أعود في مقال اليوم مكرها الى الحديث عن اختطاف حزب التجمع الدستوري الديمقراطي منذ أن كان يحمل تسمية الحزب الاشتراكي الدستوري في بداية الثمانينات,حيث وقع الاستيلاء على واحد من أعرق الأحزاب السياسية العربية منذ أن دخلت تونس الحديثة في تاريخ الهزات الاجتماعية على سنة 1978,حيث بدأت تعتمل لدى الرئيس بورقيبة فكرة مواجهة التيار الاسلامي بعد ان عرف طريقه الى النور في شكل تصريحات سياسية مباشرة على واجهة مجلة المعرفة التونسية انذاك. لم تكن تصريحات الأستاذ راشد الغنوشي يومها تعليقا على مستجدات تلكم الأزمة مزعجة للسلطة بحكم انها لم تكن محتفلة بما أحدثته تلكم الجماهير العمالية الثائرة من حالة غضب عارم على اثر مواجهات دامية قيل أنه كان ضحيتها 600 شخص مابين قتيل وجريح. كانت سنة 1978 سنة الظهور السياسي المباشر لما حمل يومها تسمية الجماعة الاسلامية في تونس,ثم جاءت الثورة الخمينية في ايران لتحدث حالة من الابتهاج السياسي غير المسبوق لدى أنصار هذه الجماعة ,ولو أن الأمر لم يتجاوز حينها مراحل من التعاطف السياسي المصحوب بمحاولات اختراق تنظيمي لهذه الجماعة من قبل بعض العناصر الشيعية التي حملت مباهج الثورة السياسية كما انتماءاتها المذهبية. كانت أجهزة الأمن في تونس يومها وعلى العهد الذي بدأ فيه الرئيس بن علي تقلد أعلى مراتب الجهاز الأمني في تونس ,ترقب عن كثب تحول الجماعة الاسلامية من الاهتمامات الفكرية والثقافية والدعوية الاجتماعية الى الاهتمامات السياسية المباشرة,لتفاجأ هذه الجماعة سنة 1981 بمباغتة أمنية انكشف على اثرها حجم انتشارها التنظيمي وطموحها السياسي وكان أن دفعها الى محاولة استباقية للاحتماء بالقانون عبر الاعلان عن نفسها كحركة سياسية بتاريخ 6 جوان 1981 تحت تسمية حركة الاتجاه الاسلامي. لم يفلح قانون الأحزاب الحديث الذي اذن به بورقيبة على اثر خلاف داخل اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الدستوري في بداية الثمانيانات وأواخر السبعينات في امتصاص حجم الانكشاف لتأتي الارادة البورقيبية انذاك بشن حملة اعتقالت واسعة في صفوف هذه الحركة لتطاول أيامها حوالي الف كادر أو أقل من كوادر هذا الحزب المتوثب على هيئة نمر كما بدى لاحقا في أدبيات منشورة ورقيا لحركة الاتجاه الاسلامي. كانت الفرصة يومها سانحة لليسار الماركسي في تونس من أجل تدشين مسافة التقارب مع هياكل الدولة وحزبها الرسمي فجاءت المؤشرات الأولى على ذلك في شكل منشور فضيحة مازال التونسيون والتونسيات يعانون منه الى حد هذا اليوم,وهو المنشور الذي استهدف بموجبه الحجاب ابتداء من سنة الاعلان رسميا عن مولد حركة الاتجاه أي سنة 1981. بدأت بعض أجنحة اليسار التونسي انصافا وليس كل أجنحته تعرف طريقها الى الزواج الممتع مع قصر قرطاج وأجهزة الحزب الحاكم كما هياكل الأمن في تونس منذ أن ظهرت محاكمات الاتجاه,حيث اعتمد الزعيم الراحل بورقيبة وبعض حوارييه على اللعبة السياسية الشهيرة منذ سنة الاستقلال الأولى وذلك عبر ضرب اليسار باليمين ثم اليمين باليسار ليخرج الزعيم من كل ازماته أبا حنونا عطوفا على كل التونسيين ولكن بعد تقديم قربان سياسي أو وزاري بارز على مذبح الاستقرار والاستمرارية في الحكم . ومع سنة 1986 نجح التغلغل المعادي لهوية البلد وشعبها ولسانها وحضارتها الاسلامية السمحاء,في دق اسفين في حكومة الأستاذ محمد مزالي ومساعديه الكبار عبر اللعب على هواجس بورقيبة في الاستمرار في صناعة القرار,فكان ان فر هذا الأخير متنكرا في زي رجل تونسي عجوز عبر الحدود الجزائرية لتشهد دماؤه وثيابه وجراحه على خطورة مرحلة وصلت اليها البلاد التونسية. كادت نفس هذه اللعبة أن تأتي على الرئيس بن علي يوم أن كان وزيرا للداخلية ورئيسا لوزراء تونس حيث أفلح البعض في ايغال صدر بورقيبة عليه ليتخذ قرارا لم يعلن بعد بعزله وربما سجنه ...,فقبل أيام قلائل من تاريخ 7 نوفمبر 1987 جلس السادة الهادي البكوش والحبيب عمار بصحبة الرئيس بن علي رئيس وزراء تونس يومها ليتدارسوا الموقف في حين كانت سعيدة ساسي تتظاهر بالبكاء على القرار النحس الذي سيتخذه الزعيم الراحل. لم تنجها دموعها من القرار الصعب الذي عرف طريقه الى الانجاز في ساعة متأخرة من ليلة السابع من نوفمبر حين تم استبدال الحرس الرئاسي وقطع الخطوط الهاتفية ليفتح قصر قرطاج أبوابه للحظة تاريخية جديدة. ورثت