الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    زيتونة.. لهذه الاسباب تم التحري مع الممثل القانوني لإذاعة ومقدمة برنامج    لدى لقائه فتحي النوري.. سعيد يؤكد ان معاملاتنا مع المؤسسات المالية العالمية لابد ان يتنزل في اختياراتنا الوطنية    ماذا في لقاء سعيد برئيسة اللجنة الوطنية الصلح الجزائي..؟    أخبار المال والأعمال    سليانة .. رئس الاتحاد الجهوي للفلاحة ...الثروة الغابية تقضي على البطالة وتجلب العملة الصعبة    وزير السّياحة: تشجيع الاستثمار و دفع نسق إحداث المشاريع الكبرى في المجال السّياحي    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    «الشروق» ترصد فاجعة قُبالة سواحل المنستير والمهدية انتشال 5 جُثث، إنقاذ 5 بحّارة والبحث عن مفقود    اليابان تُجْهِزُ على حلم قطر في بلوغ أولمبياد باريس    سوسة.. دعوة المتضررين من عمليات "براكاجات" الى التوجه لإقليم الأمن للتعرّف على المعتدين    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    بالثقافة والفن والرياضة والجامعة...التطبيع... استعمار ناعم    حركة النهضة تصدر بيان هام..    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تراجع الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    منوبة.. الإطاحة بمجرم خطير حَوّلَ وجهة انثى بالقوة    برنامج الجولة الأولى إياب لبطولة الرابطة الاولى لمحموعة التتويج    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    السجن ضد هذه الإعلامية العربية بتهمة "التحريض على الفجور"    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    كرة اليد: الترجي في نهائي بطولة افريقيا للاندية الحائزة على الكؤوس    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    وزارة التعليم العالي: تونس تحتل المرتبة الثانية عربيًّا من حيث عدد الباحثين    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    وزير الشباب والرياضة يستقبل اعضاء فريق مولدية بوسالم    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    أنس جابر تستهل اليوم المشوار في بطولة مدريد للماسترز    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 25 أفريل 2024    كاس رابطة ابطال افريقيا (اياب نصف النهائي- صان داونز -الترجي الرياضي) : الترجي على مرمى 90 دقيقة من النهائي    هام/ بشرى سارة للمواطنين..    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لغة الثورة وثورة اللغة: بحث في واقع وتحدّيات اللغة العربيّة واستشراف للآفاق
نشر في الوسط التونسية يوم 08 - 04 - 2013

إلى أيّ مدى يدرك العالم العربي وخاصّة النخبة السياسيّة والفكريّة قيمة الاهتمام بإشكاليّات اللّغة في بناء الحضارات المعاصرة والأنظمة الثوريّة النّاشئة؟ وفي هذا الإطار، أردت أن أطرح هذه الأسئلة المؤرقة على إخواني وأخواتي من القرّاء والباحثين من خلال هذه المقاربة، التي تبحث في واقع اللغة العربيّة بعد الربيع العربيّ، على أمل أن يُعملوا فيها عقولهم، ويبدوا وجهات نظرهم، ويطرحوا هذه المسألة للنّقاش في ساحات الفكر والعلم، بل داخل المجتمع العربيّ بأسره، ولا أدّعي امتلاك الحلول الأكيدة للمشكلات المطروحة في علاقتها باللّغة عامّة وبالعربيّة خاصّة، وإنّما هي محاولة طرح بحثيّ، شحذا للهمم، ودعوة للمهتمّين بهذا الحقل الحضاريّ، أن يدلوا بدلوهم، وأن يساهموا كلّ من موقعه في إيلاء المسألة اللّغويّة ما هي جديرة به من اهتمام وبحث وإبداع.
*باحث تونسيّ مهتم بقضايا الفكر الإسلامي والّلغة العربيّة مركز العلوم الشرعيّة الإسلاميّة، جامعة توبنغن ألمانيا.
بعد أن انبلج فجر الحريّة في عدد من البلدان العربيّة، على ما يزال يعترضها من طريق وعرة، وبعد أن تحوّلت الثورة من أضغاث أحلام إلى واقع ملموس، آن الأوان حسب اجتهادي المتواضع أن يلتفت أهل الفكر والرأي إلى سؤال آخر لا يقلّ شأنا عن التحدّيات السياسيّة والاقتصاديّة التي تتنظر الشعوب العربيّة الثائرة، التوّاقة إلى واقع مستنير بديلا عن غياهب الجهل والقمع التي كبّلتها عقودا بل قرونا طويلة ماضية. يتعلّق هذا السؤال بأسّ هامّ من أسس حضارتنا الإسلاميّة العربيّة وكذا بمستقبل الأجيال القادمة الّتي ستحمل آمال النّهضة والبناء، بعد أن تحمّل من قبلها آلام الثورة والشقاء. إنّه السؤال الشائق الشاقّ عن لغتنا العربيّة وحالها في ظلّ الثورات الأخيرة. هل تحتاج الفصحى أو على الأقلّ نظرتنا لها أيضًا لثورة؟
هل استفادت العربيّة من التحوّلات السياسيّة والفكريّة العاصفة في السنتين الأخيرين؟
؟ إلى أيّ مدى يدرك العالم العربي وخاصّة النخبة السياسيّة والفكريّة قيمة الاهتمام بإشكاليّات اللّغة في بناء الحضارات المعاصرة والأنظمة الثوريّة النّاشئة؟ وفي هذا الإطار، أردت أن أطرح هذه الأسئلة المؤرقة على إخواني وأخواتي من القرّاء والباحثين من خلال هذه المقاربة، التي تبحث في واقع اللغة العربيّة بعد الربيع العربيّ، على أمل أن يُعملوا فيها عقولهم، ويبدوا وجهات نظرهم، ويطرحوا هذه المسألة للنّقاش في ساحات الفكر والعلم، بل داخل المجتمع العربيّ بأسره، ولا أدّعي امتلاك الحلول الأكيدة للمشكلات المطروحة في علاقتها باللّغة عامّة وبالعربيّة خاصّة، وإنّما هي محاولة طرح بحثيّ، شحذا للهمم، ودعوة للمهتمّين بهذا الحقل الحضاريّ، أن يدلوا بدلوهم، وأن يساهموا كلّ من موقعه في إيلاء المسألة اللّغويّة ما هي جديرة به من اهتمام وبحث وإبداع.
تجدر الإشارة في هذا السياق أنّ عددا من الإسهامات القيّمة من الباحثين العرب، وحتّى من رجال السياسة الذين فازوا بثقة شعوبهم في أوّل التجارب الديمقراطية الخاصّة بالتحدّيات التي تواجه لغتنا العربيّة بعد الثورة، تجدّد فينا الأمل في إمكانيّة إدراك قيمة المسألة اللغويّة في حاضرنا ومستقبلنا، وتغيير ما طرأ على تجاربنا السابقة من مواطن الوهن والخلل. غير أنّي شخصيّا أطمع من زاوية المواطن العربيّ أوّلا والباحث الأكاديميّ ثانيًا أن تتكاثر الدراسات والبحوث في هذا المجال، حتّى تجني الأجيال القادمة على الأقلّ بعضا من ثمار هذا الجهد الحضاري. 1
وباعتبار ما يزخر به هذا الموضوع من جوانب بحث مختلفة، وتجنّبا لتشعّب أركان هذا الطرح، أودّ أن أتناول في هذه الدراسة العناوين الرئيسيّة التّالية:
1 اللّغة العربيّة وعهود الاستبداد السياسي، ثنائيّة الاستعداء والتوظيف.
