في البداية اود ان انبه القارىء الكريم بأننى لم اصدر حكما مسبقاَ على مايسمى (بالمشروع الإصلاحي) كما جاء من خلال عنوان المقالة دعاوى الإصلاح بين الترقيع السياسي والعجز عن مواجهة الواقع المأزوم ، ولكن هناك جملة من الأسئلة المنطقية التي ينبغي طرحها، بل وإعادة طرحها باستمرار بإعتبارها ضرورة موضوعية لفهم أوضاعنا طبقا لواقعها الحقيقي، كما أننا جميعاَ لسنا بحاجة أن نختتم المناقشة حول أى من القضايا المطروحة علينا كليبيين، خاصة إذا كان الأمر يتعلق (بالطرح الإصلاحي)، فلتكن لنا وقفة تأمل وإعادة نظر وطرح للأسئلة حول (الإصلاح) في ظل الظروف الحالية التي تمر بها ليبيا، والمعطيات المتوفرة، والأوضاع السياسية السائدة الأن. وفي هذا السياق علينا أن نسأل هل يمكن أن يولد (مشروع إصلاحي) في أحضان البيئة السياسية القائمة الان في ليبيا ؟ من المؤكد ان الخطاب الإصلاحي وبالصورة المطروحة الان في ليبيا لا يعكس تحديدا نوعية مايجب أخذه على صعيد الوعى والفكر، وعلى صعيد الممارسة، هذا الخطاب يصطدم بصعوية تحقيقه مشروعه، ليس بسبب الشعارات والاطروحات البراقة التي يرفعها أو تلك التي ينادي بها – فتلك تدغدغ مشاعر الكثير من الليبيين التواقين لأى شكل من أشكال الإنفراج، ولكن بسبب عدم أهلية من يطرح هذا الخطاب وكيف يطرحه وتحت أى نموذج سياسي يريد أن يحققه، وبهذا الشكل يفقد هذا الخطاب الإصلاحي التوازن بين ما هو ذاتي وماهو موضوعي. فأصحاب هذا الخطاب (الإصلاحي) يفكرون من خلال نموذج قائم ثبت فشله على امتداد اكثر من ثلاثة عقود. فالنموذج القائم عندما يتخذ سلفاَ كمعيار للقياس عليه أو الإحتذاء به، رغم عيوبه وقصوره وفشله، فإنه يصبح سلطة مرجعية ضاغطة وقاهرة تحتوي الطرح الإصلاحي وتفقده استقلاليته وموضوعيته في معاجلة الواقع المأزوم، بل إن هذا الخطاب يتحول الى خطابا تبريريا يعمل على تأويل الواقع بالكيفية التي تسمح لهذا الإصلاح أن يكون شبيها بالماضي ونظيراَ مماثلاَ له تقريباَ في كل شيىء. الخطاب الإصلاحي عندما يقترح الحلول من داخل منظومته أى من داخل النموذج القائم وبواسطته، ويطالب بإقتفاء أثره والسيرعلى هداه، معتقداَ بأنه أقترح الطريق الأمثل، فإنه يفقد مصداقيته. وهنا قد يتسائل البعض لماذا يفقد مصداقيته ؟ فقدان المصداقيه يتأتى من أن الطرح الإصلاحي لم يراجع البنية التسلطية القائمة، بل أبقى على مركز القرار السياسي والحل والربط في الدولة الليبية بعيدا عن أى امكانية للإصلاح اوالتغيير أو لاستبدال او التنحي أو حتى تحديد الصلاحيات ووضع الحدود والضوابط . كيف يتم الإصلاح ونظام القذافي لم يقر ولم يعترف بالمشاركة السياسية في الحكم، بل كرس الحكم الفردي وظاهرة الولاء للحاكم بدلاَ من الولاء للأفكار والوطن، مما أدى الى إقصاء المجتمع الليبي بالكامل عن المشاركة السياسية الفعلية ولا نتحدث عن تلك المشاركة الشكلية المعروضة فيما يسمى بالمؤتمرات واللجان الشعبية. إذن الإصلاح المطروح الآن قصد به أولا وأخيرا إعادة تأهيل وترميم للنظام القائم بكل تشوهاته وعيوبه ومن ثم تقويته إزاء أى تحولات تبدوا جوهرية وجذرية قد تحدث بالمستقبل. في احسن الحالات هذاالخطاب يقدم حلا لكثير من مشكلات النظام القائم التي بدأ يواجهها أو يصطدم بها بسبب تراكمات الأخطاء والممارسات الظالمة على كافة المسارات. وهو لا يعد بأي حال من الأحوال