مشروع المسلخ البلدي العصري بسليانة معطّل ...التفاصيل    الإنطلاق في تكوين لجان جهوية لمتابعة تنفيذ برنامج الشركات الأهلية    عميد المحامين يدعو وزارة العدل الى الالتزام بتعهداتها وتفعيل إجراءات التقاضي الالكتروني وتوفير ضمانات النفاذ الى العدالة    جمعية "ياسين" لذوي الاحتياجات الخصوصية تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    وزير السياحة: 80 رحلة بحرية أي قرابة 220 ألف سائح اختاروا الوجهة التونسية في انتعاشة لهذه السياحة ذات القيمة المضافة العالية    اختتام الصالون الدولي 14 للفلاحة البيولوجيّة والصناعات الغذائية    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة "تستقطب اكثر من 5 الاف زائر.    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية خلال مؤتمر رابطة برلمانيون من اجل القدس باسطنبول    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    بطولة انقلترا - غالاغر يمنح تشيلسي التعادل 2-2 أمام أستون فيلا    بطولة ايطاليا : تعادل ابيض بين جوفنتوس وميلان    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    القلعة الكبرى: اختتام "ملتقى أحباء الكاريكاتور"    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    سوسة: وفاة طالبتين اختناقا بالغاز    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    تعزيز جديد في صفوف الأهلي المصري خلال مواجهة الترجي    طبرقة: المؤتمر الدولي لعلوم الرياضة في دورته التاسعة    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    اليوم.. انقطاع الكهرباء بمناطق في هذه الولايات    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    اكتشاف أحد أقدم النجوم خارج مجرة درب التبانة    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    كلوب يعلق على المشادة الكلامية مع محمد صلاح    إمضاء اتفاقية توأمة في مجال التراث بين تونس وإيطاليا    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    سوسة: القبض على 5 أشخاص يشتبه في ارتكابهم جريمة قتل    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط حفظ الصحّة    اعتماد خطة عمل مشتركة تونسية بريطانية في مجال التعليم العالي    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    القطب المالي ينظر في اكبر ملف تحيل على البنوك وهذه التفاصيل ..    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    البطولة الوطنية: النقل التلفزي لمباريات الجولتين الخامسة و السادسة من مرحلة التتويج على قناة الكأس القطرية    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    طقس اللّيلة: الحرارة تصل 20 درجة مع ظهور ضباب محلي بهذه المناطق    وزير الفلاحة: "القطيع متاعنا تعب" [فيديو]    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    عميرة يؤكّد تواصل نقص الأدوية في الصيدليات    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل آن الأوان لتغيير الخطاب؟

ثمة اليوم داخل "المؤتمر من أجل الجمهورية" تساؤلات، وحتى رغبةعند البعض براجعة مؤلمة في التوجه السياسي عموما وفي طبيعة خطابنا"الراديكالي" على وجه الخصوص.
الدافع لهذا التساؤل موقف محبط عند البعض ( بنصب الباء) وموقف محبط ( بخفضها) عند البعض الآخر...ربما نتيجة الاحتكاك ، بل قل التسمم،ب"ميكروكوزم " سياسي مأزوم.
ولأن المؤتمر ليس حزبا بقائمة منخرطين مغلقة وإنما شبكة مفتوحة لأناس يتقاسمون نفس القيم والأفكار، فإنني رأيت من واجبي طرح هذا السؤال على كل الجمهوريين والوطنيين : هل تقادم فعلا خطاب المؤتمر وهل آن الأوان لتغييره؟
ما الزبد وما الموجة ؟
منطلق النقاش فكرة أن خطابنا " ما عادش ماشي" بل أنه أصبح يقابل بالتهكم في بعض أوساط " ميكروكوزم " مطوّق بوليسيا ومخترق مخابراتيا، يمارس السياسة في رقعة منديل ،في ظل قواعد مغشوشة سنتها دكتاتورية تجمع بين قدر كبير من الغباء و قدر أكبر من الخبث.
لكن ما أتلقاه من رسائل على موقعي، ومن مكالمات من أناس لا أعرفهم، والحفاوة البالغة التي يكرمني بها كل من يلاقوني في الشارع ، وتواصل دعوتي ودعوة قيادات المؤتمر للقنوات التلفزية الكبيرة والصغيرة -رغم ما تبذله السلطة من ظغوطات ل" قطع " لساننا -ووجود كتاباتي على المواقع التونسية والكثير من المواقع العربية...كل هذا يعطي انطباعا معاكسا بأن الخطاب "ماشي...على الأقل مطلوب .
هنا على المرء أن يكون بالغ الحذر. قد يكون كل هذا زبد، والموجة لا واقعية وعقم ما ننادي به. لكن ماذا لوكان تهكم "الميكروكزم"، هو الزبد، والموجة العاتية هي خطاب المؤتمر الذي تجاوز حدود تونس ليصبح تيارا داخل الخطاب السياسي العربي المعاصر؟
كيف يمكن الفصل بين الاحتمالين؟ بداهة بتحديد مقياس ال" مشيان" ؟ هل هو قبول " الميكروكوزم" به وتوحده حوله ؟ هل هو تغلغله بين الشباب؟ هل هوفي ما يثير من زوابع فكرية ؟ هل هوفي خروج الجماهيرإلى الشارع ؟ يؤدي استعراض كل هذه الأسئلة إلى تساؤلات أعقد. مثلا ما قيمة" الميكروكوزم" الفعلية ؟ ما أهمية تجمعه حول أي خطاب ولو كان خطاب المؤتمر؟ بل هل من الممكن أن يتجمع أصلا حول أي خطاب، وهو المبني أساسا على الصراعات الشصية والحزبية ؟ وبخصوص التأثير، هل نعتبر أن الخطاب فشل لمّا لم تخرج الجماهير للشارع حال انتهائي من النداء للمقاومة من منبر الجزيرة في أكتوبر 2006... أم هل أنه بمثابة زرع لبراعم تحتاج لسنين حتى تنضج وبالتالي لا حكم قبل سنوات؟ آنذاك كم من سنوات قبل القول أننا دخلنا في أيدولوجية المهدي المنتظر؟ ولأن تواصل المسار،أوتغير وجهته ، أو توقفه، مرتبط بما نقرّر أنه أقرب الاحتمالين إلى الواقع، فلا بدّ لنا من الفصل بين " ماشي" أو " غير ماشي".
كيف ونحن لا نملك معطيات موجودة في طيات الغيب وفي إطار استحالة الاحتكام للفيصل الأكبرأي الانتخابات النزيهة (أو استطلاعات الرأي العلمية) ؟ المخرج الممكن هواستعراض تبعات الفرضيتين على الصعيد الشخصي والجماعي، ثم الخيار بينهما على أساس طبائع واستعدادات الشخص أو مراهناته.
لنبدأ بتصور تبعات قبول مقولات : طلّق عنك هذه المواقف الجذرية ، فهذا شعب ميت وهذاوضع عالمي لا يسمح بالتغيير، وقدرنا الاستبداد لأننا شعوب متخلفة موبؤة إلى الأبد الخ . أمامك في هذه الحالة ثلاثة خيارات : - أن تنسحب من الساحة السياسية وحتى الاجتماعية ساخطا ، ناقما ، متألما، يائسا، بائسا.
أن تستسلم وتدخل في سلك متسولي الإصلاح ( حتى بافتعال شيء من التشدد و الكبرياء ) ومنخرطا في اللعبة موهما نفسك والآخرين بقدرتك على استغلالها وتفويضها .