2 اللغة العربيّة أداة للثورة: أوهام الأمس وعودة الروح.
3 الفصحى ما بعد الثورة: البعد الحضاريّ والتحدّيات المنتظرة. الصراع الايديولوجيّ وإشكاليّة الائتلاف و الاختلاف.
4 خلاصة: أهمّ النتائج والدروس المستقاة: الثورة اللّغويّة حلم أم طموح مشروع؟
الهوامش والمراجع
1 اللّغة العربيّة وعهود الاستبداد السياسي، ثنائيّة الاستعداء والتوظيف:
اتّسمت الحياة السياسيّة العربيّة في العقود الخمسة الأخيرة كما هو معلوم بالاستبداد السياسي الأعمى، وصاحب ذلك بطبيعة الحال تدهور حضاريّ كانت اللغة العربيّة إحدى أهمّ ضحاياه. استسلم قسم من النّخبة لرغبات الطّغاة من الحكّام وأصبح راغبًا أو كارهًا من خادمي الأنظمة الطاغية في مجالات متعدّدة، ينظم لها القصائد، ويستجدي رضاها في ساحات الإعلام والفكر والثقافة، ويرفعها إلى درجات تكاد تقترب ممّا أسمّيه "ثنائيّة التنزيه والتأليه". ووقع فريق آخر ضحيّة للإحباط المخيّم على العالم العربيّ، الذي أنتج نوعا من السلبيّة التي تبلغ حدّ عدم المبالاة بالشأن اللغويّ.
ثنائيّة الاستعداء والتوظيف:
اشتركت الأنظمة العربيّة البائدة في الاعتداء على ركن أساسيّ تقوم عليه الهويّة الحضاريّة للشعوب العربيّة، وهو اللّغة. فالمتأمّل للحالة التونسيّة على سبيل المثال يخلص لا محالة إلى أنّ اللغة العربيّة من ناحية وقع استهدافها بصفة مدروسة في فترات مختلفة، بصفتها تناقض المشروع البورقيبيّ القائم على اعتبار الحضارة الغربيّة واللغة الفرنسيّة المثال المنشود، رغم ما لهذا المشروع من بعض الفضل في ميادين العلم وبناء الدولة. لقد بدأت سياسة تجفيف المنابع الحضاريّة وعلى رأسها العربيّة والإسلام منذ الاحتلال الفرنسيّ، واستمرّت في العهد البورقيبيّ، عن علم وغير علم ولن تعوز الباحث في التاريخ التونسيّ شواهد على ذلك. فاللّغة العربيّة التي يرتبط بها التونسيّون برباط تاريخيّ وحضاريّ ودينيّ وثيق، جابهت في ذلك العهد اختبارات عصيبة، تبدأ بالتأثير المتزايد للغة الفرنسيّة، وتمرّ بانحسار الدّور العلمي والحضاريّ البارز لجامعة الزيتونة، بوصفها منارة الإسلام والعربيّة في تونس والمغرب الإسلاميّ، ولا تنتهي عند استعداء غير مباشر للغة العربيّة لقيمتها البارزة في المنظومة الفكريّة عند القومييّن والإسلامييّن، الذين عانوا كغيرهم من الإقصاء والقهر السياسيّ والفكريّ. يلاحظ العارف بالتاريخ التونسيّ كذلك أنّ بورقيبة الذي حكم تونس ما يزيد عن ثلاثة عقود، لم يُلق خطابا واحدا خالصًا باللّغة العربيّة الفصحى. لقد اختلق لغة هجينة بين العربيّة والعامّية، وطلع على الشعب التونسيّ بعبارات ممسوخة، مثل تلك العبارة الشهيرة "متحصّل معناها"2.والغريب والمحزن هنا أنّ الكثيرين كانوا يصفّقون لهذه "الاختراعات" اللّغويّة، ويباركون للقادة إنجازاتهم التي تتعدّى كلّ وصف، حتّى لو بلغت من القبح أقصاه، ومن الاستخفاف بالعقول أقساه. و في نفس هذا الإطار ينتقد المفكر المغربي د.عبد القادر الفاسي الفهري ما أسماه "الحجر اللغويّ" الذي اتسمت به سياسة السلطة في المغرب الأقصى بعد الاستقلال بقوله: "وقد تميزت فترة ما بعد الاستقلال بممارسة الدولة للحجر اللغويّ على المواطن، وهضم كثير من حقوقه اللغويّة، بما فيها حقّه في التحرّر اللغوي، الذي حلّت محلّه تبعيّة لغويّة تريد في المجمل فرض الفرنسية في وظائف لا يمكن أن تكون فيها، ضدّا على ما هو مدستر بخصوص رسميّة اللغة العربية" 3 ومن جهة أخرى استخدمت الأنظمة البائدة اللّغة لعلمها بتأثيرها العميق في شخصيّة الفرد العربيّ وتكوينه العقليّ والنفسيّ، ولم يشذّ نظام بورقيبة عن هذا الاستغلال، فقد وظّف اللغة العربيّة لترسيخ مكانة القائد الملهَم، وأطلق على نفسه اسم "المجاهد الأكبر"، واختصّ جزء من حاشيته بالتطبيل اللغويّ وصياغة اللغة السائدة في تونس على مقاسه. ولم يخلُ تاريخ تونس الحديث في نظام بن علي من نفس التوظيف الرّخيص للعامل اللغويّ، فقد أطلّ على التونسيّين، وهو من لم يكمل تعليمه، بكلمات رنّانة، صيغت له بعناية، لتلميع صورة نظامه المتوحّش، مثل "العهد الجديد"، و"صانع التغيير"، و"دولة القانون والمؤسسات". من المضحكات المبكيات أنّ الحكّام العرب استنسخوا التوظيف اللغويّ الرخيص واشتركوا فيه، إلى درجة الهوس بأسمائهم وأسماء أبنائهم و "إنجازاتهم"، ونشرها إلى جانب صورهم في كلّ شارع ومدرسة مستشفى وكلّ مرفق من مرافق الحياة العامّة والخاصّة، فكانت محاولة مدروسة للإحاطة بلغة وعقل وتفكير الإنسان العربيّ أينما كان عبر تحديد "النّمط اللغويّ" السائد. لقد أصبحت كلمات معيّنة شبه مقدّسة في عهودهم، في ليبيا أصبح كلّ شيء "الفاتح" وفي تونس جعل بن علي عبارة "العهد الجديد" وتاريخ "السابع من نوفمبر" فرض عين على كلّ تونسي ّحتّى أصبح التونسيّون يتندّرون بعبارة " مجزرة العهد الجديد"، التي تصلح اسما لمحلّ لبيع اللّحوم، كما تصلح لوصف نظام بن علي الغاشم. و في المقابل استعمل طاغية تونس ومن يأتمر بأمره منظومة دلاليّة سلبيّة لمحاصرة كلّ من يخالفه الرأي، فألف التونسيّون من بن علي وحاشيته نعت أعداء النظام "بالتطرّف" و"الإرهاب" و"الظلاميّة"، وشهدت عقود الجمر استهداف الآلاف