الحبيب أبو وليد المكني التونسية: حققت الدكتورة رجاء بن سلامة حضورا متميزا في مختلف الحوارات و السجالات التي تدور بين المثقفين العرب على صفحات الانترنيت من خلال سلسلة من المقالات التي تتناول قضايا مفصلية مثل مسألة خيار المقاومة في لبنان وفلسطين و موضوع التنمية وحرية الإنسان و أخيرا قضية الحجاب و دلالته الرمزية . وهي في ذلك تضع نفسها ضمن فصيل من اللبراليين العرب الذين يتميزون عن غيرهم من العلمانيين بشدة عداءهم للظاهرة الإسلامية عموما و الإسلام الحركي خصوصا و لو أنني لست راض تماما عن استعمال هذا المصطلح الأخير ،وطبيعي جدا أن يكون هؤلاء محل اهتمام خاص من الإسلاميين الذين سيجدون نفوسهم مقبلة على الرد على كتاباتهم و اعتبار أنفسهم في معركة مفتوحة معهم تُستحل فيها مختلف أدوات الصراع الفكري وفي مقدمتها تحديد علاقة هؤلاء بالإسلام كدين قبل أن الخوض في أطروحاتهم و رؤاهم ... وبقطع النظر عن الموقع الذي تحتله الدكتورة رجاء في رابطة الليبراليين العرب التي تنتمي إليها وقد شهدنا منذ أسابيع قليلة كيف يدافع عنها أحد الوجوه المعروفة ضمن هذه الرابطة السيد شاكر النابلسي وبدعي أنها أصبحت هدفا للتكفير و ما قد يتبعه من نتائج خطيرة .فإنها أصبحت أبرز من يمثل هذا التيار في تونس ، ولأجل ذلك فهي مدعوة لتحمل الرأي المخالف لها و التوقف عن لعب دور المرأة العربية الضعيفة في المجتمع الأبوي الظالم . و أحب أن أكون واضحا منذ البداية في التأكيد على أنني شخصيا أقرأ ما تكتبه هذه السيدة الكريمة و أجد فيه ثقافة واسعة و تمكنا أكاديميا في اختصاصها و وجهة نظر متكاملة و متناغمة لا شك أنها مساهمة مهمة على طريق بلورة مشروع النهضة العربية المعاصرة ، و أقدر استعدادها لخوض المعركة بإصرار و عزيمة و أؤمن بحقها في التعبير عن رأيها و الدفاع عنه و أحترم عقيدتها وخيارها الأيديولوجي بيد أن ذلك لا يمنعني من خوض المعركة ضدها بالقدر نفسه من الإصرار و الإيمان و العزيمة وبالتالي فكل ما يأتي في هذا المقال لا يراد به أبدا إسكات صوتها كما يحلو لها أن تدعي على الدوام ، و لكنه أفكار مقابل أفكار، و توضيح لموقف، ودفاع عن حقي المشروع في الاختلاف معها، و كشف لما أراه من "أباطيل" و مواطن زلل في الخصوم . تدل مؤشرات كثيرة على أن ما أصبح يعرف باللبراليين الجدد يشعرون بأنهم في مأزق يصعب الخروج منه و أنهم ضحية لتيارات الغضب العربي الإسلامي ويحسبون أنهم يدفعون بذلك فاتورة الدفاع عن الحداثة والتقدم . و لا يتشكل هذا التيار في حركات و أحزاب سياسية واضحة لأنه غير قابل للتشكل بهذا المستوى و يفضل أنصاره الاستقلال عن الأحزاب ليتيسر لهم اللعب على كل الحبال و وضع أنفسهم تحت الطلب لمن يدفع أكثر و يحقق القدر الأكبر من المصالح وهم يمثلون اليوم أكثر الناس دفاعا عن العولمة إلى درجة انخراط الكثير منهم في المشروع الأمريكي لكنهم جاهزون للانقلاب عليه إذا ما تبين لهم أنه سائر نحو الفشل . هم اليوم ينتصرون للتدخل الأمريكي في العراق و التقارب بين فريق 14 آذار اللبناني مع الولاياتالمتحدة و مهاجمة جناح المقاومة و الممانعة ، وهم في معظمهم ينتصرون لفكرة التطبيع مع إسرائيل باسم الواقعية السياسية ومناهضة" التيارات الغوغائية" و الظلامية و أولوية التنمية على التحرير و ما إلى ذلك من حجج تحتاج إلى دراسة وتحليل