أن ترفع التحديات وتقاوم . بديهي أن أنبل خيار هو الأخير...وأنه لا يقارن بخياري الانسحاب أو الاستسلام .
كل من خبروا الحياة يعرفون أن الصعاب عندما لا تدمّرالشخص ترفعه ودورها في شحذ العزيمة واستنفار طاقات الخلق .لذلك كانت نصيحتي ولا تزال : إن وصلت مفترق طرقات اختر أصعبها. ما أبلغ مقولة لاوتسو " وبالصعب يكون السهل وبالسهل يكون الصعب". ما أروع أيضا مقولة كيرجارد " ليس الطريق هو الصعب وإنما الصعب هو الطريق" .
إلا أنه من البديهي أن الأمر في المستوى الذي يشغلنا ليس أن تكتسب نفوسنا "عضلات" معنوية شبيهة بعضلات الجسد عند هواة رياضة كمال الأجسام. فالموضوع هو رفع التحديات وقبول كل الصعاب ،لا لجمالية الموقف ، وإنما لإنجاز هدف سياسي قابل للتحقيق : الاستقلال الثاني. هذا ما يؤدي بنا الآن لتصور تبعات التخلي عن خطاب المقاومة على الصعيد السياسي العام .
بالطبع لن يؤدي توقفه إلا لمزيد من استشراس الدكتاتورية بما أنها روّضت أعتى خصومها، ولسقوط سقف كان يجبر الصادق وغير الصادق على تعديل مواقفه على علوّه. المضحك أن تكتشف أحيانا في فم من سخروا من خطابنا، ومن اتهمونا بالانفلاتية ، الكثير منه.
لا تستغربوا قيام تحالف سياسي على الأفكار والقيم التي نمثلها وأن نقصى منه ، لأن هاجس بعض الأطراف إخراجنا مما يتصورونه سوقا يجب التخلص فيه من المنافسين، لا ساحة معركة كلنا بحاجة لبعضنا البعض. صدقوني إن قلت ليأخذوا افكارنا و يتزعموا ويقودوا إذا كان ذلك في الاتجاه الذي تتطلبه المرحلة. لكن للأسف ما جربتهم منهم على الدوام سيناريو لم يتغير منذ سنين و في ثلاثة فصول :
العداء لمقولات طرحناها من بداية التسعينات أي أننا امام دكتاتورية ، أن قضية النهضة ليست فقط قضية حقوق إنسان ، أن على كل القوى المناوئة للدكتاتورية التوحد بغض النظر عن الأيدولوجيا الخ ... -الاستيلاء على أفكار شقت طريقها في عقول وقلوب الناس رغم سنوات من الإنكار ثم جرّالأقدام.
تمييعها وإفراغها من محتواها،وشتان بين المتبني متأخرا ضرورة وحسابا ، و بين الآباء الطبيعيين.
على كل حال أي خسارة في سقوط خطاب شكّل ولا يزال عامل ضغط على السلطة والمعارضة على حد السواء ! إذن أسلم ، الخيارين للمناضل الحقيقي وللمجتمع ، التمسك بفرضية "الخطاب ماشي".
لكن هذا الخيار، وإن يعفينا من ضغط الطرف الآخر للانخراط في مقولاته ومصالحه ،فإنه لا يعفينا من ضرورة محاسبة النفس الصارمة. يمكن مثلا أن يكون " الخطاب ماشي" ، لكن في إتجاه خاطئ يقودنا إلى باب مسدود. هذا ما يجرنا لقضية متانة مضمونه ، بغض النظر عن قبوله من عدمه. لنذكّر أن خطاب المؤتمر يتميز بثلاث أطروحات يحلل بها الواقع السياسي التونسي، و العربي .
1- نحن أمام نظام سياسي لا يصلح ولا يصلح. 2-لا حل أمام شعبنا - وأمتنا- غير تنظيم مقاومة مدنية سلمية لإنهاء الدكتاتورية ومنع تجددها. 3- لهذا يجب تجميع القوى السياسية الضرورية ، لا من أجل تحقيق وحدة المعارضة بكل طيفها ، ولكن من أجل رصّ صفوف القوى الفاعلة... لا على الحد الأدنى الذي يضمن وجود أكبر عدد ممكن من مكونات" الميكروكوزم" ،لكن على المطلوب لتخليص شعبنا وأمتنا من الفيروسات التي نخرت فيه (ها) لنتفحص هذه المقولات الثلاث الواحدة بعد الأخرى بعقلية الطب أي بتحكيم منطق التشخيص الموضوعي، لا يهمنا ما تكلف استنتاجاته من وجع للطبيب - إذا اتضح خطأه- أو للمريض إذا اتضحت خطورة إصابته.
* 1- نحن أمام نظام سياسي لا يصلح ولا يصلح
أسهل وسيلة للتأكد من صدقية المقولة استعراض ما حصل منذ التصريح بها سنة 2000 إلى اليوم. لو أن الدكتاتور استقبل رؤساء أحزاب و تنظيمات هو ونظامه معترف بها ،(مصطفى بن جعفر ومية الجريبي ومختار الطريفي وخديجة الشريف على سبيل المثال)...ولو ترك الرابطة تعقد مؤتمرها دون تدخل سافر وخبيث... ولو أحدث تغييرات ذات مغزى في حكومته ليدخل وجوها قادرة على فتح الخطوط مع المجتمع المدني ... ولو أمربمحاكمة ابن أو أخ زوجته عندما سرق اليخت الفرنسي الشهير... و لو شنّ حملة جدية على الفساد داخل جهاز الأمن...و لو أخلى سراح كل المساجين وسمح بالعودة لكل المهاجرين ...و لو أعلم الغنوشي بأنه يستطيع العودة دون مضايقة، ولو أوعز بإرجاع المرزوقي للجامعة، حتى دون التصريح لهما بالعمل القانوني...ولو لم يغيّر الدستور لضمان الرئاسة مدى الحياة ... و لودخل في إصلاحات شبه سرية في محيطه استعدادا لنقل السلطة لشخص مقبول من كل الأطراف يستطيع تدريجيا رفع حالة الطوارئ وضمان سلامته هو وعائاته إضافة إلى نقلة سلمية للديمقراطية في 2009 .
نعم لو حصل شيء من كل هذا - و حتى أقله - لسقطت مقولة لا يصلح ولا يصلح، ولظهرت كجملة من باب المبالغة والبلاغة ،ولحق لكل إنسان عاقل أن يصف صاحبها، لو رفض مثلا عرض العودة للبلاد و للجامعة وقبول النهج التدرجي في الإصلاح ، بالتطرف والمزايدة واللاواقعية وحتى المراهقة السياسية.
وللصدق ، وخلافا لكل ما يشاع عني، فإنني كنت سأقبل - ولو بقدر كبير من الحذر- بهذا الواقع المفاجئ وأتفاعل معه إيجابيا،لأنني أؤمن بضرورة الصبر والمرونة والاعتدال وترك أبواب للخروج ،شريطة أن يكون القطار على السكة و في الاتجاه الصحيح وأن لا يتحرك بسرعة السلحفاة. بطبيعة الحال لم يحدث شيء من هذا وإنما العكس تماما هو الذي حدث :الإمعان في التزييف والقمع والفساد وإحكام إغلاق كل أبواب التواصل مع المجتمع . لا غرابة في هذا لأن ما يجهله السذج وما يتجاهله الخبثاء ،هو ما يعرفه الدكتاتور أحسن المعرفة،أي أن الإصلاح، إما مزيف ، وهذه حيلة لن تنطلي بعد أن استهلك كل احتياطي العالم من الكذب، وإما حقيقي ، وفي هذا بداية النهاية، وهي النهاية التي يصيبه الرعب بمجرد التفكير فيها... فما بالك بالإعداد لها .