من أصحاب الفكر الحرّ بمجرّد إلصاق هذه التهم بهم، أو قل إلصاق الكلمات، مجرّد كلمات كانت كافية لتحديد مصير إنسان، ومن هنا يتبيّن للباحث على الأقلّ على المستوى العلميّ السلطة الجبّارة التي تمتلكها اللغة، ويمتلكها من يستغلّ اللغة ويحدّد السياسة اللغويّة، ويشير المفكّر ميلود ادجاون في هذا الصدد إلى سلطة اللغة إذ "تحتفظ الألفاظ بسلطة مقدّسة وخارقة على الأشياء بالمقارنة مع سلطة الأشياء على الألفاظ، إذ عوض أن يقوى العكس عند الأمم، كما يقرّ بذلك العلم، نعثر في البشريّة على عادة متواترة وطبيعة متأصّلة في تقديس اللفظ وإخضاع الفكر لسلطته" 4 و يتأكّد مجدّدا أنّ اللّغة كانت أداة للسلطة للسيطرة على الشعوب، والحال أنّها ملك للأمّة ويفترض أن تكون عاملا على التحرّر والإبداع، وأستعير هنا عبارة المفكر عبد الوهاب المسيري رحمه الله :"واللّغة بالتالي تصبح تعبيرا عن موازين القوى لا أداة للتواصل، ودلالة الكلمات بفرضها القويّ على في عالم لامعنى له ولا غاية"5
وتشترك الأنظمة العربيّة البائدة في استغلال اللغة كأداة لتخدير الشعوب وإلهاءها بمفاهيم غامضة أو فضفاضة أو مضحكة أحيانا، فقد عاش الشعب الليبي ردحا من الزّمن تحت سحابة غامضة تلفّ مفاهيم "الجماهيريّة" و"المؤتمر الشعبيّ العامّ" و"القائد" ، وهلّل العرب لقادة نصّبوهم حكّاما مقدّسين باللّغة قبل أيّ شيء آخر، وابتدع هؤلاء مفاهيم رنّانة غازلت الوجدان العربيّ زمنا بشعارات "البعث"، و"الثورة" و"الحركة التصحيحيّة" و"الوحدة" و"الأمّة الواحدة ذات الرسالة الخالدة"، ليتّضح للشعوب العربيّة بعد الانطلاق في استعادة وعيها عبر تحويله من مستقيل إلى مستقلّ، أنّها وقعت ضحيّة ما أسمّيه كنايةً "التخدير اللغويّ"، وأنّه حان الأوان لتصنع لغتها، التي تعبّر بموضوعيّة عن آلامها وآمالها.
ثنائيّة الاستعداء والتوظيف
لم تسلم اللغة العربيّة في عهود "الاحتلال الدّاخلي"6 حسب تعبير المرزوقي من ثنائيّة الاستعداء والتوظيف، تشترك في ذلك الأنظمة العربيّة المعاصرة، سواء منها من تدثّر بدثار العلمانيّة ومدنيّة الدولة كالنظام التونسيّ السابق، أو من ارتدى عباءة القوميّة العربيّة والدّفاع عن الهويّة والسيادة مثلما هو الأمر في الأنظمة البائدة في مصر وسوريا والعراق، أو غير ذلك من الأنظمة. وبطبيعة الحال رزحت اللغة والثقافة و الحضارة العربيّة تحت أعباء الحالة العربيّة العامّة. لقد شهد الإنتاج اللغويّ والأدبيّ العربيّ انحسارا هائلا وكذلك مجال الترجمة، وتحديد السياسات اللغويّة، ودراسة اللّهجات، وخاصّة دراسة العلوم الحديثة المرتبطة باللغة مثل علم النفس اللغويّ، وعلم الاجتماع اللغويّ، وعلم التربية، والصّوتيّات، واللغة الحاسوبيّة بل أنّ المجامع اللغويّة العربيّة لم تنجز ما يُذكر خلال هذا العهد، أو لنقل إنّها مازالت بعيدة عن المواطن العربيّ، أو مازال هو بعيدا عنها.
2 اللغة العربيّة أداة للثورة: أوهام الأمس وعودة الروح
قبل ما يزيد عن سنتين فقط لم يكن أحد تقريبا يعتقد أنّ بإمكان الشعوب العربيّة أن تنتفض على واقع الظلم والتخلّف. لكنّ اللافت في الأمر أنّ الثورة لم تمكّن الثائرين من اكتشاف قدراتهم على تغيير واقعهم فحسب، بل مكّنت اللغة العربيّة أيضا من إعادة اكتشاف نفسها، وقدرتها على المساهمة في الثورة، فقد مثّلت جسرا متينا بين الشعب والعالم. لقد حرّكت أبيات الشابّي في لحظات فارقة وأيّام معدودة الوجدان العربيّ، وصدحت بها ملايين الحناجر، ومثّلت وسيلة التصدّي المباشر للقمع وكسرت جدار الصّمت الطويل. وغزت جملة عربيّة بسيطة وقويّة "الشعب يريد إسقاط النظام" العالم بأسره ونجحت في تلخيص أهمّ وأوكد مطالب الشعوب العربيّة الثائرة. والجدير بالذكر والبحث هنا أنّ بعض الأوهام الخاصّة باللغة التي كادت تترسّخ في العقل العربي قد بان بطلانها وتهافت حججها. فقد اعتقد البعض أنّ الفصحى لغة النّخبة، يصعب على المواطن العربيّ البسيط غير المتعلّم أن يتجاوب معها كوسيلة احتجاج وتغيير، بينما هتف الآلاف بنفس الكلمات التي تجاوزت حدود الجغرافيا والمستوى التعليمي. لقد تبيّن بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ اللغة في هذا الإطار قد تجاوزت دورها اللفظيّ والدلاليّ، لتلعب دورا نفسيّا في التشجيع والتحميس، ودورا اجتماعيّا في تجميع النّاس ونفي الفوارق بين الطبقات، ودورا سياسيّا في معركة المضطهَدين ضدّ من كمّم أفواههم، واختار لهم حتّى القاموس اللغويّ الذي يستعملونه وحرّم عليهم ما لم يوافق هواه من كلمات وتعابير ودلالات، جعلها من المحرّمات. لقد مثل تجذّر اللغة العربيّة في الوجدان العربيّ عاملا بارزا في سرعة تجاوب بعض الشعوب العربيّة الصارخة مع البعض الآخر. فرأينا عدوى الشعارات تنتقل من بلد إلى آخر، فلا تزيد جذوتها إلّا اشتعالا، ولا قوتها الدلاليّة والواقعيّة إلاّ رسوخا في قلوب المحتجّين وعقولهم. ومن هذا المنطلق فإنّ الارتفاع بالمستوى اللغويّ العامّ في المجتمع من طغيان اللهجات العامّية إلى نشر الكلمات الفصيحة يبقى حسب رأيي المتواضع هدفا ممكنا ومشروعا، على النخبة السياسيّة والفكريّة خاصّة، ان تتحمّل القسط الأوفر من مسؤوليّة تحقيقه.