الدولة التونسية مع نجاح الانقلاب الأبيض الذي أزاح رئيسا هرما لم يقدر قيمة التداول على السلطة في تاريخها المناسب,ورثت جهازا حزبيا وأمنيا مخترقا الى أبعد الحدود من قبل بعض قوى اليسار التونسي حتى حكى بعضهم من الثقات بأن الشيخ عبد الفتاح مورو كان يحاول ايامها الاتصال مباشرة بالرئيس بن على من منفاه بالمملكة العربية السعودية غير ان ابرز المستشارين من ذوي الخلفية اليسارية كانوا حريصين على الحيلولة دون تواصل هرم الدولة مع هرم حركة الاتجاه. واستمرت حالة الانتشار اليساري في أجهزة الحزب الحاكم لتعرف أوج قوتها بعد اعتلاء محمد الشرفي منصب وزارة التربية ,فكانت التغييرات الجوهرية في برامج التعليم وكانت الخطة الورقية الشهيرة التي حملت تسمية خطة تجفيف الينابيع,والمقصود بها استئصال جذور التدين في تونس عبر ممارسة سياسة تطهير فكري وثقافي تحت مسمى اصلاح التعليم وممارسة عملية تصفية ذهنية وأمنية تمس كل مجالات الحياة الثقافية والفكرية في تونس. لم تكن الحرب المعلنة على التيار الاسلامي في بداية التسعينات الا واجهة معلنة لهذه الحرب,غير أن جذورها وخلفياتها كانت أعمق حيث وقع توريط أجهزة الدولة في حالة اشتباك مع ثقافة البلاد وحضارتها العربية والاسلامية,ولعل الخطأ السياسي الكبير الذي ساعد على الانزلاق السياسي باتجاه المواجهة هو نجاح النهضة بعد ان اعلنت عن تغيير اسم حركة الاتجاه في افتكاك الأضواء الاعلامية السياسية الداخلية والخارجية بعد منازلتها القوية في الانتخابات البرلمانية لسنة 1989. فشلت المواجهة الأمنية في تحقيق أغراضها السياسية والايديولوجية المباشرة مع عودة التدين بقوة الى تونس في أواخر التسعينات ولم يكن للنهضة هذه المرة ولا للغنوشي ولا لمورو أي دور في بعث الصحوة التونسية الثانية . كان الحجاب كطائر العنقاء الذي ينبعث من تحت الرماد وكان امتلاء المساجد بروادها من الشباب مظاهر عبرت عن اصالة شعب برغم محاولات الوأد والقهر السياسيين,فجاءت اعادة احياء المنشور 108 الفضيحة الذي اعتدى على حق المرأة التونسية فيما تختاره من لباس,ولم يفلح المنشور في التحول الى طوطم يخيف التونسيات وكانت الاحصائيات التي تقول بوجود محجبة على كل ثلاث نسوة,ومن ثمة كان لابد من ارفاد هذا المنشور المهزلة بعصا البوليس الذي سئم نار المعارك السياسية المفتعلة منذ بداية التسعينات...ولم يكف النفخ في روح هذا المنشور الذي يعرف طريقه اليوم الى الاحتضار ,بل جاءت سياسة احياء الكافيشنطات البائدة منذ حوالي عشرين سنة لتكون واحدة من الطرق الفاشلة في تذويب هوية وانتماء شعب,فهناك في تونس لم تعد الحرب على الحجاب كافية لوحدها من اجل تخويف شرائح نسائية واسعة ومعتبرة,بل كانت المقاهي المفتوحة بنهار شهر رمضان المعظم ثم المقاهي الليلية التي تنظم حفلات الكافيشنطا التي هي اشبه ماتكون بحفلات ماجنة في شهر القران والصيام ,كانت ورقة تعبر عن فشل جزء من النخبة النافذة في الحكم في مواجهة ماتعرفه البلاد من حالة انعطاف ثقافي وفكري واجتماعي باتجاه الهوية العربية الاسلامية. وبالتوازي فرضت بعض القوى الخارجية النافذة عالميا قانونا لمكافحة الارهاب,فسارعت بعض القوى النافذة في الحكم الى استعماله كورقة سياسية في غير محلها ووظيفتها واهدافها وخلفياتها من اجل شن حملات اعتقال في حق العشرات ممن بدأ يتلمس طريقه للبحث عن الاسلام في هدوء وسط تحولات عالمية متسارعة. كانت هذه حلقات مسلسل اختطاف التجمع الدستوري الديمقراطي من الأيادي الأمينة التي أسسته ورعته من أجل تحرير تونس من الاستعمار ثم بناء الدولة المدنية الحديثة,ولقد شجعت بعض تناقضات بورقيبة وتقلباته السياسية بعض القوى الراديكالية المتعصبة على استغلال هذه التناقضات من اجل ممارسة الوصاية على ميراث تجربة سياسية ثرية لم تخل من السلبيات الكثيرة في الحكم,غير أن تونس المعاصرة بشعبها المبدع والخلاق والمتسامح وبمدارسها الفكرية القديمة والحديثة المتلاقحة سوف لن تفشل في افراز مدارس متعقلة من اليسار المجدد والمناضل كما الاسلام التحديثي الذي يعترف للمجتمع بسلطانه الكبير على الدولة وللدولة بواجبها في حماية عقائد ومؤسسات شعب ومكاسب جماهير ,كل ذلك من أجل استرجاع الريادة السياسية لتونس وسط منطقة تعرف كثيرا من التقلبات والتحولات. 17 رمضان 1427 ه. لمراسلة كاتب المقال يرجى الاتصال على : [email protected]