عندما أردّد أن من يحكم تونس اليوم عصابات حق عام على رأسها " زميم " لا رئيس، يقال لي لاتبالغ أو كفّ عن الشتم فهذا لا يليق بسياسي مسؤول.حتى من يعلمون أنني رجل مهذب لا يفهمون أنني استعمل الكلمات بدقة كما تعلمت من التشخيص الطبي . كأن الناس استبطنت أن الجرائم ما دامت على نطاق كبير ليست جرائم . كأن الإجرام بالجملة له ظروف تخفيف و حصانة خاصة.كأن الجريمة التي يجب متابعتها هي ما ينافي الأخلاق والقانون شريطة أن يكون أصحابها فقراء وضعفاء ودون سند من إدارة بوش. نعم نحن تحت حكم عصابات حق عام ...ولهذه الأسباب التي أتحدى أي حكم عادل أن يثبت كذبها.
كيف نسي الناس بهذه السهولة أن شقيق هذا الدكتاتور( الذي كان مسؤولا لسنوات طويلة عن الأمن قبل توليه الرئاسة)حكم عليه في فرنسا في بداية التسعينات بعشرة سنوات سجن للاتجار في المخدرات؟ كيف لم تستوقف حادثة كهذه غير مسبوقة في تاريخنا وغير معروفة حتى في جوارنا، انتباه الطبقة السياسية ؟
إن الدكتاتور وعائلاته ومن معهم كانوا سيجدون أنفسهم سريعا،لو خطر لهم الحكم كما حكموا في تونس وراء القضبان في أي مجتمع حرّ وأي بلد يحكمه القانون. انظر لمتابعة شيراك رغم تفاهة خروقاته.
الكل يدرك أنه لو سقط النظام فجأة لما وجب إحالة "الزميم" وعائلاته أمام محاكم سياسية . تكفي محاكم جنائية عادية (نأتي بقضاتها من الخارج إذا تطلب الأمر بما أنه ليس لنا قضاء جدير بهذا الاسم ) فتدينهم بكل نزاهة - لا وفق قواين رجعية، وإنما فق القوانين التونسية المعمول بها- وتحكم عليهم بأقصى العقوبات نتيجة تورطهم المفضوح في سرقة المال العام واستغلال النفوذ والتدليس والتزوير.
لا أحد تابع مندلا عدليا عند خروجه من السلطة لأنه حكم وفق القيم التي نادي بها والقوانين المكتوبة في بلاده، والتي كان أول من احترمها لا من مسح فيها حذاءه. لا أحد تابع عدليا دوغول الذي لم يقبل مرتبا طيلة سنوات رئاسته، وكان يدفع ثمن بدلاته من تقاعده كجنرال. قارن بين التصرفات التي تدخل رئيسا إلى التاريخ من أوسع أبوابه ،وبين التصرفات التي تخرجه منه عبر أضيق باب بالإدانة والاستنكار.
كيف يمكن أن نحلّ مشاكلنا إذا بدأنا بجهل أو برفض توصيفها موضوعيا وتسمية الأشياء بأسمائها؟ يتعلم الصبية في المدارس أنك تستطيع أن تفهم اتجاه خط ورسم مساره بنقطتين فقط . هذه الدكتاتورية رسمت عشرات النقط في نفس الاتجاه : التطرف ، الانغلاق ، الغطرسة ، العنف، القبح الأخلاقي ، الفساد البذاءة ، التزييف ، العمالة... والخط لا يحيد قيد انملة وعلى امتداد عقدين عن نفس الاتجاه. ومع ذلك ما زال هناك من يستبشر- في خياله الخصب- أن الخط غيّر ،بقدرة قادر، اتجاهه بل و اصبح دائرة، ثم يستغرب بنفس السرعة عودته لحالته التي لم يفارقها لحظة . ثمّة من ينتظربل ومن يراهن - داخل نفس الخيال الخصب - على أن الخط سيصبح مثلثا إن انتظرنا كثيرا وتأدبنا أكثر.
سبحان هذه الأدمغة وكيف تفكر، ويا لغرابة أناس يلدغون من نفس الحجر مليون مرة ويضعون فيه اصبعهم المرة بعد الأخرى وهم يتساءلون هل أصبحت أخيرا الأفعى أرنبا أبيضا جميلا !! ثم يقولون لنا غيروا خطابكم فهو ليس واقعي وموضوعي. إنها رؤية القشة في عين الآخر وتجاهل العمود الذي في عينه هو.أبلغ وصف لهؤلاء الناس المثل الفرنسي " لا أطرش ممن لا يريد ان يسمع " ومن ثمة عزوفي منذ أمد بعيد عن محاورة طرش بالإرادة والاحتراف ومع سابق الإضمار . وفي كل الحالات هذا شغلهم- بمعنى مصيبتهم- وأيضا بمعنى العمل الذي له أجر، لأنهم ليسوا كلهم سذّج أو مفتعلي السذاجة للتغطية على عجزهم ، وإنما فيهم أيضا مدسوسين مدفوعي الأجر مهمتهم المخابراتية الترويج لأوهام التحولات الهامة الآتية في العيد الفلاني...وعش يا فؤادي بالمنى.
نعم المقولة صحيحة أحب من أحب وكره من كره ،لأن الدكتاتور، كعادته المميزة في قول الشيء وفعل عكسه، لم يضع تونس من البداية على سكة" المسار الديمقراطي" وإنما على سكة المسار الاستبداي الذي مشى فيه بكل إصرار وثبات طيلة عشرين سنة... و سيواصله إلى النهاية حسب قاعدة " من شبّ على شيء شاب عليه، ومن شاب على شيء مات عليه " ..وهناك ألف مثال في كل اللغات تؤكد ظاهرة أزلية أي أن ما بالطبع لا يتغيّر، وكل إناء بما فيه يرشح ...الخ التشخيص إذن سليم مائة في المائة ، هل مقترح العلاج كذلك؟
* 2- لا حل أمام شعبنا - وحتى أمتنا- إذا أراد(ت) فعلا الحياة،غير تنظيم مقاومة مدنية سلمية لإنهاء الدكتاتورية ومنع تجددها.
ما تثبته حصيلة كل نضالاتنا في العشرين سنة الأخيرة أننا، وإن استطعنا تحقيق بعض الانجازات المتواضعة على صعيد حماية حق هذا الشخص أو ذاك ، وربما منعنا آفة كالتعذيب من الوصول إلى مستويات أفظع ، لم نمنع شيئا هاما على صعيد الشعب، بل بالعكس. لقد رأينا تفاقم الاستبداد ووصول الفساد والقمع إلى قمم لم نكن نتصور أن تونس ستعرفها يوما ،وتفاقم أزمة الدولة بانهيار كل مؤسساتها، والعودة الفعلية للرئاسة المؤبدة،ناهيك عن تفاقم أزمات المجتمع الغارق في الإذلال والإحباط وصعوبات العيش المتصاعدة.ما يبدو أن الأحداث لم تكفّ عن الصراخ به في آذاننا ونحن أيضا لا نسمع ،أن البيانات، الاحتجاجات، اضربات الجوع، التقدم لكل الانتخابات الصورية لاغتنام فرصتها" للتعلم وتوسيع القاعدة الحزبية وتوعية الشعب ثم لتشهيد العالم على التزييف"... كل هذا شيء جميل ومعقول ومقبول وضروري وفعّال...لكن في نظام ديمقراطي أو على الأقلّ في طريق التدرج إلى الديمقراطية . أما في دكتاتورية بوليسية فاسدة وخبيثة في تدرج لم يتوقف لحظة منذ عشرين سنة نحو مزيد من الانغلاق ، فالأمر بذكاء إعمال مفتاح في باب قفله صدئ ولا يركب عليه هذا المفتاح...ومواصلة المحاولة.
