تشير التقارير الواردة من تونس أن حملة كبيرة تقوم بها السلطات هناك لفرض ما تسميه "باللباس اللائق " و التضييق على ما تصر على كونه "زيا طائفي " مستوردا من المشرق و لا يمت لتقاليد البلاد بصلة و قد وصل الأمر إلى إحصاء الملتزمات به في الإدارات العمومية و المعاهد و الجامعات و إصدار الأوامر الصريحة للمشرفين عليها بتطبيق المنشور 108 الذي أعادت السلطة إعلان التمسك به بعد أن ظن الكثير أنه لم يعد ساري المفعول . و الملاحظ أن هذه الحملة قد بدأت هذه المرة مع افتتاح السنة الدراسية التي كانت متزامنة مع شهر رمضان المبارك ، شهر العبادة والصيام و القيام وكان ذلك مناسبة لعودة السجال من جديد بين أنصار الإسلام الذين يرون أن الالتزام بالحجاب واجب ديني على المرأة المسلمة و دعاة العلمانية المتطرفة الذين يؤكدون على أنه يعبر عن قراءة متحجرة للنص القرآني و أنه من الرموز السياسية التي ابتدعها المتطرفون ويروج لها مشائخ الفضائيات الذين يعبرون بخطابهم عن واقع مجتمعات إسلامية لم ترتق بعد إلى ما وصل إليه المجتمع التونسي من إقرار بحرية المرأة ومساواتها للرجل . و ليست هذه أول مرة تتعرض فيها المحجبات في تونس إلى التعسف والانتهاك و لكن الجديد اليوم هو المحاولة الساذجة التي يقوم بها الحزب الحاكم أو بالأحرى الجماعات المتنفذة فيه لتقديم الموقف على أنه دفاع عن الإسلام" الصحيح "، فهل بلغ بعض التجمعيين هذه السنة كما يبدو درجة الحجاج و المناظرة باسم الدين فأصبحوا يدافعون عن مذهب معين فيه يفهم الآيات القرآنية الواردة في باب الحجاب على أنها لا تلزم بستر جسم المرأة ولكنها تدعو فقط للباس المحتشم ؟؟ . و بلغ الأمر ببعض السياسيين و المثقفين الذين لا صلة لهم بعلوم الشريعة و الدين أن يدلوا بدلوهم في هذه المسالة والإيحاء بأن على القائمين على شؤون الدين في المجتمع التونسي العمل على إقناع رواد المساجد بهذه القراءة و اعتبارها جزءا لا يتجزأ من تقاليد البلاد و أصالتها ... بيد أن العارفين بخبايا الأمور في تونس لن يصعب عليهم التعرف على الحقيقة و المتمثلة في أن الأمر يتعلق برؤية موروثة عن العهد البورقيبي . فالرئيس التونسي السابق الذي دافع عن الحجاب قبل الاستقلال باعتباره جزءا من هوية البلاد صار مباشرة بعد أن تحقق الاستقلال داعية للسفور الذي يرى فيه رمزا لتحرر المرأة ومساواتها بأخيها الرجل كم يقول ، فالمسألة إذن في أصولها صراع بين مشروعين متعارضين مشروع التحديث على مذهب بورقيبة ومشروع الأصالة و الهوية الذي تدعو إليه الحركة الإسلامية .. ويبدو أن تأكيد رموز الحركة الإسلامية على أن عودة الحجاب هو دليل على فشل مشروع التغريب و التفاف التونسيين حول أصحاب مشروع الهوية والإسلام قد لعب دورا في تحريض هذه الجماعات العلمانية المتطرفة المعنية بالدفاع عن مواقعها و مستقبلها في السلطة ،تحريضها على القيام بعمل ما لإثبات نجاحها وقدرتها على فرض إرادتها و كنا قد نبهنا لذلك أكثر من مرة في كتابتنا عن ضرورة البعد عن الخطاب الذي من شانه أن يسيس الصحوة الجديدة بكل مظاهرها ، و المحافظة على حقيقته كونها تعبيرة ثقافية أصيلة لا علاقة لها بالصراع على السلطة حتى وإن كانت مساهمة الفضائيات العربية في انبعاثها لا لبس فيها . يبقى موضوع علاقة الحجاب بحرية المرأة ، فمثلما يعتقد الإسلاميون أن التزام المسلمة بحجابها هو رمز لتمسكها بإنسانيتها وتعلقها بحريتها و رفضها لمغريات السماسرة الذين تهمهم المتاجرة بجسدها واعتماد ذلك صناعة لجمع الأموال و إفساد الأجيال ، فإن العلمانيين يقدمون رؤيتهم التي يريدون فرضها على التونسيات على أنها دفاع عن حرية المرأة و حفظ حقوقها وأنهم يفعلون ما يفعلونه بالمتحجبات لحمايتهن من" الأفكار الظلامية " التي تسللت إلى عقولهن من دون أن يشعرن بخطرها على مستقبلهن ، وهم لا يتوجهون بذلك لفتيات المدارس فقط و إن فعلوا ذلك فيمكن أن ننظر في سياستهم على أنها منهج تربوي لحماية المرأة و الدفاع عنها وهي فتاة قاصرة يمكن أن يمارس عليها الأولياء ضغوطا لا قبل لها بمواجهتها حتى وإن كنا لا نرى في ذلك وجاهة تذكر ولكنهم يفعلون ذلك مع النساء في مختلف مراحل العمر و خاصة منهن الطالبات و الموظفات أي أنهم يريدون فرض منطقهم الغريب على المرأة باعتبارها قاصرة مهما كان مستواها الثقافي و مهما كانت درجتها العلمية و هو لعمري أمر غريب .. و الأغرب منه أن يصدر عن أناس يرددون دون كلل أو ملل أنهم مثقفون حداثيون متشبعون بقيم الحداثة و حقوق الإنسان و حرية المرأة!!؟؟ ... وعندما يتحدث السيد المهني أحد كبار مسئولي الحزب الحاكم عن كونه لو سمح اليوم بالحجاب فسوف يأتي يوم يُفرض فيه على المرأة البقاء في البيت ويُحرّم عليها التعليم و الشغل .أو كما قال ؟! نصاب بالصداع ووجع الرأس ونحن نتابع كيف يدافع هذا السياسي عن المرأة وهو يأمر بطردها من وظيفتها أو يفرض عليها الانقطاع عن الدراسة إذا اختارت الالتزام بالحجاب .أيمكن أن نحمي المرأة من الفكر الظلامي بتحويله إلى أمر واقع عن عجل ؟! و لكن على أيدي خصومه و أعدائه ... و حسبنا الله ونعم الوكيل . إن قيم التسامح ومبادئ الحرية وحقوق الإنسان يُضحّى بها هذه الأيام في تونس في خضم مزايادات سياسية رخيصة و المؤسف له حقا أن قسما من نساء تونس اللائي لا علاقة لهن بكل ذلك يدفعن ثمنها بدموعهن وكرامتهن ومستقبلهن ... فقبحا لهذه السياسة و ترحا لرجالها .