وهم آخر أو ما يشبه الوهم انقشع ضبابه بمجرّد انفجار الثورة وحاول الطغاة ترسيخه بأنفسهم أو بأبواقهم الإعلاميّة المنتشرة وهو أنّ الشعوب العربيّة يقف بينها وبين الديمقراطيّة حاجز لغويّ لصعوبة المفاهيم السياسيّة على أفهام البسطاء خاصّة الأمّيّين منهم. وأثبت الواقع الراهن أنّ الأمر خلاف ذلك تماما، فقد بلغت درجة انتشار المصطلحات السياسيّة والثوريّة سرعة قياسيّة، وألفت طبقات مختلفة كلمات لم تكن تعرفها وتنتبه لها من قبل. وبقطع النّظر عن مدى وعيها بهذه المصطلحات، فإنّ آفاق المعجم السّياسي للمواطن العربيّ قد فُتحت على مصراعيها، وأصبحت في وجدان العامل والفلاّح والموظّف والطالب، والأكيد أنّ أطفال هذا الجيل الثائر قد عرفوا في مرحلة عمريّة تسبقنا بكثير مفردات مثل "الاعتصام"، "الاحتجاج"، "الحريات" و"الثورة المضادّة" و"المحاسبة" وغيرها من التعابير السياسيّة التي انتشرت في كلّ العالم العربيّ وخارجه، بعد أن انطلقت من تونس الخضراء ثورة من المؤكد أنّها مسّت أوّلا لغة الشعب وقدرته على التعبير قبل كرسيّ الحاكم.
ومن أهمّ الأوهام التي فضحتها الثورة في تونس الاعتقاد أنّ اللغة العربيّة لم تعد هي العامل الموحّد للشعب، لانتشار التأثير الفرنكفوني في البلاد، والازدواجيّة اللغويّة في المغرب العربيّ بسبب الاحتلال الفرنسي وعدم انتهاج سياسة تعريب واضحة في البلاد بعد الاستقلال. فقد سيطرت اللغة العربيّة على انتفاضة تونس سيطرة تامّة، واللّافت غياب اللغة الفرنسيّة في الثورة تقريبا، رغم أن التونسيّ يستعملها في حياته اليوميّة. لقد أعاد التونسيّون اكتشاف هويّتهم اللغويّة أيضا وتصالحوا على المستوى الوجدانيّ على الأقلّ مع اللغة العربيّة، التي تستعيد احتلال مكانتها وبعضا من بريقها المعهود.
وانطلاقا من منظور التغيّرات العميقة التي شهدتها دراسة علوم اللّغة واللّسانيّات المعاصرة، خاصّة منذ الهزّة العلميّة الجبّارة التي أحدثتها بحوث تشومسكي الذي وسع مجال دراسة اللّغة ، "فلقد بدأ توجّها جديدًا في دراسة هذا الموضوع، منذ أن نشر كتابه البنى التركيبيّة سنة 1957...فلم يعد الهدف وصف المادّة اللغويّة التي يجمعها الدارس، بل صار تفسير هذه المادّة تفسيرا يقصد إلى اكتشاف ما يكمن وراء الظاهر الذي تمثّله هذه المادّة اللغويّة"7، وبما أنّ علوم اللّغة أصبحت ترتبط بعلوم أخرى شتّى مثل علم النّفس والاجتماع والسياسة وغيرها، فحريّ بالباحث هنا أن يتساءل: لماذا لا يلتفت العرب إلى دراسة حقبة الاستبداد من منظور علم النّفس اللغويّ أو علم الاجتماع اللغويّ؟ لنتمكّن من فهم تأثير اللغة في ماضينا والأخطاء الفادحة التي ارتُكِبت تحت ستار لغويّ. أليس من الجدير مثلا دراسة القاموس اللغويّ المسيطر خلال حقبة بن علي والقذّافي وصدّام وغيرهم من الجبابرة من منظور علم الاجتماع اللغويّ، وتأثير الرقابة في تراجع الإبداع اللغويّ والأدبيّ في الوطن العربيّ؟ سؤال آخر جدير بالدّراسة من خلال علم نفس الطّفل في علاقته باللّغة: ألم يصبح الطّفل العربيّ في دول الربيع العربيّ أكثر قربا من شقيقه الفلسطينيّ بعد أن اكتشف كلمات مثل "شهيد و"جريح" و"ثورة؟ ما أودّ اقتراحه على النّخبة العربيّة من الثائرين يتلخّص باختصار في ضرورة إعادة دراسة تأثير الظاهرة اللغويّة في التاريخ العربيّ المعاصر حتّى في فتراته الحالكة بنظرة أكثر شمولا، تستلهم علوما أخرى. و أحسب أنّ ذلك لبنة أساسيّة لاستيعاب دروس الماضي، واستشراف مستقبل تزدهر فيه اللغة وتساهم في بناء النهضة الحضاريّة المنشودة.
3 الفصحى ما بعد الثورة: البعد الحضاريّ والتحدّيات المنتظرة. الصراع الايديولوجيّ وإشكاليّة الائتلاف و الاختلاف
يمكن للباحث أن يعلن بشيء من التفاؤل الذي أحسبه مشروعا أنّ مصالحة بين اللغة العربيّة والشعوب الثائرة، أو على الأقلّ فرصة للمصالحة قد بدأت ملامحها في التشكّل مع اندلاع الثورات العربيّة. ولعلّ من آثار ذلك عودة الفصحى إلى المسرح السياسيّ والإعلاميّ والثقافيّ بصفة ملحوظة. غير أنّ التحدّيات التي تنتظر جيل الثورة مختلفة ومتنوّعة، وتحتاج أوّلا إلى الاعتبار من دروس الماضي، بإيلاء ما يمكن تسميته "الظاهرة اللغويّة" ما تستحقّه من اهتمام، وإعادة الاعتبار للبعد الحضاري للّغة العربيّة بصفتها حاملة لإبداعات الأمّة، مساهمة في إشعاعها بين الأمم، ومكوّنا من مكوّنات هويّتها التاريخيّة والحضاريّة. ومن خلال بحثي المتواضع، وبالاستفادة ممّا نشره بعض الزملاء الباحثين والأكادميّين في هذا الإطار، هذه محاولة لرصد أهمّ التحدّيات التي تواجه دول الربيع العربيّة على المستوى اللغويّ:
إشكاليّة الازدواجيّة اللغويّة:
نظرا لأسباب تاريخيّة واجتماعيّة وثقافيّة مختلفة، تشكّلت أنواع مختلفة من الازدواجيّة اللغويّة في العالم العربيّ عامّة، بين الفصحى واللهجات العربيّة من جهة، ثم بين العربيّة واللّغات الأجنبيّة من جهة أخرى. و أودّ التنبيه قبل الخوض في هذا الموضوع أنّني لا أرى أنّ هذه الظاهرة ذات أبعاد سلبيّة فقط، فقد أظهرت البحوث والدراسات العلميّة أنّ "اللغة كائن حيّ"8 يؤثّر ويتأثّر، حسب تعبير جرجي زيدان، وأنّ تلاقح اللغات، بعضها من بعض، ينسجم مع القوانين التاريخيّة والمنطقيّة، ولا يضيرها مادامت محافظة على حضورها الفاعل والدائم في الدولة والثقافة والمجتمع. واللغة العربيّة، على أتمّ القدرة والاستعداد على التفاعل مع غيرها من الثقافات والألسن في غير إفراط ولا تفريط. لكنّ المشكل الذي تطرحه ظاهرة الازدواجيّة اللغويّة العربيّة يتعدّى حسب اعتقادي هذا المستوى ويتلخّص في انحسار "النّقاء اللغوي" في ميادين رئيسيّة، تكوّن مؤسسات الدولة وتعتبر رموزا رسميّة لهويّة الأمّة.