من أين طريق الخلاص إذن؟
ماذا يعلمنا تاريخ كل الشعوب التي سقطت لفترة من تاريخها تحت نير الاستبداد؟ وجود قانون أزلي : الشعوب تستسلم... ثم تقاوم بصفة سلبية ... ثم تتمرد على معذبها لتنتقم أحيانا ابشع انتقاما. "انظر تعليق غازي دحمان على كتاب صاحب الربيعي " سلطة الاستبداد والمجتمع المقهور " الجزيرة نت يناير 2008
"ونظرا لاختلاف موازين القوة بين القوى المقهورة والقاهرة، فإن آلية الرفض تأخذ أنماطا متعددة منها عرقلة إجراءات القوى القاهرة،أياكان شكلها،في داخل مؤسسات النظام، و عدم إبداء الحرص على ممتلكات الدولة كونها ممتلكات القوى القاهرة ويجب إضعافها ، و الحط من قدر رجالات السلطة القاهرة عبر بث الشائعات المغرضة ونشر الفضائح الشخصية والأخلاقية.غير أن القوى المقهورة وعند شعورها بتحقيق بعض النجاحات في مواجهة السلطة، تلجأ إلى مرحلة ثانية من النضال "
إذن تمرّ الشعوب المبتلية بالدكتاتورية بمراحل أولها الاستسلام ثم المقاومة السلبية عبر الرفض والإعراض، ثم المواجهة عندما يكسر حاجز الخوف، لتصل مرحلة التمرد وتصفية نظام معذبيها. أين نحن اليوم في تونس -السؤال نفسه في أي قطر من اقطار الأمة- من هذا المسارالطبيعي الذي مشت فيه قبلنا كم من شعوب تحررت في آخر الأمر من آفة سوء الحكم، مثلما تحررت من الجوع و الطاعون ؟ ما يريد البعض في السلطة إيهام أنفسهم به أننا لسنا فقط في قمة الاستسلام (أو بصفة أدق في حضيضه)... وإنما أن المسلسل توقف على حلقة لن تتبعها الحلقات الطبيعية الأخرى.
حقا هناك ما يؤيد ظاهريا المقولات المتشائمة ، أو المدسوسة . خذ خطاب "الميكروكوزم". هو شهادة على أنه يتعامل مع وضع سلّم في الواقع بعجزه عن تغييره وهوما يجعل من هذه الطبقة السياسية باستسلامها ولعبها في إطار هامش التحرك المسموح لها بها جزء من المشكل لا من الحل. . شيئا فشيئا ودون أن ينتبه أحد أصبحت أحزاب وتنظيمات وطنية فعلا هي الأخرى جزءا من الديكور الديمقراطي للاستبداد ، وهو ما يمكّن أبواقه من التبجح على القنوات الفضائية أن عندنا كذا وكذا من الأحزاب المعارضة وان جرائدها تباع على قارعة الطريق. الاستسلام أيضا الطابع المميز لمؤسسات الدولة، مثل الجيش والشرطة والقضاء والإدارة ، حيث يبدو أن الدكتاتور روّضها نهائيا وجعلها أدوات طيعة لتأبيد استبداده وفساده .
نفس الشيء عن مؤسسات المجتمع مثل النقابات المهنية والجامعة والسلطة المعنوية لرجال الدين والثقافة وهي شبه غائبة لأول مرة في تاريخ تونس. لكن ماذا وراء هذا المظهر؟ لا أحد يعلم بالضبط ، ولا حتى المخابرات .المؤكد أن هناك شيء ما . نحن لا نرى الهواء ولا نشمه ومع ذلك هل من شك في وجوده ؟ لنتذكر هنا المقولة المشهورة لحنّا أرندت " في الدكتاتورية كل شيء على ما يرام حتى الربع ساعة الأخيرة". من ينكر أن هناك في بلادنا مخزون كبير من الكره لنظام لم تعرف له تونس مثالا في الحقارة؟
من يجهل أنه كره مستشري في كل قطاعات الشعب بنفس القوة، وأخشى ما نخشاه ان ينفجر يوما فتسيل الدماء...خاصة دماء أعوان شرطة مساكين سيدفعهم الشعب ثمن تجبر جهازهم ؟
من يكابر في أن هذا النظام، ككل دكتاتورية ، باختياره سياسة إرهاب الدولة، وإذلال الناس والسخرية من ذكائهم، وامتهان أقرب الخدم والحشم ،ورفض أبسط مظاهر المصالحة مع المجتمع، هو أول متعهد لهذا الرفض وأول عامل من عوامل إنضاج المقاومة ودفعها إلى نهايتها الحتمية؟ كل ما في الأمر أنه يربح الوقت يوما بعد يوم، قبل أن تلتهب في وجهه الحرائق التي كدّس لها بغباء منقطع النظير كل الحطب اليابس الممكن. أنظر الآن ما وراء هذا الاستسلام الظاهري لتكتشف أنه يخفي أيضا بجانب الانكفاء على الشأن الخاص مقاومة حقيقية ولو أنها صامتة وسلبية.
أي معنى آخر لازدراء الشعب للنظام وعزوفه عن المشاركة في خزعبلاته وانعدام أي ثقة فيه، أو لوضع الخمار وإطلاق اللحى واللجوء إلى الجوامع، أومتابعة البرامج التلفزية التي تفضح النظام والتجاوب معها. أضف لهذا بداية محتشمة ، لكنها حقيقية وواعدة لمقاومة إيجابية كتحركات الوسط الطلابي والنقابي ، ولا أعتقد أن ما وقع مؤخرا في الجنوب سحابة صيف بل قد تكون سحابة إعصار بدأ يلوح في الأفق.
إنها مؤشرات تدل كلها على أن المسلسل الطبيعي لتغيير وضع شاذ بكل المقاييس " ماشي" في طريقه المعتاد وإلى نهايته المعروفة مسبقا. ما لا نعرف هو أين وصلت قيم وأفكارومخططات بقية المقاومة الإيجابية الصامتة أي العاملة بوعي على تغيير الوضع داخل مؤسسات الدولة .خاصة الجيش والبوليس والحزب " الحاكم" وحتى أولى الدوائر حول الدكتاتور،التي يظنها السذج بنيانا مرصوصا حوله، وهي قبل كل شيء بشر في تناغم مستمر مع القوى المبهمة التي تسري في عروق المجتمع.
معنى هذا أن خطاب المؤتمر لا يتحرك من فراغ ، بل بالعكس .هو إفرازة لوضع موضوعي و جزء من حراك مجتمع يبحث عن خروج من أزمة خانقة. إن إطلاقه فكرة المقاومة المدنية منذ 2002، ومحاولته بناء هيكل سياسي مع بقية الأطراف لدفعها قدما سنة 2003 عبر مؤتمر "اكس" ليس وليد الصدفة .
