ظلت علاقة نجيب محفوظ والنقد غائبة فى سنوات ابداعه الاولى خاصة فى الفترة التى اصدر فيها روايتيه "عبث الاقدار" 1939، و"رادوبيس" 1942، ومن قبلهما مجموعته القصصية الاولى "همس الجنون" التى صدرت عام 1938. وكان من الممكن ان يستمر تجاهل الحياة الثقافية-ببعدها النقدى-لأعمال ذلك الشاب صاحب التجربة الوثابة حتى فى كتابته للرواية التاريخية والتى اعتبره مجددا فيها على اكثر من مستوى وان ظهر تأثره بمنحى الكتابة فى تلك الفترة لولا مقالة نقدية كتبها الناقد سيد قطب عن رواية "كفاح طيبة" التى صدرت عام 4491عن "دار النشر للجامعيين" اعلن فيها قطب والذى كان يعده البعض فى ذلك الوقت التلميذ الانجب فى مدرسة العقاد الادبية عن ميلاد روائى يملك ناصية الكتابة وتحريك الحدث الروائى باقتدار، وهذا ما أعلنه قطب فى مقدمة مقاله حيث يقول: احاول ان اتحفظ فى الثناء على هذه القصة فتغلبنى حماسة قاهرة لها، وفرح جارف بها! هذا هو الحق، أطالع به القارئ من اول سطر، لأستعين بكشفه على رد جماح هذه الحماسة، والعودة الى هدوء الناقد واتزانه!! ولهذه الحماسة قصة لا بأس من اشراك القارئ فيها: لقد ظللت سنوات وسنوات اقرأ ذلك التاريخ الميت الذى نتعلمه فى المدارس عن مصر فى جميع عصورها، والذى لا يعلمنا مرة واحدة ان مصر هذه هى الوطن الحى الذى يعاطفنا ونعاطفه، ويحيا فى نفوسنا وأخلادنا بحوادثه وأشخاصه، وظللت أستمع الى تلك الاناشيد الوطنية الجوفاء التى لا تثير فى نفوسنا إلا حماسة سطحية كاذبة لانها لا تنبع من صلة حقيقية بين مصر وبيننا، وإن هى الا عبارات صاخبة، تخفى ما فيها من تزوير بالصخب والضجيج . ويضيف قطب: وكنت أرى الطابع القومى واضحا بجانب الطابع الإنسانى فى آداب كل أمة، ولا سيما فى الشعر والقصيدة، بينما أرى الطابع المصرى باهتا متواريا فى أعمالنا الفنية مع بلوغها درجة عالية تسلك بعضها بين أرقى الآداب العالمية، وكنت أعزو هذا اللون الباهت الى ان مصر القديمة لا تعيش فى نفوسنا، ولا تحيا فى تصوراتنا، إلى أننا منقطعون عن هذا الماضى العظيم لا نعرفه، ولا نتمثله صورا ووشائج حية الى اننا نفقد من تاريخنا المجيد حقبة لا تقل عن خمسة آلاف سنة من الفن والروح والعواطف والانفعالات . إلى ان يصل الى الحديث عن رواية "كفاح طيبة": واليوم أتلفت فأجد بين يدى القصة والملحمة كلتاهما فى عمل فنى واحد فى "كفاح طيبة" فهى قصة بنسقها وحوادثها، وهى ملحمة وإن لم تكن شعراً ولا أسطورة بما تفيضه فى الشعر إلا الملحمة. هى قصة استقلال مصر بعد استعمار الرعاة على يد أحمس العظيم قصة الوطنية المصرية فى حقيقتها بلا تزيد ولا ادعاء، وبلا برقشة أو تصنع، قصة النفس المصرية الصميمة فى كل خطرة وكل حركة وكل انفعال . وحول الأسلوب الفنى للرواية يقول قطب: ولم يكن الشعور القومى وحده هو الذى يصل نبضاتى بنبضات أبطال القصة، بل كان الطابع الإنسانى الذى يطبعها، والتنسيق الفنى الذى يشيع فيها، هما كذلك من بواعث إحساسى بصحة ما يجرى فى القصة وكأنه يجرى فى الواقع المشهود، بكل ما فى الواقع من عقد فنية، وعقد