حلا لمشكلات وقضايا وهموم الشعب الليبي الذي مازال يعانى من هذه التراكمات حتى اليوم. الطرح الإصلاحي بهذه الصورة هو مجرد تبني شكلي يتم وفق عملية سياسية تسمح بتجديد "شرعية" السلطة القائمة أو اكسابها شرعية جديدة دون المساس بالوضع الراهن. فهذا الطرح يسمح بإدخال تجديدات هامشية وسطحية وهو ما يمكن ان يطلق عليه نهج الترقيع السياسي الذي لا يغير من جوهر البنية التسلطية لكنه يسمح لها بالتمظهر بمظهر الإصلاح. والسؤال المطروح .. إذا قدر لهذا (المشروع) أن يولد في هذه البيئة فهل سيولد المشروع مشوهاَ ومعاقاَ أم أنه قد يتمتع ببعض المعافاة ؟ وماهي المصاعب والمعوقات التي تترصد لهذا (المشروع) وتمنعه من أن يخطو نحو أى حل حقيقي قادر وفعال للإصلاح ؟ إن تحليل وتفكيك هذا الخطاب الإصلاحي المطروح يكشف عن طبيعته وعن تناقضه وعيوبه لأنه لا يواجه هذا الواقع السياسي المأزوم، ولا يدعو الى وتغييره وإصلاحه. فهذا الخطاب يتجاهل الأسباب الحقيقية للإحتقان السياسي والإقتصادي، واستشراء الفساد في كل مناحى الحياة، وخلخلة النسيج الإجتماعي، بل يقفز هذا الخطاب على الواقع ليطرح بديلاَ تلفيقياَ لا يهتم بمعالجه مشكلة السلطة والمجتمع. ان سكوت الخطاب الإصلاحي عن الواقع السياسي المأزوم (( بأفكاره وأشخاصه وممارساته )) هو في حد ذاته إعترافا منه بعدم القدرة على مواجهة العجز والخلل القائم في الشأن السياسى العام. وإن امتناع هذا الخطاب عن فتح الملفات المهمة بما تتضمنه من إشكاليات ومعوقات وصعوبات، والإكتفاء بمجرد التوصيف أو الإشارة أو حتى تجاوز ذلك إلي التشخيص والتحليل دون المعالجة الضرورية والتصدي الحازم فإن الأمر سيؤدي حتما الى المزيد من الإحتقان . إنه لايمكن تصور أى شكل من أشكال الإصلاح مالم يتم تغيير الأفكار السائدة والمسيطرة والمفروضة على الشعب الليبي، والمقصود هو تلك الأفكار الإقصائية التي تدعي وحدها إمتلاك الحقيقة، والتي افرزت منهجية التصنيف والتعصب (رجعيون – متطرفون – عملاء - زنادقة - كلاب ضالة – اعداء الثورة ..الى آخر هذه النعوت). إنها الأفكار التي حاول النظام من خلالها غرس الحقد والكراهية والإتهامات الباطلة لكي يضع الليبيين في مواجهة بعضهم البعض. كيف يتم الإصلاح دون المساس بأحادية (النصوص) القائمة كما وردت في الكتاب الأخضر وغيرها بإعتبارها نصوصا مقدسة. وكيف يتم الإصلاح و"أفكار" القذافي تدعو إلى التصفية الجسدية وسحق الخصوم السياسيين وكل من كان له اجتهاد مختلف ورأى وفكر آخر. كيف يتم الإصلاح تحت شعارات، من تحزب خان – شركاء لا أجراء- البيت لساكنه – لا ديمقراطية بدون مؤتمرات شعبية الخ... وهي الشعارات التي طبقت على الشعب الليبي كله، ولم تمس شعرة واحدة من أهل السلطة والحظوة، بدءاَ من القذافي وأولاده وأبناء عمومته وعشيرته والرفاق والضباط الوحدويين واللجان الثورية . فالإصلاح لا يتم إلا في ظل منظومة فكرية لا تدعي القدسية بل منظومة عملية موضوعية تدرك الواقع بأبعاده ومعطياته قابله للتغيير والتصحيح والتبديل، وقابلة للمراجعة والمساءلة. على صعيد الأشخاص: من المؤكد أن المسؤلين فى السلطة في ليبيا يتحملون أعباء كل الممارسات الخاطئة والظالمة التي وقعت على شعبنا وما ترتب عليها من نتائج وإن دعاة الإصلاح وإن تجاهلوا هذا الأمر فإنهم لن يستطيعوا تجاهل الوقائع والشواهد الملموسة على أرض