ليس من باب الصدفة أيضا أن تنطلق الدعوة للمقاومة المدنية من منبر الجزيرة في أكتوبر 2006، في الوقت الذي كانت تستعد فيه مجموعة مسلحة لدخول تونس وإطلاق أولى عملياتها في 23 ديسمبر2006...يوم واحد بعد اضطراري للعودة للمنفى وقد اكتشفت أنني أخطأت تقديرالتوقيت وتعجلت مفاعلة أبطأ مما نريد جميعا.
كل هذه الأحداث مؤشرات لمن يعرف قراءة الظواهر بأن هناك منعرجا أتخذ داخل الوعي الجماعي بأنه لا حل حقيقي مع نظام غير قابل للإصلاح ( بالمعنيين لقابل) غير الاجتثاث...والخيار الوحيد بين المقاومة المدنية و المسلحة ...وأن العمل في هذه وتلك انطلق شوطا ما. القانون داخل القانون أنه، في إطار الانسداد التام للوضع العام ، وفي إطار إصرار النظام على تأبيده كما هو دون أدنى تغيير،و بقدر ما تتباطا المقاومة المدنية السلمية في البروز والوقوف على رجليها ، بقدر ما تكبر حظوظ خطاب المقاومة المسلحة.
هنا تطرح قضية جاذب يةخطاب المقاومة المدنية بالمقارنة مع إغراء العنف. إن من يتهمونا بالتجنيح والإنفلات والعنترية الخ ، يشتمون ولا يفكرون ، يدينون ولا يفهمون، ومن ثمة هم غفلوا عن الانتباه لنقطة الضعف الحقيقية في خطابنا ... وها أنا أدلهم عليها.
من يعتنق خطاب المؤتمر وينزل للساحة السياسية المكتظة بالفاعلين من كل الأصناف، مطالب بالجمع بين نوعين من المواقف والتصرفات والخصال : من جهة القطع النهائي مع الدكتاتورية ورفضها جملة وتفصيلا والسعي النشيط لنهايتها ، بما يتطلب الأمر من جرأة وتشدد واستعداد للتضحية. وفي نفس الوقت عليه التخلي عن خيار العنف والقبول بالتنازلات بين كل أطراف المقاومة ، وحتى مع الخصم إذا ترك للصلح الحقيقي بابا مفتوحا . المشكلة أن هذه الخصال نادرا ما توجد مجتمعة في نفس الفاعلين , فالشجعان أصحاب المواقف الجذرية والقاطعين نهائيا مع النظام يذهبون للمقاومة المسلحة مباشرة ، وأهل السلام والتفاوض يقبلون بطبيعتهم هذه بستراتجية " الميكروكوزم" ولو تمثلت في إعمال المفتاح الخاطئ في القفل الخاطئ قرنا آخر.
أن تراهن في إطار ثقافتنا التي لم تبرز إلا الخانعين من جهة والمتمردين من جهة أخرى على نمط بشري من الثوريين السلميين ،فمغامرة كبرى لأن الخطاب يتوجه ، ويعوّل، على قوىسياسية ، إما بالغة القلة أو غير موجودة أصلا . إنه السبب الرئيسي الذي يجعل المؤتمر ككل " مش ماشي" كما نرغب،إضافة للسبب الهيكلي الآخر اي عزوف الناس عن العمل السياسي، بعد كل خيبات الأمل التي منيت بها.
إنها المفارقة الصعبة التي تجعل البعض داخل المؤتمر يقولون كفى من هذا التذبذب : إما الجهاد ، وإما التغريد داخل السرب، لكن قطعا ليس في هذا الموقع المستحيل. أكون مخادعا أن قلت أن لي حلّ لهذه المفارقة. ومع ذلك فأنا متمسك بمواقفي لأن العاقل يختار توجهه في إطار تعقيد الأمور وغموضها وصعوبة تبين الطريق السالك ،أيضا من تفحص البدائل وهي من نوعين. إن كانت حظوظ خطاب المؤتمر غير مضمونة البتة، فحظوط خطاب حلب الثور( بزيادة الصبر والتأدب وربما بالضغط عليه بسيده الأجنبي) معدومة تماما ، مهما كانت كمية التأدب والصبر والضغط . بالطبع الغلطة ليست من الثور وإنما من الأغبياء الذين لا يفهون أن مثل هذا الحيوان يشدّ للمحراث أو يبعث للجزار، لكنه لا يعطي جبنا وياغورتا إلي قيام الساعة.
خذ الآن خيار المقاومة المسلحة . هو أيضا للرفض لأنه يقودنا مباشرة للكارثة أي ترسيخ الاستبداد. شخصيا أعتقد أنOlivier Roy الخبير الفرنسي الكبيرفي الحركات الإسلامية يبالغ في حكمه الصارم على الإسلام السياسي بأنه فشل بشقيه السياسي والعسكري، لا لشيء إلا لأن التاريخ لم ينتهي . لكن صحيح أنه انتهج طريقين مسدودين. الأول هو دخول بعض الأحزاب السياسية - ومنها الإخوان في مصر- "برلمانات" الدكتاتورية التي اكتسبوا فيها حق " الشقشقة " دون أدنى تأثير سياسي . إنه ما يسعى له حاليا بعض المقاولين السياسيين في تونس وأقصى حلمهم حزّيب إسلامي (ثلاثة ارباع منخرطية سيكونوا طبعا من المخابرات حسب تقنيات الدكتاتور ويبدأ ثاني يوم بانشقاق ) و يدخل يوما "البرلمان" ليشقشق هو الآخر مع بقية " مشقشقي " المعارضة ".
المأزق الثاني هو العسكري وأحسن مثال التمرّد الجزائري الذي لم يفشل فقط في تغيير النظام وإنما قوّاه. ماذا يبقى في هذه الحالة غير المقاومة السلمية ؟ صحيح أن فيه رهان, لكن هل ثمة عمل في هذه الحياة ليس رهانا ؟ ما يجعلنا على ثقة بأنه رهان معقول هو أنه ليس وليد حسابات ظرفية وردود فعل وبحث عن مواقع سلطة بكل ثمن.فالشخص الملتزم ، إن لم يكن مجرد محترف ،حتى لا أقول مرتزق سياسة همه الأوحد السلطة أو حتى فتاتها ، مطالب بالمراهنة على طول النفس والقبول بأن علينا أن نزرع لكي يأكلوا مثلما زرعوا فأكلنا . هذا ما جعلنا نبني رهاننا على دعامات منظومة فكرية تتبلور بثبات منذ ربع قرن.
إنه الرهان الستراتيجي الموجود وراء تأسيس مجموعة ابن عقال واللجنة العربية لحقوق الإنسان وإلى حد ما المؤتمر من أجل الجمهورية. وقد كان نصيبي من مشروع يتجاوزني نقد جذري للواقع التونسي والعربي انطلق في بداية الثمانيات تمحور حول سؤال مركزي :
كيف نقطع مع كل المدارس الفكرية والسياسية التي قادتنا نحو الدورن في الحلقات المفرغة للعجز والإحباط : خطاب القوميين أوالماركسيين بتبعيته للاستبداد وخطاب الأصوليين الإسلاميين بتبعيته لماضي مخيّل و خطاب الأصوليين اللائيكينن في المغرب العربي بتبعيته الإيدولوجية للفكر الفرنسي، و خطاب الليبراليين الجدد في المشرق العربي بتبعيته للسياسة الأمريكية ؟كيف نستولي ونطور الديمقراطية وحقوق الإنسان ونجذرها في الثقافة العربية وكيف نعيد صياغة مفاهيم الوحدة والهوية والاستقلال والدولة والعدالة الاجتماعية والعالمية.*
ومن الناحية العملية كان السؤال أي طرق للعمل السياسي الفعال وأي آليات في ظل الثورة التكولوجية التي أفرغت من مضمونها نماذج القرن التاسع عشرالتي تتعيش عليها السلطة والمعارضة ؟ المهمّ أن لخطابنا عمق زمني يتجاوز هذا الدكتاتور ،لأن الاستبداد آفة تنخر فينا منذ خمسة عشر قرنا ولن تزول برحيله ...وله بعد جغرافي يتجاوز حدود تونس لأن نظامنا عينة من النظام السياسي العربي ككل.
