في سابقة تستحق منا كتونسيين وعرب ومسلمين كل الثناء والتقدير وبالغ الاحترام ,أعلن الأستاذ أحمد نجيب الشابي الامين العام للحزب الديمقراطي التقدمي أحد أبرز أحزاب المعارضة في تونس يوم الاثنين 11-12-2006 وفي مؤتمر صحفي "عدم الترشح للامانة العامة للحزب في اطار سنة التدوال". القرار الذي أقدم عليه الأستاذ الشابي والذي أصفه بالشجاع والمسؤول والحكيم ,اضطرني الى الجلوس أمام الحاسوب في ساعة متأخرة من الليل برغم زحمة الاهتمامات وكثرة المسؤوليات والحاح بعض الطلبات وشعور عارم بالارهاق من أجل أن أخط سطور هذا المقال الذي أعتبر كتابته تعبيرة صادقة تجاه شعور بالأمل راودني في زمن استوى فيه وضع كثير من الحكومات مع كثير من المعارضات ,حيث بدى لي أن موضوع التداول على السلطة يعد خطا أحمر لايمكن الخوض فيه من قبل النخب الا باتجاه محور السلطات . موضوع التداول كثيرا ماكان مطلبا أساسيا في نضالات النخب المعارضة داخل تونس وخارجها ,اذ أنه من الثابت بمكان اجتماع فعاليات المجتمع المدني وربما كثير من الشرائح الجماهيرية على ضرورة تقييد الحاكم والمسؤول الأول في الدولة أو حتى من هو دونه في السلم التنفيذي على الالتزام بمقتضيات التداول والتجديد في الهرم السياسي الرسمي ,غير أن الحديث حول الزام قادة الأحزاب المعارضة أنفسهم بمثل هذا المطلب العقلاني والأخلاقي كثيرا ماكان يقابل أصحابه بموجات من التشكيك والاستخفاف والتدجين والاتهام الذي يصل الى حد العمالة للسلطة والتخوين...! قبل سنة ونصف من هذا التاريخ سبق لي أن طالبت الأستاذ راشد الغنوشي الرئيس الحالي لحركة النهضة التونسية بفتح المجال واسعا أمام قيادات شبابية مخضرمة من الجيل الثاني للحركة كي يتولوا مهمة قام عليها لسنوات طوال منذ أن أعلنت الحركة عن نفسها في المنتظم الحزبي والسياسي سنة 1981,غير أن الكثيرين من أنصار الشيخ الغنوشي كتبوا مرارا وتكرارا بأن الحركة شهدت تداولا على رئاستها في مرات عدة وبأن الادعاء باحتكار رئيسها الحالي لهذا المنصب عار عن الصحة ,غير أني وان كنت أشاطرهم الرأي بصحة ماذكروه من معطيات ,فانني مازلت مقتنعا بحكم الخبرة والتجربة داخل الحركة بأن نفوذه داخلها وعلى مدار عقود متتالية كان لايضاهيه الا نفوذ المشائخ عبد الفتاح مورو والحبيب اللوز والدكتور صالح كركر-شفاه الله- وبأن من تداولوا على مناصب قيادية عليا فيها كانوا بمثابة وزراء في حكومة هؤلاء القادة البارزين. ولعلني من باب الانصاف لا أنكر بأن رجالا من أمثال الصادق شورو وحمادي الجبالي وعلى العريض والدكتور المنصف بن سالم والد.احمد لبيض واخرين كانوا يحتلون مكانة معنوية عظيمة في صفوف مناضلي النهضة ,غير أن وزن المشائخ كان حقيقة يفوق معنويا وتعبويا ماعداه من أوزان ,حيث أن قادة التوجيه الروحي والتربوي من أمثال الشيخ مورو والشيخ مبروك الزرن-رحمه الله تعالى- والشيخ الزمزمي والشيخ عبد العزيز الوكيل والشيخ اللوز واخرين حملهم مناضلو الحركة صفة المشائخ ,كان لهم من القدرة والنفوذ الأدبي والمعنوي على مناضلي النهضة ماعجز ربما عن تحقيقه قادة التنظيم. اليوم وبعد أن مرت تجربة الاسلاميين التونسيين بكثير من الاخفاقات والتي يتقاسمون فيها المسؤولية وبنسب مختلفة مع السلطة في المقام الأول ومع المعارضة العلمانية واللائكية بدرجة ثانية ,وبعد أن مرت الحركة منذ تاريخ الاعلان عن تأسيسها قبل عقدين ونصف بأكثر من عقبة ومحنة ومواجهة أمنية أدت الى رحيل العشرات من أبنائها وسجن عشرات الالاف من مناضليها أو المتعاطفين معها ثم الى نفي قسري للمئات من شبابها,حان الأوان وبدون توجيه كلمات الاتهام والقدح لأي طرف فيها سواء ممن مازال رابضا بداخلها أو مقيما على حواشيها وأطرافها,حان الوقت لمراجعة شؤون القيادة وتشبيبها وابعادها عن منطق الشرعية التاريخية والرموز والأسماء الكبيرة,حيث أن الشرعية لاتقاس بمعايير منظمة التحرير الفلسطينية وانما بالكفاءة والأمانة وضرورة المراجعة الاستراتيجية على خلفية بناء جسور جديدة مع المعارضة والحكم وكل الفعاليات المجتمعية ,وعلى خلفية الكف عن سياسة التخوين للمخالفين في الرأي والتشكيك في اسلامهم أو اخلاصهم أو أمانتهم بمجرد العودة الى تونس أو ترتيب أوضاعهم الشخصية والعائلية أو طرح فكرة انهاء حالة القطيعة مع السلطة أو ضرورة مراجعة فكرة الخصومة السياسية مع الحزب الحاكم أو غيره من الهيئات الرسمية في الحكم. لانريد من