علميين ليس هنا مجال القيام بهما ... المأزق قد يرجع أيضا إلى البنية العير متجانسة لهذا التيار. فهو يتكون من جماعات التطرف اليساري الذي هزم في كل المعارك التي خاضها باسم الحتمية التاريخية ضد الإسلاميين في مختلف المناسبات الانتخابية و الساحات الجامعية و الثقافية فنقلت معها شعورها بالخوف و الهزيمة وهي تقتحم على مضض مياه النهر للوصول إلى الضفة المقابلة ضفة الليبرالية التي طالما وعدت أنصارها بحتمية الانتصار عليها للالتقاء بما تبقى من تيار اللائكية الذي حكم بدون منازع ولا زال يتمتع بأوسع النفوذ في معظم الأقطار العربية . أما الشريك الثالث فهو بعض الأفراد النوعيين الموزعين على الأقطار العربية ممن انخرطوا في شبابهم في بعض الحركات الإسلامية في مراحلها الأولى و معظم هؤلاء ممن خاض تجربة قاسية في الانغلاق والتطرف و التصوف كان خلالها تابعا في شخصيته و هواه لشيوخه إلى أبعد حد واكتشف فيما بعد أنه كان في" ظلمات" من التعصب و العزلة و الاستلاب الاغتراب و كرد فعل على كل ذلك وجد هؤلاء أنفسهم ينخرطون في هذا التيار لأنه قبل كل شئ بعادي الظاهرة الإسلامية ويبدو أن أمرهم لا يتجاوز محاولة الثأر من ماضيهم الخاص و ترويض نفوسهم القلقة و إسكات ضمائرهم الحية ....و الأرجح أنهم أناس يسقطون تجاربهم الخاصة و الفاشلة في فترة الصبا على من كانوا من قبل إخوانهم و رفاق دربهم القديم فتجدهم لذلك يتوهمون أنهم خبراء في فكر الحركات الإسلامية و أنهم على ثقة في ما يزعمون من تعارض هذا التيار مع الديمقراطية و الحداثة و الدولة المدنية بوجه عام . وباختصار شديد أحسب أن اللبراليين الجدد هم خليط غير متجانس من قدماء اللائكيين و الماركسيين و ّأهل المراجعات الجذرية من المتدينين القدامى ّ الذي يتفقون على معاداة الإسلاميين و القوميين العرب و يختلفون فيما عدا ذلك من الأفكار لكنهم يضعون أنفسهم في خدمة أعداء خيار المقاومة العربية و الإسلامية في الداخل و الخارج و يظنون أنهم بذلك ينتصرون لخيار الحرية و الديمقراطية و التقدم . و لأن كتاب هذه الرابطة (كتاب موقع إيلاف مثلا)يقدمون أنفسهم باستمرار على أنهم ضحية الإمبراطورية الإعلامية الضخمة التي يملكها خصومهم من القوميين العرب و الإسلاميين ،لابد أن تلفت انتباه القارئ الكريم إلى أن ذلك ليس إلا ادعاءا باطلا يريدون به فقط استدرار عطف الناس و التعمية عن حقيقة الإمكانيات الضخمة التي توضع تحت تصرفهم منذ عشرات السنين ويكفي أن يدخل المرء إلى أي كشك جرائد ومجلات حتى يطلع بنفسه على الحقيقة من خلال العناوين المعروضة بما في ذلك تلك التي يمولها البترو دولار العربي من مثل مؤسسة الشرق الأوسط الإعلامية و ما إليها من مواقع إلكترونية واسعة الانتشار (...) و مؤسسة أم بي سي بقنواتها المتعددة و منها " العربية " و مؤسسة الحياة و الأهرام و ما لا يحصى من القنوات الإخبارية و الغنائية ،فضلا عن معظم وسائل الإعلام العربية الرسمية التي تقع تحت تصرفهم و رهن إشارتهم ... و الملاحظ أنهم قد ولعوا في السنوات الأخيرة بشن هجماتهم الواسعة على الإعلام الخليجي بصفة خاصة رغم أن معظم الإعلام الخليجي يقع تحت تصرف زملائهم و رفاق دربهم أو من هم على الأقل قريبون منهم ...