آخر ما يمكن اتهامي به مع ،بقية قيادات المؤتمر ، أننا نخبة تنظير في أبراجها العاجية . فقد كنا ولا نزال في الصفوف الأولى لكل المعارك. ما تعلمناه من هذه المعارك أن تنامي قوة المجتمعات المدنية وتراجع الدكتاتوريات في العالم وانهيار هيبة النظم العربية التي تثيرأكثر فأكثر الاحتقار ومن الخوف أقله، إضافة لقدرة النقابات على شلّ الدولة إن توحدت ونسقت ، ناهيك عن إمكانيات التكنولوجيا ...كل هذا يمكن من القيام بثورات ليست بالضرورة حمراء . كم يثلج الصدر أن نرى الشعوب العربية تتحرك أخيرا في قضية الحصار المجرم على شعبنا في غزة ...حقا هو تحرك محتشم ، لكن صبرا يا طغاة يوم يكسر حاجز نفسي هو بصدد التصدع .نعم نحن جزء من مجتمع حي ّ محمل بكل عوامل رفض خطابنا لثقل خطاب الهزيمة المستبطنة ولجاذبية العنف.... لكنه محمّل أيضا بكل عوامل تقبله لكثرة الأسباب الموضوعية لذلك.وفي كل الحالات دورنا هو صقل هذا الخيار ومواصلة عرضه عليه ، خاصة وأن شعبنا في اعتقادنا مهدد بعقم خطاب " ميكروكوزم "غير محدود الصبر... وخطر خطاب مجموعات مسلحة نفذ كل مخزونها منه .
معنى هذا أن المطلوب اليوم ليس تغيير خطاب المؤتمر وإنما على العكس تجذيره والدعوة إليه وتوسيع قاعدته لأنه الوحيد الحامل للأمل. *
3- ما يتطلبه الوضع التجميع لا من أجل التجميع ولكن على أسس سليمة أي رصّ صفوف القوى الفاعلة... لا على الحد الأدنى و لكن على ما هو ضروري لإنقاذ الوطن.
لا أكره عندي من استعداء الناس لما في الأمر من مشاكل ومن خطر ومن هدر للطاقات خاصة عندما يتعلق الأمر باشخاص هم نظريا في صف قوى التحرر.لكن الذي بينا وطن وليس "صحبة"،وأخذ بالخاطر وعدم المساس بحساسية زيد او عمر، أو البحث عن رضى كل الناس وهولا يدرك.
لذلك يجب ترك المجاملات جنبا وتحمل مشاكل وأخطار العزلة عندما يتعلق الأمر بمصير شعب هو اليوم بأمس الحاجة لقيادة سياسة تقود إلى نهايتها معركة الاستقلال الثاني ويثق فيها ويتجمع حولها،لأنه لم يعرف في التاريخ أن تحولا ذا معنى وقع دون وجود هذا الشرط الهيكلي. وفي غيابه تكون الانتفاضات مجرد حريق قش سريعا ما تنطفىء.
لذلك سعينا بكل قوانا، ولا نزال، لتكوين هذا الإطار.الذي حدث هو ضرب كل المحاولات في 1997 وسنة 2000 ثم محاولة أكس في 2003... والمنطق غير المسؤول دوما :ما دمت لست الداعي والمنظم والزعيم المختار فلا أشارك بل وأعرقل.
ثم كانت محاولة 18 أكتوبر، التي أقصيت منها عمدا ( وهذا ما يعفيني من تهمة الانتماء أنا نفسي للميكروكوزم ، إذ كيف أنتمي إلى شيء يلفظني وأرفضه) . ومع هذا قلت معلهش ، الوطن أكبر من كبريائي المجروح. حتى أعتى خصومنا .يشهدون أنني ذهبت في نوفمبر 2005 في إطار وفد من قيادي المؤتمر لزيارة الأطراف السياسية الأربع ( النهضة، التقدمي ، التكتل ، العمال) في بيوتهم بتونس، قائلين نحن مع كل ما من شأنه لمّ الشمل رغم تحفظنا على البرنامج ... و بل و نرغب في ذوبان حركتنا في تجمع وطني يدعولمؤتمر ديمقراطي وطني في تونس أوخارجها ،لكتابة مسودة دستور جديد ، والتقدم ببرنامج حكم بديل والبدء في تحريض الشعب على المقاومة السلمية ورسم ستراتجيتها.
قالوا لا لتذويب حركاتنا ، أما مطالب الحريات وإطلاق المساجين فقاعدة إطلاق الصاروخ السياسي, ونعدكم بأننا سندعو للمؤتمرالوطني الديمقراطي في ظرف ستة أشهر( أي في....جوان 2006 ! ؟) ثم قالوا لنا ثمة عقبات لا بد من رفعها حيث من الضروري البناء على أسس سليمة وذلك بالتأكد من توافقنا على جملة من المسائل الحضارية الهامة. لما سمعت أنهم بدأوا ببحث المساواة في الإرث لم أدري هل عليّ أن أضحك أم أبكي.تخيلت كم سيسرق اللصوص الكبار من أموال طيلة المباحثات المصيرية. (يبدو أن هناك دورة مفاوضات جديدة على الحدود - لا تنسوا التبني وزواج المسلمة بغير المسلم - فهي مشاكل بالغة الخطورة ولا يجوز المرور لتحالف سياسي قبل البت فيها)
الكل يعلم أنني علماني* وبالتالي أنني فكريا مع المساواة في الإرث ومع الحرمة الجسدية وضد الإعدام . لكن ما أعيبه على العلمانيين- ومنهم أصدقاء أعزاء أحترم جدا نضالهم - هو طرحهم لهذه المواضيع وكأنها امتحانات ضمير للتأكد من جدارة التلميذ الإسلامي بالجلوس لجانب ديمقراطييّ ال" ماركة مسجلة" . وما أعيبه على الإسلاميين -ومنهم أصدقاء أعزاء أحترم جدا نضالهم - هو قبولهم بالانخراط في هذه اللعبة المهينة. ولو كنت مكانهم لقلت طيب ليكن ، لكن ليبدأ بعض الإخوة العلمانيين بطمأنتنا حول تبرؤهم من جرائم الرفيق يوسف ستالين ومن دكتاتورية البروليتاريا، والإخوة الذين قبلوا بالتعيين في برلمان مزيف بأنهم لن يكرروا فعلتهم ،والإخوة القوميين بإدانة التعذيب القومي ..الخ . من الواضح أن هناك نية داخل بعض أطراف هذا الحلف الغريب على غسل الثوب الإسلامي من لونه الأخضر ليصبح بلا لون ، ثم مسح الأقدام فيه فيما بعد . كم غريب أن يرضى أبناءالنهضة بهذا الثمن للقبول بهم في نادي بلا مستقبل.