الازدواجيّة اللغويّة مع اللغات الأجنبيّة
1. بصفتي مهتمّا بدراسة اللّغات، وانطلاقا من العلوم الحديثة، فيمكن اعتبار هذه الظاهرة إيجابيّة في الأصل، إذ أنّ إتقان إحدى اللغات الاجنبيّة كالفرنسيّة أو الإنجليزيّة يعتبر مفتاحا للنّهل من العلوم الحديثة والاطلاع على إبداعات الأمم الأخري في كافّة المجالات والاستفادة منها. ولا تزيد المرء في الأصل إلّا معرفة وقدرة على التواصل الحضاريّ إحاطته بلغة عالميّة غير لغتنا الأمّ العربيّة الفصحى. غير أنّ الإشكاليّة في هذا الإطار هي طغيان اللغات الأجنبيّة على الساحة السياسيّة والثقافيّة في البلدان العربيّة. نرى ذلك في الحقيقة في كافّة البلدان العربيّة، لمن أراد أن يمعن النظر. لكنّني أركّز هنا على المثال التونسيّ، لقربي منه ومعايشتي له، فقد بدأت معركة التخلّص ممّا يسمّيه الباحث محمود الذوادي "بالإرث الاستعماري اللغويّ المسكوت عنه" ويبدو أنّها لم تنته بعد. فقد تحوّلت اللغة الفرنسيّة إلى ما يشبه العقدة النّفسيّة الملازمة للكثير من التونسيّين، إذ أنّ استعمالها بموجب ودون موجب أصبح يمثّل من منظور علم الاجتماع ما يمكن الاصطلاح عليه "بخصوصيّة ذات دلالة إيجابيّة"، أي كأنّ النطق بهذه اللغة يوحي بالضرورة برفعة المستوى الثقافيّ والتفتّح ويناقض بذلك الانغلاق والرجعيّة التي أُلصقت باللغة العربيّة بدون وجه حقّ. وجذور هذا الفكر تكمن في السياسة اللغويّة الفرنسيّة إبّان الاحتلال الذي استمرّ ثلاثة أرباع قرن، لكنّ الغريب والمحزن أنّها استمرّت في النموّ بعد استقلال الشعوب العربيّة وأينعت عقولا وعقليّات. المتأمّل في الواقع التونسيّ مثلا يلاحظ أنّ اللغة العربيّة الفصحى النقيّة من كلّ الشوائب غير حاضرة في المستويات الرسميّة، فتجد من نوّاب الشعب والوزراء والأساتذة والمفكّرين، من يتحدّث بالفرنسيّة سهوا أو قصدًا، وتجد محطّات إعلاميّة تحسبها تخاطب الفرنسيين لا التونسيين، ويطلّ منها متحدّثون يكادون يخجلون عند نطقهم بالعربيّة، لغة الشعب التونسيّ الأصيلة المتجذّرة في تاريخه وعقله وعاطفته. وجدير بنا هنا أن ننبّه أن الأجيال العربيّة الثوريّة جميعها، سواء في تونس أو مصر الشقيقة أو غيرهما من أقطار البركان العربيّ القابل للانفجار، مطالبة بالبحث العميق في هذه المعضلة. وأطرح هنا سؤالا قد يبدو بسيطا للبعض، لكنّه عند العارفين ذو دلالات حضاريّة عميقة: بقطع النّظر عن مسألة اللغات الأجنبيّة، هل أصبح من المقبول، بعد الثورات العربيّة، أن يلقي رئيس عربيّ خطابا مليئا بالأخطاء اللغويّة كما عهدنا ذلك زمنا؟ أمّا أخطاء الإعلاميّن والأكادميّين في استعمال الفصحى، فقد باتت موضوعا مستقلّا للدراسة 9 لقد عشت شخصيّا سنوات عديدة في الغرب فلم أشهد زلّة لغويّة واحدة ارتكبها السياسيّون الألمان أو الغربيّون أثناء مخاطبتهم لشعوبهم أو تمثيلهم لها في المحافل الدوليّة، ما يدلّ بلا ريب على. احترام اللّغة الوطنيّة ومكانتها في الدولة والمجتمع. وهذا ما يقودني مجدّدا إلى التحليل المتميّز للأستاذ الذوّادي، الذي خلص إلى تحديد معالم السيادة اللغويّة، التي أستعير منها هنا خاصّة:10
الاستعمال الكامل للّغة الوطنيّة على المستويين الشّفهيّ والكتابيّ.
احترامها والاعتزاز بها والغيرة عليها والدّفاع عنها.
اقتران اللغة الوطنيّة بتحديد هويّات الأفراد والجماعات في تلك المجتمعات.
ورغم تأييدي لرأي الأستاذ الذوّادي بخصوص المقاييس المذكورة، فإنّني أفضّل هنا بعض التفصيل، فالاستعمال الكامل للفصحى مثلا يجب أن يكون ظاهرا ودائما على الأقلّ في الميادين الرسميّة وأجهزة الدولة والمرافق الحكوميّة، ولغة التعليم، والسفارات، و الوثائق الإداريّة، ووسائل الإعلام الوطنيّة وما شابه ذلك من مجالات السيادة. غير أنّه يجب النظر إلى هذا الأمر بمقاربة عقلانيّة نسبيّة، أي يجب تحديد المجالات التي لا يقبل فيها غياب اللغة الوطنيّة أو اهتزازها. أمّا دور اللغة الوطنيّة في تحديد هويّة الفرد والمجتمع، فلا يمكن التغافل عنه، خاصّة بالنظر إلى القيمة الراسخة للغة العربيّة في وجدان المواطن العربيّ عمومًا وتاريخه حتّى لو أخطأ في استعمالها أو التبست عليه قواعدها، سيّان كان انتماؤه الجغرافيّ إلى المشرق أو المغرب، لكن ينبغي التأكيد أنّ اللغة هنا يجب أن ترتبط بالهويّة الثقافيّة لا اللغويّة فحسب، فهي أقدر على جمع مختلف أبناء الأمّة، حتّى لو اختلفت أعراقهم ولغاتهم، إذ أنّهم ينتمون إلى بيئة حضاريّة واحدة جامعة، تحتضنها العربيّة، في غير إنكار لخصوصيّات أفرادها. ولعلّ هذا التعريف هو الذي يجمع البربر في المغرب العربيّ، و قبائل النّوبة في مصر والسودان، وغيرها من الأقلّيات العرقيّة واللغويّة، مع إخوانهم العرب، تحت غطاء حضاريّ واحد لا يزيده التنوّع اللغويّ إلاّ غنًى.