أما البرامج و المنوعات و المسلسلات و البرامج الحوارية فمعظمها تعكس وجهة نظرهم .. حتى يجوز الحديث عن قلة المنابر التي بقيت لغيرهم ، و لكن شعورهم المتواصل بأنهم في مأزق و بأنهم مهددون في وجودهم نتيجة الإقبال الواسع التي يلقاه إعلام خصومهم بين المواطنين العرب و بروز ذلك في الشارع العربي و الإسلامي جعلهم خائفين مذعورين من المستقبل ، يخشون أن يضيع نفوذهم ثم تتآكل مدخراتهم و ينتهي دورهم . 2 الإسلاميون تيار محافظ،.و مشروعهم المجتمعي في حالة تشكل . الإسلاميون في العموم هم بلا شك تيار محافظ . جاء قبل كل شئ استجابة للتحدي الحضاري الذي يمثله الغرب الحديث و المعاصر ، هو تيار قاوم الاستعمار باسم الدفاع عن الأرض والهوية و لا زال يفعل ذلك بكل إصرار ، تيار يدافع عن الخصوصية الثقافية للبلاد العربية والإسلامية ، يميل إلى الدفاع عن العادات والتقاليد العربية قبل التفكير في إصلاحها و تغييرها ، تيار ينتصر للنصوص المؤسسة من قرآن كريم وسنة مطهرة . هذه السمة الأولى لهذا التيار أما السمة الثانية فهي التعددية و التنوع الذي يجعله يضم حركات مختلفة تتدرج من التشدد و التزمت إلى الاعتدال و الوسطية وبين هؤلاء وأولئك جموع من المسلمين لا يستقرون على موقف و قرار . هذا عن الانتماء الديني و الثقافي أما في السياسة فالأمر يبلغ مبلغا عظيما في الاختلاف و حتى التناقض وبالتالي فليس من المفيد أبدا الحديث عن هذا التيار من هذه الناحية بإطلاق . السمة الثالثة للتيار الإسلامي أنه لم يبلور بعد بصفة كافية مشروعه الحضاري و السياسي و لا زال لأجل ذلك يتابع التحولات التي شهدها الواقع من حوله في كل الاتجاهات ويبحث الخيار الأمثل ، و تيار الوسطية والاعتدال منه يبدو أنه بعد الحسم في المرجعية الإسلامية كعقيدة ومعايير و مدخل مناسب للحداثة ، يتجه بقوة اليوم نحو تبني الديمقراطية كمنهج في الحكم و المعارضة و آليات للتداول السلمي على السلطة لكنه لم يحسم في بعض القضايا المتعلقة بالحريات الأساسية و مقتضيات الدولة الحديثة . و إن شئنا التعسف قليلا على الإسلاميين المعتدلين عند تصنيفهم السياسي فيمكن أن نقول أنهم يتوزعون بين اليمين المحافظ ويمين الوسط رغم انحيازهم لجموع المستضعفين في الأرض ، فهم ليبراليون في الاقتصاد . محافظون في قضايا الهوية والثقافة راغبون في إرساء مجتمع الحريات ، عاملون في جملتهم من أجل الإصلاح السياسي و التداول السلمي على السلطة . و أكبر الإشكاليات التي تحط بظلال كثيفة على المشروع السياسي للإسلاميين هو الالتباس في خطابهم بين السياسي و الثقافي ، بين خطابهم الأصولي الإسلامي و فكرهم السياسي ، وهم يمارسون خطابهم الديني على أساس منهج أصول الفقه الذي توافق عليه العلماء السابقون و اللاحقون في الحكم على الأعمال و الأفكار و السياسات و يعلنون خطابا عصريا عندما يتعلق الأمر بالحريات وحقوق الإنسان و الاعتراف بالأخر ، فلا يفهم خصومهم كيف يمكن أن يحكم على تصرف ما بالكفر أو الشرك و الفسوق ثم بعد ذلك يقع التحدث عن الاستعداد للتعايش مع فاعله مثلا و يأتي الحديث إثر ذلك عن الخطاب المزدوج و ما إليه لأنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن المشرك لا حظ له في النظام الإسلامي عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرار و أن الفاسق ليس عدلا وبالتالي ترد شهادته و لا يأخذ برأيه أما الكافر فهو خارج من الملة وبالتالي فهو الآخر الذي يحدد توازن القوة شكل التعامل معه .