وفي كل الحالات فإن العملية - التي سميت للتعمية مصارحة وتوضيح وطمأنة الخ - هي بالضبط ما حاول المؤتمر دوما تفاديها لاعتباره إياها عقيمة وخطرة ومضيعة للجهد والوقت ومتخلفة عن عصرها. فمنطق التجميع الذي اعتمده المؤتمر عند تشكله، والذي حاول تسويقه في" اكس"، والذي سيواصل الدعوة إليه اليوم وغدا ، في المعارضة أو في المسؤولية إن شاء الله والشعب، فهو العكس من كل هذا حيث المبدأ هو : لا ننكأ الجروح ، لا نعود لتاريخ كل واحد منا، لا نتعسف على عقيدة هذا وذاك ، لا نحاسب على ما في السرائر، لا نطلب من المختلفين أن يكونوا متشابهين ،بل ننطلق من اختلافاتنا ومن التحديات المطروحة علينا جميعا، نبحث بكل براجماتية عن القواسم المشتركة، نجند قوانا من أجل أهداف سياسية لا عقائدية، نفترض حسن النية لا سوءها، ومن تبرز عقائديته من خلف الحجاب نقول له قف نقضت روح العهد ،وعلى الضمانات التي نعطيها لبعضنا البعض أن تكون جدية وفي إطار عقد سياسي دقيق.
هذا بخصوص عقلية مبنية على إقصاء أطراف وكسر شوكة أطراف أخرى. ماذا الآن عن البرنامج ؟ كما هو معلوم حدّد 18 أكتوبر مطالبه بحرية الرأي والتعبير والتجمع وإطلاق المساجين السياسيين، ولما اعترضنا على ضعف هذا البرنامج ،وأنه من مشمولات حركة حقوقية بحّ صوتها بالمطالبة بها عقدان من الزمان ولم تأخذ شيئا ، قيل لنا أنها قاعدة لما سيأتي ( والذي لم يأت لحد الآن ) . ثم أفهمنا أن هذا هو الحد الذي يمكن أن يجمع الأطراف وما فوقه يفرّق . هكذا تحول هدف النضال السياسي من تحرير الشعب من الدكتاتورية إلى لمّ شتات معارضة هزيلة لا يمكن أن تتفق إلا على مطالب تعالج بعض ظواهر الدكتاتورية وتغفل أهم جوانبها مثل الفساد وتزوير الانتخابات، وخاصة لا تطرح القضية الأساسية وهي غياب أي شرعية لحكم الدكتاتور. هكذا أصبح الهدف (التحرير)أداة للتجميع ، وأصبحت الأداة (التجميع ) هدفا لا يمكن تحقيقه إلا على الأضعف والأسهل أي... على حساب الهدف.
وبالطبع لم تتحقق وحدة "الميكروكوزم" ، حيث بقيت خارجه كثير من المكونات.بل شاهدنا بروز شدّ وجذب داخل النهضة بين الرافضين للابتزاز والساكتين عنه، وانسحب المؤتمر على أطراف الأصابع لأن بناء هذا التجمع خضع لكل المقاييس التي نعتبرها مضرة بالمصلحة الوطنية ولا بد من اعتماد عكسها.
لا فائدة أن تحتجّ بأن المطلوب ليس التجميع من أجل التجميع ...أنه لا يهمّ ألا يوجد سي فلان وللة علانة... ولا أن يكون كل الطيف ممثلا،إنما المهم رصد ما يتطلبه الوضع والعمل على أساسه ولوبدأنا من الصفر. يخرجون عليك آنذاك بنظريتهم العصماء أن السياسة فن الممكن ، وأنه على قدر بساطي أمدّ رجليّ ، وأن موازين القوى في الأرض وفي المريخ تحتم علينا ما تحتم ...الخ . المشكلة أنهم على حق ...لكن مثل من يقول لك هذا الكأس نصف فارغ...وهو أيضا نصف ملآن.
كانت السياسة وستبقى إلى أبد الدهر مدرستان وتوجهان وعقليتان. الأولى هي مدرسة فن الممكن التي تقصر السياسة على التأقلم الدائم مع موازين القوى، وإظهار كل المرونة مع المبادئ المصرح بها علنا واعتبار الغاية تبرر الوسيلة،والمحرك هو المصلحة للوصول للسلطة والمحافظة عليها بأي ثمن، والاستمتاع بها أطول وقت ممكن . الثانية هي مدرسة فن المستحيل، وهذه هدفها تحقيق أحلام عظمى وتشجم كل الصعاب من أجل تحقيقها والسعي لقلب موازين القوى لا الخنوع لها ...والمحرك هو التضحية من أجل قضايا تتقمصنا وكأننا أدوات لقوى جبارة هي صدىتضحيات الآباء والأجداد ونداء الأحفاد أن اعدوا لنا المقام فنحن قادمون .
ربما وجود المدرستان دوما جنبا إلى جنب ، بقوة متباينة حسب الظرف ، ناجم عن كون المجتمع كائن حيّ وذكي لا يضع كل بيضه في نفس السلة. لذلك هو يدفع ببعض الطباع إلى البحث عن كيفية التأقلم مع موازين قوى ليست في مصلحته ليفتك ما يمكن افتكاكه من قوى القهر والبغي ...ثم يدفع ببعض الطباع الأخرى للبحث عن كيفية قلب موازين القوى الضرورية لتحرره ولو على الأمد الطويل.
إن علمتني الحياة والسياسة شيئا فهو عبث محاولة التخلص من المدرسة الأولى أو التنقيص من أهميتها. ربما هناك من بين أصحاب هذه المدرسة من فهم أننا نحن تلامذة مدرسة فن المستحيل جنس غير قابل للانقرتض بمجرد التهكم علينا وعلى " لاواقعيتنا ".
الثابت أنه كما للثمار فصول ، ولكل مقام مقال، فإن هناك ظرف للمدرسة الأولى والثانية. قد يكون أكبر خطأ يرتكبه السياسي المحنّك ان يلجأ للراديكالية في مجتمع مسالم غير مأزوم مبني على التفاوض المستمر والإصلاحات التدريجية لوضع مقبول عموما للجميع ... أو أن يلجأ على العكس ، كما يفعل " الميكروكوزم"اليوم ، لتسول إصلاحات ممن هو غير قابل لها وغير قادر عليها .
عندما أوصي كطبيب مريض السكري بالحمية فقط ،فليس من باب التلطف معه أو لطبعي المعتدل وإنما لأن الوضع الصحي للمصاب يتطلب ذلك، وعندما أوصي ببتر الساق فليس من باب غلظة طبيعية فيّ وميل للحلول الجذرية وتعسف على المريض، وإنما لأن الوضع الصحي للمصاب هو الذي يفرض ذلك. نعم الوضع الصحي الخطير لتونس اليوم يتطلب بتر الدكتاتورية وإلا أصيب المجتمع والدولة بتفشي " الغنغرينا"، وما عدا هذا تدجيل على مريض مسكين من قبل من يدعي شفاءه.