الازدواجيّة اللغويّة بين الفصحى واللّهجات:
من الواجب أولا أن أشير إلى نتيجة استقراء علميّ تحليليّ، بدأ ملاحظة عامّة خلال تدريسي و دراستي لإشكاليّة اللهجات العربيّة المختلفة في علاقتها بالفصحى، وتحوّل ذلك الاستقراء بمرور الزمن إلى شبه قناعة علميّة مفادها أنه ليس من الجدير أو المجدي علميّا، تناول العلاقة بين الطرفين المذكورين وكأنّها حرب مُعلنة، يناصر أحدهما الفصحى ويشكو سطوة المستوى اللغويّ العامّي، ويتّهم بعض الجهات بالتآمر على اللّغة العربيّة. بينما يدعو آخرون إلى جعل اللهجات المحلّية اللغة الرسميّة11. فقد وصلت الدراسات العلميّة لعلوم اللغة إلى قناعة راسخة، هي أنّ اللغة لا تعيش بمعزل عن محيطها الذي يخضعها بالضّرورة لثنائيّة التأثّر والتأثير كما أسلفنا وبذلك، فيجدر بنا النظر إلى اللهجات العربيّة، على أنّها امتداد طبيعيّ للغة العربيّة في محيطها التاريخيّ والبشريّ والجغرافي والحضاري، كان حدوثه حتميّا بالضرورة. لكنّ الإشكاليّة تتلخّص في انحسار اللسان العربيّ الفصيح في مجالات حيويّة، تهمّ خاصّة الأمثلة التالية، التي أتناول فيها خاصّة الواقع التونسيّ خاصّة:
في المجال التربويّ والتعليميّ:
تعتمد البلدان المتقدّمة بصفة عامّة على توحيد لغة التدريس بالحرص على تداول اللغة الفصيحة وجعلها لغة التخاطب في المدارس والجامعات. فيصعب مثلا أن ترى أستاذا يخاطب تلاميذه بلغة هجينة، يختلط فيها الفصيح بالعامّي، فيكون ذلك داعيا لرسوخ اللغة السليمة لدى طالب العلم، ويكتسب بذلك تدريجيّا ملكة التمييز الذهنيّ الصارم بين المستويين المذكورين. أمّا في العالم العربيّ، فقد ترسّخ نوع من "الخليط اللغويّ"، فقد تجد درسا للغة العربيّة قد يستعمل فيه المدرس العامّية التونسيّة أو المصريّة أو غيرهما، غير آبه بما لذلك من عظيم الأثر في تعثّر لغة المتعلّم مستقبلا، وعدم قدرته على التعبير السلس والصحيح باعتماده على الفصحى، لما تحتويه ذاكرته وذائقته اللغويّة من إرث لغويّ مختلط، غير واضح المعالم. وإذا أمعنّا النظر في هذه الظاهرة يمكن اعتبارها أحد أسباب تراجع الإنتاج العلميّ والأدبيّ في العالم العربيّ، إذ يصطدم كثير من الطاقات الإبداعيّة بالحاجز اللغويّ، بما أنّ اللغة العربيّة الفصحى مازالت بحمد الله لغة البحث والنّشر، حتّى في زمن الازدواجيّة اللغويّة. غير أنّ الأمر المخيّب هو عزوف العرب عامّة عن القراءة، وهو ما يعني عدم اطلاعهم على المستوى اللغويّ الراقي الذي تلتزم به النّخبة عادة في الكتابة والبحث والنشر.
في المجال السياسيّ:
من المعروف أنّ الثورات العربيّة قد أطاحت بمفاهيم حجريّة متجمّدة تقوم على تقديس الحاكم وسيطرته على أجهزة الدولة ومؤسّسات الأمّة، ولعلّ أهمّ هذه المؤسّسات التي تريد الشعوب العربيّة الثائرة استردادها هي مجلس النوّاب أو مجلس الأمّة أو ما يُسمّى في تونس الآن المجلس التأسيسيّ. لقد أصبحت هذه المجالس النيابيّة المنتخبة بطريقة ديمقراطيّة تمثّل لأوّل مرّة شعوبها تمثيلا حرّا ونزيها وأضحت ترمز إلى ركن من أركان سيادة الشعب في دولته. فهل يُعقل ألّا تتجسد السيادة اللغويّة ممثّلة في الفصحى حتّى في هذا الإطار. من المؤسف أنّ اللغة التي يستعملها نوّاب الشعب التونسيّ والمصريّ على سبيل المثال ما تزال تنتج خطابا مضطربا، تختلط فيه الفصحى بالعامّية والفرنسيّة أحيانا، والملاحظ في حلقات النّقاش السياسيّ هشاشة المستوى اللغويّ لكثير من نوّاب الشعب والكمّ الهائل من الأخطاء اللغويّة والنّحويّة. ومن المأمول أن تعمل الأجيال الثوريّة الصاعدة على تجذير اللغة العربيّة السليمة خاصّة في رموز السيادة.
في المجال الإعلاميّ:
رغم الطفرة الإعلاميّة الناتجة على إرساء حرّية التعبير بعد ثورات الربيع العربيّ، فلابدّ من الإشارة أيضا، أنّ اللغة الطاغية في وسائل الإعلام الوليدة، يختلط فيها الحابل بالنّابل، والفصيح بالعامّي والفرنسيّ، ومن أغرب هذه الصيحات الجديدة الغريبة قراءة نشرات الأخبار بلغة نصفها فصيح ونصفها من اللهجة التونسيّة، ولا أدري كيف تستسيغ الذائقة السمعيّة واللغويّة هذا المنتج المشوّه، ولنا أن نستشرف تأثير مثل هذه الظواهر على لغة الأجيال القادمة وقدرتها على التعبير والإبداع.
والخلاصة أنّ إشكاليّة الازدواج اللغويّ بين الفصحى والعامّية لا تقتضي الانتصار لأحدهما على الآخر، فكلاهما يحتلّ موقعا مرموقا في ثقافة الأمّة، وتكوين الأجيال الناشئة. وفي الواقع، فما اللهجات العربيّة المختلفة إلّا فرع من أصل ثابت هو الفصحى، وليس بين الفرع و الأصل إلا شبهة تناقض موهوم، ربّما تذهب الجهود في نقده أيّ مذهب، والأولى أن تنصرف جهود الباحثين والمهتمّين إلى نظرة متوازنة تجمع بين الحرص على نقاء الفصحى باعتبارها اللغة الوطنيّة، التي تمثل لغة العلم والإدارة والأدب والثقافة، والمحافظة على التراث الشعبيّ العامّي ودراسته وبيان ما يحمله تطوّر اللهجات المختلفة من أبعاد لغويّة وتاريخيّة وثقافيّة. فلا يمكن منع الناس من استعمال هذه اللهجات، لأنّها أصبحت أمرا واقعا. تتمثّل المهمّة الأولى في الاهتمام بتعريف المجالات التي يجب إعادة الفصحى بها إلى المكانة التي تستحقّها، لا لأنّها اللغة الوطنيّة فقط، بل أيضا عمود هامّ من أعمدة هويّة الأمّة الثقافيّة والحضاريّة.
إشكاليّة الائتلاف والاختلاف
تحكم المشهد اللغويّ العربيّ الراهن سواء من وجهة نظر علميّة أو واقعيّة ثنائيّة الائتلاف والاختلاف. فالشعوب العربيّة الثائرة أو القابلة للثورة، تشترك في لغة أمّ واحدة مازالت وانتماء حضاريّ جمعيّ وجماعيّ، وتختلف في لهجاتها المحليّة، والتأثيرات اللغويّة الخارجيّة التي تتأثّر بها. في الحقيقة علينا الاعتراف بتجذّر هذه الثنائيّة في الواقع العربيّ واستغلالها إيجابيّا، كرمز للثراء اللغويّ الذي لا تتمتّع به عديد الأمم الأخرى. ويستدعي ذلك بالضرورة الاستغناء عن المهاترات العقيمة بشأن عروبة لهجة من اللهجات العامّية العربيّة على حساب أخرى، لأن البحث العلميّ والحسّ الوطنيّ يثبت هشاشة هذه الآراء التي تفرّق جهود أبناء الأمة ولا تجمعها. الأولى أن تنصبّ الجهود في كيفيّة إعادة الفصحى إلى مكانها الطبيعيّ، مع احترام اللهجات ودراسة صلتها باللغة العربيّة، وتحديد مواضع معقولة لاستعمالها لتصبح على الأقل "عامّية مهذّبة" كما يقول المرزوقي12.
تحديد السياسة اللغويّة:
مضت عقود طويلة لم تكن الأنظمة العربيّة الحاكمة فيها تأبه بالشأن اللغويّ، وحتّى بعض برامج تعريب التعليم و الإدارة، أو الاهتمام بالترجمة، بقيت تتحرّك بخطى متثاقلة. في النموذج التونسيّ على سبيل المثال بقي التعليم يراوح بين العربيّة والفرنسيّة، و بقيت آثار النموذج العلمانيّ المتسلّط واضحة في ما يمكن تسميته بالسياسة اللغويّة. و الأهمّ في هذا المضمار بالنّسبة إلى الدولة الديمقراطيّة الحديثة التي يأمل جيل الثورة العربيّة تأسيسها استعادة الوعي بأنّ اللّغة أسّ لا غنى عنه من أسس الهويّة الوطنيّة والحضاريّة، ومن الضروريّ حينئذ أن تختصّ بسياسة مستقلّة، لا تقلّ شأنا عن السياسة الاقتصاديّة، والاجتماعيّة وغيرهما. على النخبة السياسيّة الصاعدة أن تحدّد سياسات لغويّة واضحة، بأهداف معلومة، وآجال مضبوطة، ثمّ تسخّر لها ما يلزم من المختصّين في الحقل اللغويّ والتربويّ، وكلّ المجالات ذات العلاقة. على المواطن العربيّ في الأجيال القادمة أن يكون قادرا على محاسبة حكّامه، على سياساتهم اللغويّة أيضا. يجب أن يهتمّ المصلحون بالمشكلات الحقيقيّة اللغويّة القائمة التي لا تقلّ خطورتها عن حساسيّة الوضع السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ في تحديد ملامح مستقبل الشعوب الثائرة، ولعلّ الطرح النّقديّ لإشكاليّة اللغة في العالم العربيّ، للمفكّر التونسي، ورئيس الدولة الحاليّ، المرزوقي، انتبه إلى أهميّة هذا الأمر إذ يطرح تساؤلا مهمّا هو: "أيّ سياسة لغوية للمستقبل تنتهج القوى السياسية الجديدة التي أفرزتها الثورة، وهي قاب قوسين أو أدنى من تسلم السلطة في تونس؟"13. وينتهي إلى جملة مبادئ تعطي اللغة العربيّة مكانتها الحقّة في الدولة والثقافة والمجتمع، وتترجم ذلك مثلا عبر مثلا اعتبار اللغة العربيّة اللغة الرسميّة فعلا في الدّولة، أي أنّ السلطة المنتخبة مسؤولة أيضا عن الحفاظ على اللّغة الوطنيّة وتطويرها, والتخلّص المدروس من آفات اللغة السائدة المشوهّة في وسائل الإعلام على سبيل المثال.
الترجمة
عانت الترجمة من وإلى اللغة العربيّة كغيرها من القطاعات من آفتين رئيسيّتين خلال عهود الاستبداد السياسي، تتمثل الأولى في الرقابة الفكريّة الصارمة التي لاحقت حركة الترجمة، لإلزامها بهوى الحكام، فحُرمت بذلك الشعوب العربيّة من الاطلاع على كثير من الإبداعات الأدبيّة والفكريّة الخارجيّة. أمّا الثانية فتتعلّق بعدم الاهتمام بتنمية هذا القطاع وتكوين المختصّين في اللغة والترجمة، وهو ما كلّف اللغة العربيّة الالتجاء إلى المصطلحات الأجنبيّة خاصّة في المجالات العلميّة والتعليميّة. وعلى الأجيال القادمة الانتباه إلى حساسيّة هذه المسألة في مستقبل الأمّة، ومعالجة السلبيّات المذكورة بجعل الترجمة نقطة رئيسيّة في معالم السياسة اللغويّة القادمة.
4 خلاصة: أهمّ النتائج والدروس المستقاة: الثورة اللّغويّة حلم أم طموح مشروع؟
كما أسلفت في بداية هذه المقاربة للمسألة اللغويّة، لا أدّعي استيفاء توصيف الإشكاليّات الخاصّة باللغة العربيّة في علاقتها بالثورات العربيّة، وإنّما محاولة متواضعة حاولت أن تسلك المنهج التوصيفيّ لرصد أهمّ التحدّيات التي ستواجهها. وتتلخّص أهمّ النتائج في الإشارات التّالية:
على العرب عامّة، والنخبة السياسيّة والفكريّة خاصّة بعد الثورات العربيّة، دراسة سلبّيات تاريخهم الحديث في حقبة الاستبداد، ليس فقط من المنظور السياسيّ والاجتماعيّ، بل أيضًا من المنظور اللغويّ، فإنّ دراسة أخطاء الماضي تعين على فهم الحاضر وصياغة المستقبل.
لا بدّ للقوى السياسيّة الجديدة المنتخبة أن تتخلّص من العشوائيّة أو الانتهازيّة، التين عانى منهما الشأن اللغويّ أيّما معاناة طيلة عقود كاملة، أي يجب عليها أن تعتقد اعتقادا راسخا أنّ التخطيط لهذا القطاع وتحديد سياسة واضحة وأجهزة مستقلّة خاصّة به يعدّ من واجباتها الأساسيّة، تماما مثل الاقتصاد والثقافة وغيرهما وتعدّ العدّة لترسيخ هذه الرؤية في عقل المواطن العربيّ وفكره.
على أهل الاختصاص الإدلاء بدلوهم في كيفيّة النهوض باللغة العربيّة بصفتها لغة الانتماء الحضاريّ، والظهور البارز في الساحة الثقافيّة والمشهد الإعلاميّ، ليصبح تداول الشأن اللغوي وتطويره أقرب إلى واقع الإنسان العربيّ ومعارفه ومجالات اهتمامه.
ثمّة بعد إيديولوجي للنقاش المتعلّق باللغة العربيّة لا يمكن حجبه والتغافل عنه، فهناك من أبناء الأمّة العربيّة من يتبنّى رؤية فكريّة سياسيّة تعتبر اللغات الأجنبيّة و الحضارة الغربيّة مثلها الأعلى، وتخلط عن وعي أو غير وعي بين استعداء التيارات العروبيّة والإسلاميّة، واستعداء لغتها الأمّ وثقافتها الأصيلة. ولكن لا مجال أيضا للتهويل في هذا الأمر فهو حتميّ الحدوث في ظلّ ضرورة تعايش التيارات السياسيّة والفكريّة المختلفة على الساحة العربيّة بعد الثورة. الأهمّ حسب رأيي هو إبعاد الشأن اللغويّ عن التجاذبات السياسيّة ما أمكن الإبعاد، بأن يصبح الاهتمام باللغة العربيّة والسياسة اللغويّة الرامية إلى حفظها وتطويرها، ركنا اساسيّا ثابتا يشترك في الدفاع عنه المجتمع بأسره، ويحاسب عليها حاكمه، مهما كان لونه السياسيّ أو الفكريّ.
لا شكّ أنّ دراسة الشأن اللغوي وتطويره والاهتمام بوضع اللغة العربيّة على وجه التخصيص سيكون من أوكد الواجبات وأهمّ التحدّيات المطروحة على أجيال النخبة الفكريّة والسياسيّة في العالم العربي خلال العقود القادمة، غير أنّ هذه الدراسة يجب أن ترتبط أيضا بإشكاليّة الهويّة، لارتباطها التاريخي والحضاري بمسألة اللغة في الفكر الإسلامي والعربيّ. ويعبّر جون جوزيف عن هذا المعنى في كتابه اللغة والهويّة بقوله: ولكنّ دراسة أيّ لغة تحتاج إلى أخذ الهويّة بعين الاعتبار، إذا أرادت أن تكون دراسة تامّة وغنيّة وذات مدلول، لأنّ الهويّة لا يكتمل مدلولها إلّا في جوهر اللغة، وفي كيفيّة الوظيفة التي تؤدّيها هذه اللغة، وفي الطريقة والأسباب التي عملت على ظهورها إلى الوجود وتطوّرها، وفي كيفيّة تعلّمها واستخدامها كلّ يوم من قِبَل كلّ مستخدم لغة، في كلّ وقت وحين".14
تعتبر إشكاليّة الازدواج اللغويّ بالغة التعقيد والخطورة في تحديد معالم مستقبل المشهد اللغويّ العربيّ، وقد تناولناها بالبحث من خلال هذه الدراسة وأشرنا إلى ضرورة تسليط الضوء عليها لإيجاد الحلول المناسبة، في غير تفريط في أصالة لغتنا ولا إفراط بعدم التفتح على اللغات والثقافات الإنسانيّة. لكنّ الملاحظة الأهمّ تتلخّص حسب رأيي في ضرورة استرجاع المكانة الحضاريّة للعالم الإسلامي العربيّ، وبذلك تسترجع اللغة العربيّة بالضرورة مكانتها المرموقة في الحضارة البشريّة والحضور والتأثير على الساحة الإنسانيّة. لقد كان الأجانب يقصدون بغداد لتعلّم اللغة العربيّة والنّهل من العلوم لأنّ العربيّة كانت لغة العلم في زمن التفوّق الحضاريّ الإسلاميّ والعربيّ. ولا غرابة أن ينقلب الوضع الآن، إذ أنّ "المغلوب مولع باقتداء الغالب"، كما يوضّح ابن خلدون في مقدّمته الشهيرة.
وفي الختام، يجب أخذ البعد الشموليّ لدراسة الشأن اللغويّ وتحديد السياسات اللازمة للنهوض به بعين الاعتبار، وذلك من خلال ربط الحقل اللغويّ بغيره من الحقول العلميّة المعاصرة، التي تتناول بالدرس والفحص كلّ جوانب الحياة وتستغلّ اللغة في كلّ مجال ممكن، لتلعب دورا على سبيل المثال في علم نفس الطفل، وتطوير أساليب التربية والتعليم، أو في الدراسات بعلم الاجتماع، من خلال دراسة اللغة السائدة في المجتمع ونقدها وصقلها وتطويرها، او غير ذلك من المجالات غير المحدودة. ويؤكّد المفكر عبد الوهاب المسيري هذا المعنى بقوله: "ثمّة ترابط إذن بين اللغويّ والدّينيّ والنّفسيّ، بل ثمّة ترابط بين كلّ مجالات النشاط الإنسانيّ، وقد حان الوقت أن ندرك هذا الترابط وأن ندرس الظواهر التي من حولنا في ترابطها وتشابكها وتركيبيّتها، وألاّ نسقط في التفسيرات الأحاديّة" 15
الهوامش والمراجع:
1هناك عدد من المقالات اللّافتة لباحثين وأكادميّين عرب تبحث في واقع ومستقبل اللغة العربيّة بعد ثورات الربيع العربيّ، يمكن الاطّلاع عليها في قائمة المراجع المذكورة في هذا البحث. والجدير بالتذكير على وجه الخصوص المقال الذي كتبه الأستاذ محمّد المنصف المرزوقي، بعنوان "أي لغة سيتكلم العرب القرن المقبل؟"، الذي يطرح بجدّية ومرارة ساخرة التحدّيات التي تواجه اللغة العربيّة انطلاقا من النموذج التونسيّ على وجه الخصوص. ويهتمّ المقال بمسألة ازدواجيّة اللغة بين الفصحى و ما يمكن تسميته بالخليط اللغوي المتكوّن من العامّية والفرنسيّة وغيرهما.
2 2عبارة اشتُهر بورقيبة بكثرة استعمالها في خطبه إلى أن ارتبطت به في مخيّلة التونسيّين، خاصّة منهم الأجيال التي عاصرت فترة حكمه، وكان يستعملها للتلخيص أو التفسير بمعنى ."خلاصة القول..".
3 د.عبد القادر الفاسي الفهري: الثورة اللغوية القادمة في المغرب، صحيفة هيسبريس الالكترونية المغربيّة، 27 أبريل 2011
4 ميلود إدجاون: نقد سلطة اللغة على الفكر العربيّ، جريدة "المنظّمة" المغربيّة، 19/20 سبتمبر1999
5 عبد الوهاب المسيري: اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود، الطبعة الأولى، دار الشروق، القاهرة 2002، ص 6
6 اشتُهر المرزوقي باستعماله لهذه العبارة في كتاباته وتصريحاته، عند نقده لأنظمة الاستبداد العربيّة.
7 نعوم تشومسكي: اللغة ومشكلات المعرفة / محاضرات ماناجوا، ترجمة د. حمزة بن قبلان المزيني، الطّبعة الأولى، دار توبقال / الدار البيضاء1990 ، كلمة المترجم ص 4
8 جرجي زيدان: اللغة العربيّة كائن حيّ، الجزء الأوّل، الطبعة الثانية، دار الجيل، بيروت 1988
9 انظر مثلا كتاب أخطاء اللغة العربيّة الكتّاب والإذاعيّين، د. أحمد مختار عمر، الطبعة الثانية، القاهرة 1993
10 محمود الذّوادي: سيادة اللغة العربية، أين هي في مسار الثورة التونسية؟ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 15 نوفمبر2011
11 د. محمّد عيد: قضايا معاصرة في الدّراسات اللغويّة والأدبيّة، عالم الكتب، القاهرة 1989, ص 77
12 محمّد المنصف المرزوقي: أي لغة سيتكلم العرب القرن المقبل؟، الجزيرة نت، 27 أبريل 2011
13 نفس المصدر
14جون جوزيف: اللّغة والهويّة قوميّة، دينيّة، إثنيّة سلسلة عالم المعرفة عدد 342، ترجمة، د. نور الدين خراقي، 2007، ص 284
15عبد الوهاب المسيري: اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود، الطبعة الأولى، دار الشروق، القاهرة 2002، ص 6


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.