و على ضوء ذلك لا يتوقف الجدل حول علاقة الدين بالسياسة وعلاقة المعايير الدينية بالحريات .وتناقض الشريعة الإسلامية مع مبادئ العصر ..و لعلنا ندرك الآن لماذا يطالب الليبراليون والجدد من اللادينين و اللاأدريين بإقصاء الإسلام كدين جملة وتفصيلا عن التدخل في الشأن العام و الاكتفاء منه بالإطار الحضاري بعيدا عن أي نوع من الالتزام القانوني . وحصره في دائرة العلاقة بين المرء و ربه و التوقف النهائي عن الاستناد للمعايير الدينية في الحكم على تصرفات الناس باعتبار ذلك تهديدا للحياة العامة و الفردية و خطرا مباشرا على السلم الأهلي و الحياة المدنية . وحالهم في ذلك حال الذي "يدعو لحرق البطانية من أجل برغوث".(.أنظر مقال زهير الشرفي المنشور على تونس نيوز ليوم 5 /12/06 . هذه الإشكاليات وغيرها تضفي وجاهة ومشروعية على الجدل و الحوار الدائر بين أنصار العلمانية و أنصار المرجعية الإسلامية و تبرز عمق الخلاف بين الفريقين وتمثل إحدى أهم المعضلات التي تعيق سير قطار التنمية و أبرز سمات المرحلة التاريخية التي تمر بها الأمة ، وبالتالي يبقى من الضروري العمل من أجل تحقيق هدف التعايش بين مختلف الآراء في كنف الاعتراف المتبادل و احترام مبدأ حرية الرأي و التعبير و عدم تورط أي طرف في تبرير انتهاكات حقوق الإنسان كما جاءت في المواثيق الدولية فذلك بدون ريب شرط إرساء الأرضية الملائمة للصراع الديمقراطي لكن حتى يتم ذلك هناك جهود كبيرة يجب أن تبذل من الفريقين على حد السواء ، والتوافق على أن الأوطان العربية تتسع للجميع و أن نبذ الإقصاء هو شرط الدخول في عصر الحداثة . و المشكل الكبير الذي يمنع اليوم مثل هذا العمل المشترك هو أن العلمانيين لا يطمئنون إلى خطاب الإسلاميين الداعم للحريات لأنهم يطمئنون أكثر للنصوص المرجعية الإسلامية كما يفهمونها،و يلجئون إلى الاستشهاد بتراث الاستبداد وتجارب النماذج المعاصرة التي حكمت باسم المرجعية الإسلامية في إيران وأفغانستان والسودان و... و في المقابل يرفض الإسلاميون الخطاب العلماني في هذا الشأن استنادا لشهادات العصر و تاريخ هؤلاء الأسود في الانتهاكات و الطغيان و الفساد و المفارقة بين الشعارات و الواقع ، و النموذج التونسي و العراقي في عهد صدام حسين في رأيهم خير دليل . و إن كان الإسلاميون تيارا محافظا لأنهم كما أشرت يدافعون عن تعاليم الإسلام و عادات وتقاليد قومهم بالدرجة الأولى فإن العلمانيين اليوم بحكم خوفهم من المستقبل الذي تدل مؤشرات كثيرة على أنه لن يكون لهم قد تحولوا إلى جماعات ضاغطة من أجل المحافظة على ما هو موجود من الاستبداد و التجزئة و الاحتلال باعتبار أن ذلك أفضل عندهم مما هو في طريقه إليهم ، أو يقبلون بالتغيير إذا كان تحت مظلة القوى الكبرى وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة .وهو خيار أصبح من السذاجة الاطمئنان إليه. و أرجو أن أكون يما تقدم قد اقتربت من تحديد ملامح الإطار الصحيح الذي يتنزل فيه الجدل ولا أقول الحوار بين الإسلاميين واللبراليين الجدد , وأوضحت السمات الرئيسية لكلا الفريقين من وجهة نظري طبعا لأنني سأنتقل بعد ذلك إلى مناقشة بعض ما جاء في مقالات الدكتورة رجاء بن سلامة في مقاربتها عن الحجاب والختان ولكن حتى أتجنب الإطالة سيكون ذلك في مقال لاحق . [email protected]