعيشة فى مصر والتى سماها السادات انتفاضة الحرامية ، ولاحظنا الحجارة فى الشوارع والتى استعملت لقذف السيارات والمبانى ، فاحدثت اضرارا جسيمة بالممتلكات . وانتهت رحلتنا وعدنا الى طرابلس بحصيلة من المعلومات عن احوال المسلمين فى تلك البلدان ، وقد كانت احوالهم بائسة وسيئة ويحتاجون الى برامج مدروسة لمساعدتهم . عندما عدنا الى ليبيا كانت التطورات توحى بمزيد من الصعوبات وخاصة بعد الاعدامات التى نفذت فى نحو اثنين وعشرين ضابطا اتهموا بالاعداد لمحاولة انقلابية بقيادة عمر المحيشى . بعدها اصبحت افكر جديا فى مغادرة البلاد ولو لفترة سنة او سنتين حتى تتضح التطورات السياسية ، وفعلا غادرتها فى اغسطس عام 1978 ولم يخطر ببالى ان تطول رحلتى تلك الى هذا اليوم 31 اغسطس 2006 . خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها *