الحديث عن مستقبل الحكم في تونس، كما هو الحال في غالبية الدول العربية، لا يمكن أن يكون موضوع نقاش رسمي وعلني، ربما استوعبته كما هو الحال في غالبية الدول العربية، لا يمكن أن يكون موضوع نقاش رسمي وعلني، ربما استوعبته المؤسسات السياسية والدستورية، أو ناقشته النخب في وسائل الإعلام وصفحات الجرائد، غير أنه على الرغم من ذلك، حديث الساعة في الكواليس الرسمية والشعبية على السواء، بل لقد كان سببا في إقدام النظام على سابقة لم يضطر إليها طيلة العقدين الماضيين، إذ أقدم مجلس المستشارين، الغرفة الثانية للبرلمان التونسي، على مناشدة الرئيس زين العابدين بن علي إلى الترشح مجددا لولاية خامسة، ستبدأ سنة 2009، أي قبل ثلاث سنوات من التاريخ المفترض للانتخابات. إذا أتينا الكلام من آخره، فليس من قول إلا أن الرئيس بن علي لن يغادر سدة الحكم إلا لأحد السببين، إما مرض يعدم قدرته على تولي مسؤولياته، أو موت ليس من مواجهته بد، وهو ما يعني أن ترقب أي سيناريو مختلف لنقل السلطة في تونس ليس واردا، وأن أي احتجاج بالاستناد إلى تصريحات أو وعود أو التزامات قيلت فيما مضى، لن يكون مجديا في تغيير مسار التاريخ التونسي، وهو تاريخ عربي إسلامي بالدرجة الأولى، منذ الخلافة الراشدة إلى يوم الناس هذا، فالحاكم على قول عثمان بن عفان " لا ينزع سربالا سربله إياه الله". البين أيضا، أن البديل من بعد المرض أو الموت، ليس واردا البتة أن يكون من خارج النظام، إذ ليس ثمة مؤهلون حقيقيون قادرون يمكن أن يولدوا في المدى المرتقب للتغيير من غير رحم الحكم، ففي تونس ليس ثمة إلا مراكز جذب سياسي ثلاثة، السلطة بمؤسساتها المختلفة، والمعارضة العلمانية التي تهيمن عليها المجموعات اليسارية، والإسلاميون الذين أنهكتهم حملات الاستئصال التي شنت ضدهم دون أن تتمكن من إلغاء تأثيرهم على الشارع، كما أنهكهم تمسك حركتهم الرئيسي بنظام الزعامة مدى الحياة، وبشكل حزبي شمولي أقرب إلى شكل الأحزاب الشيوعية اللينينية والستالينية، أو الطوائف الدينية والطرق الصوفية. وعلى الرغم من محاولات عديدة لتكوين جبهة معارضة تتمثل فيها كافة الاتجاهات السياسية، إلا أن هذه المحاولات باءت في مجملها بالفشل، ربما لشساعة الفوارق الفكرية والسياسية بين الإسلاميين وغيرهم من مكونات المعارضة، وربما أيضا لغلبة الخصومات الشخصية بين قادة المعارضة وانعدام الثقة فيما بينهم، والأهم من كل هذا عجز المعارضين التونسيين على التحول إلى محركين فاعلين في الشارع، واقتصار فعلهم على أوساط نخبوية محدودة، حيث يستهزئ بعض المقربين من السلطة من هذه الحالة بقولهم أن الإحصاء الرسمي لنشطاء المعارضة التونسية يؤكد أنهم لا يتجاوزون ألفي شخص. والمعارضة التونسية ليست منقسمة إلى علمانيين وإسلاميين فحسب، بل إلى معارضة شرعية معترف بها وأخرى غير شرعية، وإلى معارضة مقربة من الغرب وأخرى معادية له، وإلى متحزبين ومستقلين. ولعل أبرز نقاط ضعف المعارضة التونسية في رأيي، عدم نضجها الأخلاقي وانغماس العديد من زعمائها ونشطائها في خصومات ومؤامرات صغيرة تضعف أي أداء جماعي قوي، كما هو عدم وجود استعداد لدى هؤلاء الزعماء والنشطاء للدخول في عملية نقدية وتجاوز عقد الماضي ومؤاخذاته لصالح رؤية وطنية مستقبلية. و اعتقد شخصيا، أن أمر انقسام المعارضة التونسية واستفحال أزمة قادتها الأخلاقية وحساسياتهم الشخصية، ليس مرده تدخل السلطة أو تآمرها، بقدر ما كان نتاجا لعدم وجود قاعدة ايديولوجية وسياسية مشتركة بين اتجاهات هذه المعارضة، وخصوصا ما تعلق منها بالصلة بين الإسلاميين وغيرهم، إذ ثمة قناعة عميقة لدى الكثير من المعارضين التونسيين بأن النظام الحالي، على الرغم من كل الاعتراضات التي يمكن أن توجه له، يظل أفضل من نظام يقوده الإسلاميون. والإسلاميون التونسيون، كغيرهم من الإسلاميين في بلدان عربية وإسلامية كثيرة، لا يواجهون ممانعة داخلية فحسب، بل ممانعة خارجية أشد. وإذا ما نظر إلى تونس على أنها بلد مستقر ومنفتح و حداثي إلى حد كبير، وسط منطقة غير مستقرة ومنغلقة ومترددة إزاء الحداثة، فإن القوى الدولية ذات المصالح والاهتمام بتونس، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة وفرنسا، لن تقبل بأي تغيير يمكن أن يفضي إلى وصول الإسلاميين إلى السلطة في تونس، على المدى المنظور على الأقل، ولعل أقصى ما سيكون مسموحا و متاحا للإسلاميين مستقبلا، مشاركة محسوبة ومراقبة في الحياة السياسية، وتسوية حقوقية لأوضاع أولئك المتضررين منهم من وقائع المواجهة مع السلطة، وذلك في حال استوعب قادتهم دروس الماضي وقاموا بمراجعة نقدية حقيقية لمسارهم وبرامجهم، أما إذا استعصى عليهم الفهم فسيرسمون لمحنتهم بلا شك فصولا جديدة مرة. أما الأحزاب والجماعات اليسارية والعلمانية التونسية، على اختلاف تلويناتها، فمشكلتها ليست مع الخارج، إنما مع محدودية شعبيتها في الداخل، وتواضع قدراتها الانتخابية في حال جرى تأهيل النظام السياسي لمعايشة تجربة تعددية ذات مصداقية أكبر، هذا فضلا عن تعدد وتباعد زعمائها الطموحين، وهو ما يعني إجمالا عدم قدرتها على تشكيل بديل للنظام الحالي، واضطرار بعضها إلى الدخول في تحالفات مع الإسلاميين، مما سيجعلهم في النهاية رهينة في أيدي هؤلاء، و مما سيضعف في النهاية أي استعداد خارجي لدعمهم، فالخارج سيبحث عمن يكون لديه الاستعداد لنيل تفويض داخلي حقيقي وكسب شرعية شعبية وازنة. و رأيي دون استفاضة في تفاصيل قد لا يطيقها حيز كهذا المقال، أن الرئيس التونسي الثالث سيكون بالضرورة من داخل النظام، و سيكون بالضرورة من قادة حزب التجمع الدستوري الديمقراطي (الحزب الحر الدستوري)، كما سيكون مدعوما من قبل المؤسسات الدستورية والأجهزة الأمنية والعسكرية، ومؤيدا من الولاياتالمتحدة وفرنسا ودول الجوار الأخرى، الأوربية والعربية، وسيعمل طيلة مرحلة انتقالية على كسب شرعية داخلية، ستكون هي الامتحان الحقيقي لنضج النخب السياسية التونسية وقدرتها على الاستفادة من اللحظة التاريخية لفرض حالة سياسية وديمقراطية أكثر مصداقية. أن يكون الرئيس القادم من داخل النظام فهذا شرط عدم جر البلاد إلى حالة فوضى وفتنة، فالاستمرارية الايجابية مطلوبة، وأن يكون الرئيس الجديد من الدستوريين فذلك لأن حزب الحركة الوطنية سيظل قوة الوسط السياسي الرئيسية والحائل دون تطرفها يمينا أو يسارا، و أما أن يكون مدعوما من المؤسسات الدستورية و الأجهزة الأمنية والعسكرية فسببه أن جهاز الدولة في تونس هو الجهاز البيروقراطي والمؤسساتي الأكبر والأكثر مصالح وقدرة على التأثير في استقرار البلاد، وأخيرا أن يكون مرضيا عنه أمريكيا وفرنسيا، فمرده أن هذين الطرفين هما الأكثر اهتماما وصلة بالشأن التونسي. أما اكتساب الرئيس الثالث الشرعية الشعبية الداخلية، فسيحدث عبر إعلانه برنامجا سياسيا إصلاحيا، يعطي جرعات أكبر للتعددية، من خلال إدخال أطراف جديدة للحياة السياسية، وكذلك منح مساحات أكبر للنشاط الحقوقي والإعلامي، ولاحقا تنظيم انتخابات أكثر مصداقية وأقل شمولية، بالإضافة لمعالجة ملفات إنسانية والتصدي لبعض مظاهر الفساد الاقتصادي والمالي و الإداري. إن التحدي الذي سيكون مطروحا على النخب السياسية والثقافية التونسية في مستهل فترة الجمهورية الثالثة، هو قدرة هذه النخب على الالتفاف حول مشروع إصلاح وطني، يلتقون من خلاله على حد أدنى من نقاط الأجندة الوطنية، و يحافظون عبره على مكتسبات البلاد التي تحققت طيلة أكثر من نصف قرن في مختلف القطاعات، و يدفعون به الوطن في اتجاه تقدمي يتلافى أخطاء وتجاوزات العهود السابقة، كما يتلافى أيضا نكوصه إلى مشاريع أصولية ستغرق التونسيين في مواضيع هامشية وشكلانية، وتجلب عليهم نقمة خارجية قد تهدر -لا قدر الله- العديد من طاقاتهم ووقتهم وفرص تنميتهم.