الواقع في ليبيا. والإصلاح الذي لا يستطيع أن يغير هذا الواقع البائس واسبابه بالتأكيد سيعيد إنتاجه من جديد. والسؤال الذي يطرحه الليبيون هو كيف يمكن للذين اساؤا للشعب الليبي وتسببوا في كل الكوارث التي لحقت به على امتداد أكثر من ثلاثة عقود أن يتولوا مهمة الإصلاح ويرشدوها وهم يمسكون بزمام الأمور خوفاَ من فقدان سلطاتهم، وامتيازاتهم. دعاة الإصلاح اذا ارادوا أن يبنوا مايريدون فعليهم أن يهدموا أولاَ مالا يريدون، عليهم هدم أصنام السلطة كلها، وآلا يتوقفوا عند حدود الإنتقاء، وأكباش الفداء، ومحاولات إبعاد الشبهات والمسؤولية المباشرة عن المتسببين الحقيقيين بما حل بليبيا وشعبها بل يتعدوا ذلك إلى أعلى المستويات. هذا هو المحك الحقيقي والفعلي والرهان المطلوب، هذا هو في نهاية المطاف محك الإقتدار السياسي الإصلاحي، والقدرة على بناء ليبيا كلها، والمحافظة على هذا البناء بالمسؤولية المباشرة لمن يتولى هذه العملية وليس فقط بالإعتماد على الإصلاحات الترقيعية هنا وهناك في وجود الأصنام . على صعيد الممارسة: لا يمكن تصور الإصلاح في ظل إطار سياسي يدار بعقلية دولة القبيلة التابعة للسلطة الفردية، لآن هذا الإطار نقيض حقيقي لمفهوم الدولة في قوانينها ومؤسساتها وتنظيماتها وتقاليدها. واذا كانت السلطه تعنى في دولة القبيلة الاستناد على إرهاب القوة والسيطرة والتحكم فإنها تعنى أيضاَ عدم القدرة على الأداء والانجاز وعلى إنتاج التقدم وإحداث التطور حتى ولو امتلكت أموال وخزائن الدنيا. لأن مثل هذا الإطار السياسي القبلي / الفردي لن يبني الإنسان مصدر الفكر وجوهر الحركة والتقدم، ولن ينشىء الآليات المؤسساتية لإدارة الدولة، بل يكون جل اهتمامه تفريخ أشخاص يتاجرون بالشعارات والمقولات المعزولة عن الواقع الليبي. والمتأمل لهذ الواقع بعد 37 سنة من حكم القذافي يجد أفرازا لإقطاعيات ثورية أضرت بالشعب الليبي وأوصلته الى حالة من الانهاك التام. إذن الإصلاح لكي ينجح يجب أن يبدأ بإلغاء دولة القبيلة الملحقة بالسلطة الفردية، قبل الشروع في البناء أو حتى في التفكير في إعادة البناء، فثمة عجز ليس في الأداء والسلوك من عناصر السلطة وأجهزتها فحسب، بل خلل في البنية التكوينية للإطار السياسي برمته. الإصلاح لا يتم دون الحديث عن رد المظالم لغالبية الشعب الليبي الذي دفع ثمناَ باهظا من أمنه ومن إستقراره، ومن دماء أبناءه وثروته، ومن مستقبل أجيال ضاعت وشردت. والإصلاح لا يتم والسجون والمعتقلات تعج بالأحرار من المعتقليين السياسيين. ولا يتم الإصلاح قبل تضميد جراح معظم الليبيين ومواساة المتضررين، وإعادة الحقوق المغتصبة والممتلكات المنهوبة ومحاسبة من عاثوا في الأرض فساد وأجرموا في حق الوطن والمواطنيين. الدولة العصرية تبنى بالعقول والكفاءات وعلى الجدارة والإقتدار، وعلى الإخلاص والصدق والشفافية، وعلى الولاء للوطن والشعب وحبه، لا على الدجاليين وأصحاب التمائم (الثورية) الذين باعوا ضمائرهم وأغلقوا عقلوهم وأخرسوا ألسنتهم فاصيبوا بعمى البصيرة. إن الرهان الحقيقي للتغيير والإصلاح هو الرهان الذي يستمد قوته من إرادة صانعيه، لأنه سيؤدي إلى بداية الإحتشاد السياسي الذي طال إنتظاره لكل القوى الوطنية الليبية، أما دعاوى الإصلاح الترقيعية فلن تؤدي سوى إلى ترميم الأصنام واستمرار معاناة الانسان وإطالة عمر حكم الظلم والعدوان.