ولأن هناك هوة بين " العرض" و" الطلب" انفرط عقد 18 اكتوبر خاصة بعد أن اتضح أن إحدى الأهداف غير المعلنة هو أن يشكل قاعدة سياسية لمرشح مزمن لترشيح صوري في انتخابات وهمية . وعلى كل حال فهذا التجمع، المسمى حول عملية لأشخاص ،لاحول قضية وطنية ،اصبح في حكم الميت فعلى أي مشروع سياسي يمكن الآن تجنيده وقد اختار طرف الانخراط في المهزلة الانتخابية المقبلة ( مرددا دون خجل نفس التعلات البائرة وكأنه لا وزن لكل لتجارب ومنها 2004) وطرف ثاني المقاطعة وطرف ثالث أسلوب النعامة ؟ الكثير من العقم الحالي "لميكروكوزم"مرتبط أيضا بالصراع على موقع " الزعيم" . كل الناس استغربت أن 18 أكتوبر خلافا لحركة كفاية في مصر، أو إعلان دمشق في سوريا ، عجز عن تسمية ناطق رسمي إلى اليوم لحدة الصراع داخله على هذه الزعامة ، حتى بعد استبعادي كمنافس " خطير" ما نادينا به في المؤتمر أن الصراع على السلطة يجب أن يتوارى في هذه المرحلة أمام ضرورة الصراع مع السلطة، أنه من الضروري أن يضحي كل واحد منا في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ بلادنا بذاتيته وطموحاته لخلق جبة مقاومة لها قيادة جماعية تكتفي بناطق رسمي لا يمكن أن يخلطه أحد بأي زعيم أو مرشح آلي لقيادة البلاد يوما ما. بداهة لم تفهم بعض الناس أن نموذج بورقيبة انتهى - على أسوأ حال كما هو معروف- وأن المطلوب ليس احتلال موقعه الشاغر وإنماعدم تكراره ،وفي كل الحالات استنباط نموذج جديد لمن يريد نفسه حاملا لآلام وآمال شعبه.
قوس كبير يفتح هنا لمن يشكون في صدق رجال السياسة عندما يدعون الترفع عن المطامح الشخصية وحبّ الكرسي والزعامة- وهم جد محقون في شكهم هذا- ولمن يؤمنون بأن " كل واحد شيطانه في جيبه". لهؤلاء أقلب جيبي إلى الخارج ليرون ما أخفي بداخله، إضافة للنقال وبعض قطع النقد ومفتاح البيت.
ترشحت للرئاسة سنة 1994، في عنفوان الأحادية والغطرسة ، أي عندما كان الأمر مغامرة ، دفعت ثمنها أربعة أشهر سجن انفرادي ، كانت ستؤول لسنوات طويلة لولا تدخل نلسون منديلا (الذي تعرفت عليه في أوسلو سنة 1991 في مؤتمر نوبل للسلام ).كان الهدف كسر " طابو" الانتخابات الأحادية وهو ما تمّ حيث أجبر النظام ابتداء من 1999 على المرور إلى مرحلة التعددية ولو مزيّفة...وتمكن من هبّ ودبّ من إعلان ترشحه للرئاسيات لجلب الانتباه الإعلامي دون أن يخشى شيئا.
لم ولن أفتعل أبدا ترشح إعلامي لمهازل الانتخابات " التعددية" ، ولو للاحتجاج عليها ، لأن من يطالب بالمشاركة فيها ولو رمزيا يعترف بقواعدها وبشرعية منظميها، والحال أن هذه كلها فاسدة أساسا فمن يرفض قواعد اللعبة وشرعية الساهرين عليها لا يطالب بالمشاركة في الغش مدعيا تعريته . إذا قيض لي الله أن أري بزوغ فجر الاستقلال الثاني ... وإذا لم نسقط على منقذ جديد جاء لكي "يمدّ ساقيه" عشرين سنة هو الآخر... وإذا انتقلنا حقا من طور التعددية المزيفة إلى طور التعددية وبسّ،بتغيير جذري في الدستور والقانون الإنتخابي ... وإذا ارتقينا لمصاف الشعب الموريتاني .... في مثل هذه الظروف وهذه الظروف وحدها ... سأمارس حقي كمواطن حرّ في بلد تحرّر أخيرا وأتقدم للانتخابات الرئاسية ببرنامج ورؤيا المجموعة التي ناضلت داخلها دون هواة من أجل تونس. وإن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، فلا خوف على الأحلام العظمى أن تموت، وسيأتي بعدنا من تسكنهم الروح التي سكنتنا : لا مساومة في حقوق غير قابلة للتصرف ولا تخلي عن الأهداف التي ضحت من أجلها الأجيال : شعب سيد نفسه ، دولة شرعية ، مواطن محفوظ الكرامة...كل هذا فعلا لا قولا.
* وختاما : خلافا للصورة القاتمة التي يشيعها التونسيون عن أنفسهم ، قناعتي المطلقة المبنية على ربع قرن تجربة إن بلادنا تعج بالأبطال والبطلات المغمورين ، بالنفوس النبيلة، بالأرواح الأبية ، بالطاقات القادرة على تحقيق الاستقلال الثاني ...وهم ، وهن ، في كل المستويات ، في البيوت في المعامل، في الجامعات، في الثكنات، في مخافر الشرطة، في المنافي وفي الداخل ، في الرديف وفي جندوبة وفي كل شبر من أرض الوطن المحتل . المهم أن يسترجع كل واحد منا ثقته في نفسه وفي الوطن وأن يتحمل قسطه من المسؤولية في بناء جبهة المقاومة ، كل من موقعه ، وتحريك أشكالها بكل ما تتفتق عنه عبقرية الشعوب من وسائل وبالتقنيات الحديثة التي يوفرها لنا العصر، وبكل الإصرار لمن وعدوا بأن القدر سيستجيب لهم إن هم أرادوا فعلا الحياة .
تحية إكبار للذين مشوا خطوة إضافية في طريق التحرر في هذا اليوم الذكرى ...26 جانفي 1978 . تحية إكبار لطلبة سوسة والقيروان وتونس وعمال قفصة والرديف في أوج مقاومتهم للمحتل الداخلي ومن أجل الاستقلال الثاني . تحية إكبار لأبطال غزة وهم في أوج مقاومتهم المحتل الخارجي من أجل الاستقلال الأول ...وإنها لمقاومة حتى النصر.
* أنظر على الموقع : "الاستقلال الثاني" - من "الخراب إلى التأسيس"- "عن أي ديموقراطية تتحدثون؟" - "الإنسان الحرام" - "حتى يكون للأمة مكان في هذا الزمان".
**للمصرّين على الخلط بين العلمانية والإلحاد ، أذكّر أن العلمانية موقف سياسي عملي يرفض تحكم الدولة في الدين (كمراقبة الداخلية لخطب الجوامع في تونس) مثلما يرفض تحكم الدين في الدولة (كإجبار النساء على وضع الخمار في إيران، أو إطلاق عصابات الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف في السعودية ) ويدعو لتكون الدولة مستقلة عن الدين ( أي عن الشيوخ الناطقين باسمه) وليكون الدين مستقلا عن الدولة ( أي عن السياسيين وأجهزتهم الساعية لتفويضه في الصراع على السلطة ) .أما الإلحاد فهو موقف فكري نظري يقول بعدم وجود الله. بخصوص العلاقة بين العلمانية والإلحاد . هي نفس العلاقة بين العلمانية وحب الكسكسي بالعصبان أو قل هي نفس انعدام العلاقة لأنك أمام ظاهرتان مستقلتان . كونك علمانيا لا يجعل منك آليا من مفضلي الكسكسي بالعصبان ورافضا لما عداه من أصناف الأكل، مما يعني إجباريا وجود علمانيين يفضلون الكسكسي بالعصبان وآخرون يكرهونه لما في داخله من قاذورات ويفضلون عليه المقرونة بفواكه البحر. بعبارة أخرى كما يوجد علمانيون ملحدون يوجد علمانيون مؤمنون منهم كاتب هذه السطور. آخر إنذار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.