نفسية، ينسق المؤلف مواضعها بريشة متمكنة ويد ثابتة، تبدو عليها المرونة، والثقة بمواقع التصوير والتلوين . ويختتم قطب مقاله قائلا: ولقد قرأتها وأنا اقف بين الحين والحين لأقول: نعم هؤلاء هم المصريون، إننى اعرفهم هكذا بكل تأكيد، هؤلاء هم قد يخضعون للضغط السياسى والنهب الاقتصادى ولكنهم يهبون حين يعتدى عليهم معتد فى الأسرة أو الدين هؤلاء هم المصريون الخالدون، هؤلاء هم ثقة عن يقين. لو كان لى من الامر شيء لجعلت هذه القصة فى يد كل فتى وكل فتاة، ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان، ولأقمت لصاحبها الذى لا اعرفه حفلة من حفلات التكريم التى لا عداد لها فى مصر، للمستحقين وغير المستحقين! . الرواية الواقعية ويمكننا هنا ان نضيف الى ما قاله سيد قطب: ان هذه الرواية التاريخية التى مثلت المرحلة الاولى فى الكتابة الروائية لدى محفوظ كانت بمثابة العتبة الاولى للرواية الواقعية التى صار عميداً لها واظن انه رغم وجود بعض الهنات السردية بها كانت بمثابة لحظة لاختبار الماضى ليكون رمزاً للحظة الراهنة، بمعنى ان هذه الروايات الثلاث كتبت فى مرحلة تاريخية مهمة، فى فترة الحرب العالمية الثانية، حيث كانت كثير من دول العالم التى اثقل كاهلها الاستعمار والاستبداد السياسى بدأت تسعى جاهدة لنيل حريتها، ومنها بالتأكيد مصر، فكانت ضرورة فنية للبحث عن لحظات مضنية من النضال والمقاومة فى خضم التاريخ المصرى العظيم. يعضد ما ذهبنا اليه ان اولى روايات محفوظ بعد تلك المرحلة كانت رواية "القاهرةالجديدة" 1945، وكأن محفوظ اراد ان يقول لنا انه دخل الى الواقع محصنا بتاريخ شعبى يكمن فى أفق المخيلة وباستطاعته ان يتفجر فى اللحظة كما تفجر فى البنية التراثية الممهدة لها. وليس عجيبا ان نرى سيد قطب من أكثر المتحمسين للتوجه الجديد فى الكتابة عند محفوظ فنراه ينشر مقالا فى مجلة "الرسالة" عن الرواية مشيدا ببنائها ويعتبرها فتحا جديدا فى الرواية العربية حيث يقول: على النقد اليقظ لولا غفلة النقد فى مصر أن يكشف ان اعمال نجيب محفوظ هى نقطة البدء الحقيقية فى إبداع رواية قصصية عربية أصيلة، فلاول مرة يبدو الطعم المحلى والعطر القومى فى عمل فنى له صفة إنسانية، فى الوقت الذى لا يهبط مستواه الفنى عن المتوسط من الناحية الفنية المطلقة، فهو من هذه الناحية الاخيرة يساوى أعمال توفيق الحكيم فى التمثيلية . ويضيف قطب: ان هذه الرواية على ما فيها من براعة فى العرض ومن قوة فى التصوير تصوير النماذج وتصوير المجتمع وتصوير المشاعر والانفعالات هى اصغر من قيمتها الانسانية وتبعاً لهذا فى قيمتها الفنية من سابقتها "خان الخليلي".. رواية "خان الخليلي" اضيق فى محيطها الداخلى ولكنها اوسع فى محيطها الخارجى . وبمثل اهتمام سيد قطب بأعمال نجيب محفوظ، كان الأخير أيضا، مهتما بمتابعة ما يكتبه الأول من أعمال نقدية وفكرية خاصة فى مرحلة ما قبل التحولات العاصفة لديه، وهى المرحلة التى يقول عنها محفوظ فى شهاداته مع رجاء النقاش: ميز سيد قطب فى تلك المرحلة تحرره وذكاؤه وموهبته الأدبية خاصة انه كان من تلاميذ العقاد المخلصين، والعقاد على ما اذكر هو الذى توسط لدى النقراشى باشا لإرساله فى بعثة دراسية الى الولاياتالمتحدةالامريكية، وكنت اعده لسنوات طويلة من رواد الاستنارة والفكر الجريء المتحرر . التصوير الفني وقد كتب محفوظ مقالا فى مجلة "الرسالة" فى عددها رقم 616 الصادر فى 23 ابريل 1945 ناقدا لكتاب قطب عن "التصوير الفنى فى القرآن" وهو مقال أشبه بالرسالة الادبية، بما يحمله من ود وتقدير وعرفان، جاء فيه: قرأت كتابك "التصوير الفنى فى القرآن" بعناية فائقة فوجدت فيه فائدتين كبيرتين: اولهما: للقارئ خصوصا القارئ الذى لم يسعده الحظ بالتفقه فى علوم القرآن والغوص الى أسرار بلاغته، بل حتى هذا القارئ الممتاز لا شك واجد فى كتابك نوراً جديداً ولذة طريفة، ذلك ان كتابا خالدا كالقرآن لايعطى كل أسراره الجمالية لجيل من الاجيال مهما كان حظه من الذوق وقدره فى البيان، فللجيل الحاضر عمله فى هذا الشأن، كما سيكون للاجيال القادمة عملها، والمهم انك وفقت لأن تكون لسان جيلنا الحاضر فى أداء هذا الواجب الجليل الجميل معاً مستعينا بهذه المقاييس الفنية التى يألفها المعاصرون ويحبونها ويسيرون فى وادى الفن على هداها ونورها، إن عصرنا من الناحية الجمالية عصر الموسيقى والتصوير والقصة، وها أنت ذا تبين لنا بقوة وبالهام أن كتابنا المحبوب هو الموسيقى والتصوير والصورة فى اسمى ما ترقى اليه من الوحى والابداع، ألم نقرأ القرآن؟ بلى وحفظنا فى زمن سعيد مضى ما تيسر من سوره وآياته، و كان ولا يزال له فى قلوبنا عقيدة وفى وجداننا سحر، بيد أنه كان ذاك السحر الغامض المغلف، تحسه الحواس ويهتز له الضمير دون أن يدركه العقل او يبلغه التذوق، كان كالنغمة المطربة التى لا يدرى السامع لماذا وكيف اطربته؟ فجاء كتابك كالمرشد للقارئ والمستمع العربى من ابناء جيلنا يدله على مواطن الحسن ومطاوى الجمال ويجلى له أسرار السحر ومفاتن الإبداع، كان القرآن فى القلب فصار ملء القلب والعين والأذن والعقل جميعاً . ويضيف محفوظ: أما أخرى الفائدتين: فهى لك انت! لأن الكتاب فى جملته اعلان عن مواهبك كناقد، إنك تستطيع ان تعبر اجمل التعبير عن أثر النص فى نفسك ولا تقف عند هذا فتجاوزه إلى بيان مواضع الجمال فى النص نفسه، وما يحفل به من موسيقى وتصوير وحياة، ثم تستنطق الموسيقى أنغامها وضروبها وتستخبر الصورة عن ألوانها وظلالها وتستأدى الحياة حرارتها وحركتها ولا تقنع بهذا كله! فيقرن ذهنك بين النص والنص حتى تظفر وراء الظواهر بوحدة، وخلف الآيات بطريقة عامة تجعل من الكتاب شخصا حياً ذا غاية واضحة وسياسة بارعة وخطة موضوعة تهدف جميعا إلى الإعجاز الفني، فتناله عن جدارة، فهذا ذوق جميل وتذوق عسير وفكر نفحة فلسفية. والآن اسمح لى ان اوجه اليك سؤالا وان أسوق ملاحظة، أما السؤال: فانك تحدثت عن التصوير والتخييل والتجسيم والتنسيق الفنى وكل اولئك روح الشعر ولبابه قبل أى شيء آخر، أفلم يخطر لك ان تحدد نوع كلام القرآن على ضوء بحثك هذا؟ وأما الملاحظة: فعن الفصل الذى خصصته للنماذج الانسانية فقد وجدت فيما استشهدت به من آيات ما يعبر عن طبائع بشرية وسجايا نفسية لنماذج إنسانية، فالنموذج الإنسانى بمعناه العلمى شيء اشمل من هذا وهو قد يحوى الكثير من هذه الطبائع، كما قد يحوى غيرها، والمهم انه يعرضها على نحو خاص يتفق مع مزاجه الاساسي، والنماذج الانسانية محدودة المعرفة على اختلاف تقسيم علماء النفس لها اما الطبائع فلا حصر لها فلعلك قصدت الطبائع لا النماذج . تبادل الرؤي هكذا كانت العلاقة بين نجيب محفوظ وسيد قطب، علاقة قائمة على فكر موضوعي، علاقة تذوق رؤيوى قائمة على فهم الافكار وتحليلها وسبر أغوارها وتفحص دلالتها ومعانيها، واستخلاص النتائج العقلية والفلسفية من خلال نقاش قائم على جدل عقلى متوازن، على مستوى الكتابة، وعلى مستوى الحياة ايضا. تحولات فكرية وبعد تحولات قطب الفكرية وتزعمه لحركة الاخوان المسلمين باعتباره احد مراجعها الكبرى انقطعت علاقة محفوظ به كما يخبرنا فى مذكراته مع رجاء النقاش، ولم يزره حسب ما اعلن الا مرة واحدة حيث يقول: ذهبت اليه رغم معرفتى بخطورة هذه الزيارة وبما يمكن ان تسببه لى من متاعب أمنية، فى تلك الزيارة تحدثنا عن الأدب ومشاكله ثم تطرق الحديث إلى الدين والمرأة والحياة، كانت المرة الأولى التى ألمس فيها بعمق مدى التغيير الكبير الذى طرأ على شخصية سيد قطب وافكاره.. لقد رأيت امامى انسانا آخر حاد الفكر متطرف الرأي، ويرى ان المجتمع عاد الى الجاهلية الاولى وانه مجتمع كافر لا بد من تقويمه بتطبيق شرع الله انطلاقا من فكرة "الحاكمية" وسمعت منه آراءه دون الدخول معه فى جدل او نقاش حولها، فماذا يفيد الجدل مع رجل وصل الى تلك المرحلة من الاعتقاد المتعصب. وعندما سمعت بخبر اشتراك سيد قطب فى مؤامرة قلب نظام الحكم وصدور حكم بالإعدام عليه لم اتوقع ابداً تنفيذ الحكم، وظننت ان مكانته ستشفع له، وإن لم يصدر عفو عنه فعلى الأقل سيخفف الحكم الصادر ضده الى السجن المؤبد على الاكثر ثم يخرج من السجن بعد بضع سنوات، وخاب ظنى ونفذ حكم الاعدام بسرعة غير معهودة أصابتنى بصدمة شديدة وهزة عنيفة فرغم الخلاف الفكرى بينى وبين سيد قطب فإننى كنت اعتبره حتى اليوم الأخير من عمره صديقا وناقدا أدبيا كبيرا كان له فضل السبق فى الكتابة عنى ولفت الانظار إليّ فى وقت تجاهلنى فيه النقاد الآخرون. ولتأثرى بشخصية سيد قطب وضعتها ضمن الشخصيات المحورية التى تدور حولها رواية "المرايا" مع إجراء بعض التعديلات البسيطة، ولكن الناقد المدقق يستطيع ان يدرك ان تلك الشخصية فيها ملامح كثيرة من سيد قطب . وبعد، فيا لها من مفارقة غريبة ان يسير الأديب الشاب فى الطريق الذى بشر به الناقد التقدمى فى ذلك الوقت سيد قطب فيصبح محفوظ هو قطب الرواية العربية وقلبها النابض وفاتح أبواب المجد والتاريخ امامها، فى حين عاد المبشر وصانع الاحلام والرؤى سيد قطب ادراجه الى الماضى ليخرج بفكرة "الحاكمية" و...* يا لها من حياة غريبة وتحولات مضنية جعلت كل "خل يودع خله"، و"يمضى كل فى طريق"..!! العرب أ.لاين-بتاريخ 8-09-2006 ملاحظة