الاخوان الأفاضل في حركة النهضة أن يقابلوا نقدنا الهادف والهادئ هذا والذي نقدمه من باب النصح بمقولة "يطلقها ويوريها دار أبوها",حيث أن اخراج البلاد من محنتها السياسية يعد مسؤولية وطنية جماعية وأن الاهتمام بما الت أو ستؤول اليه الأمور داخل البيت الوطني يعد مسؤولية أخلاقية نتقاسمها معهم وذلك بحكم وفائنا لقيم الاسلام الوسطي والمعتدل وبحكم نضالنا معهم داخل نفس البيت طيلة عقدين متتاليين وبحكم حرصنا على تقديم المصلحة العليا للبلاد على منطق الخلافات السياسية ومنطق الانتصار للذات على حساب الخلق والمبادئ والوفاء لدماء الشهداء الأبرار ومن أفنوا زهرة شبابهم وراء القضبان. ان النهضة مطالبة اليوم أكثر من غيرها بالاقدام على خطوة موازية لما أقدم عليه الأستاذ أحمد نجيب الشابي ,وذلك باعتزال الشيخ راشد الغنوشي لمهمة رئاسة الحركة وترك الفرصة سانحة لاخرين مع تفرغه في مثل هذا العمر المتقدم-مع رجائنا لله تعالى له بالعمر المديد- لمهمة التفكير والتوثيق والتأريخ لتجربة الحركة الاسلامية التونسية ونظيرتها العربية والاسلامية مع حرص على نقد التجربة بعيدا عن العواطف وفي كنف الهدوء وفي ظل رغبة حقيقية وموضوعية بالمراجعة والنصح للقادم من الأجيال. مثل هذه الخطوة الجريئة والشجاعة والتي ننتظرها من رئيس النهضة التونسية لابد أن تكون مقرونة بسن قانون داخلي بعدم جواز تولي منصب رئاسة النهضة أكثر من نيابتين أو ثلاثة ,مع الدخول في مرحلة مراجعة جذرية لطبيعة العلاقة بين الخطاب السياسي النسبي والخطاب السياسي الذي يمعن في توظيف الديني في اطار قراءات خاطئة جرت على البلاد والعباد كثيرا من الضيق والضنك والكبد ,وهو مايعني في تقديري احترام المرجعية الاسلامية أخلاقيا وفيما تواترت عليه النصوص القطعية من تشريعات ,غير أنه لابد من تفريغ أهل العلم الشرعي والتخصصات الفقهية الاسلامية للبت في القضايا الخلافية بين العلمانيين والاسلاميين بعيدا عن منطق الوصاية الحركية التي تحمل بعدا شموليا في وعاء للسياسي والدعوي والثقافي والاجتماعي والنقابي وغيره من المجالات. لا أريد في هذا الموضع أن أتحول الى قاضي للقضاة وانما هي النصيحة الأخوية أقدمها لهؤلاء الاخوان الذين نأمل فيهم مراجعة للعلاقة مع اخوانهم من الاسلاميين الذين تسربوا من الحركة على أرضية خلاف في الاجتهاد السياسي ,كما نأمل منهم مراجعة استراتيجية وفكرية لمفهوم علاقة المعارضة بالسلطة على أساس النصح والتعاون فيما هو ممكن ووارد وراجح والنقد والمعارضة فيما هو خطأ وانحراف ونقصان ,وليس على أساس علاقة المغالبة والاقصاء المتبادل من الطرفين وعلى أساس منطق فرعون وموسى ومعسكر محمد-ص-وقريش . لاشك أن قضايا الحجاب والحرية الدينية الشخصية والجماعية في اطار ماتكفله الدولة من حقوق دستورية لمواطنيها كما موضوعات الحريات الأساسية وحقوق الانسان, تعد قضايا خطيرة ساهمت في مباعدة الشقة بين النهضة والسلطة ,غير أنني مازلت أعتقد بأن المراهنة بعيدا على موضوع تحالف 18 أكتوبر سوف لن يكون على الأرجح في نهاياته الا مراهنة مصرية على حركة كفاية ,التي يبدو انها تبخرت مع فخ تصريحات الحجاب التي ألقى بها الوزير فاروق حسني. أقدر نضال الدكتور المرزوقي واخوانه المناضلين الأشاوس في المؤتمر من أجل الجمهورية ,كما نضال الرفاق في حزب العمال الشيوعي على أرضية الحريات ,ولاأغفل في هذا الاطار عن الاشادة بنضال اتحاد أصحاب الشهائد المعطلين عن العمل ونضال أبطال الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان ونضال غيرهم داخل الجمعية الدولية للدفاع عن المساجين السياسيين والمجلس الوطني للحريات ونضال كل جنود الخفاء داخل الأحزاب الوطنية بما في ذلك مناضلي التيار الاصلاحي الحكومي والذي يعاني في صمت داخل أجهزة التجمع الدستوري الديمقراطي ,وأدعو كل هؤلاء الى التفكير مليا فيما أقدم عليه الأستاذ أحمد نجيب الشابي بل والى الاقتداء بهذا المسلك السياسي الوطني والشريف, الذي نريد منه مثالا يحتذى به داخل أحزابنا وهيئاتنا الوطنية ,وذلك من أجل رؤية تونس على مسار التداول والتناوب الحقيقي بعيدا عن منطق مطالبة السلطة بشيء وممارسة شيء اخر داخل الجسم المعارض . امل أن تكون هذه الخطوة التاريخية للاستاذ الشابي الرئيس الحالي للحزب الديمقراطي التقدمي,منعرجا مركزيا في حياتنا الوطنية ومقدمة لتغيير سياسي هادئ تشهده كل الأحزاب والتيارات والجمعيات الأهلية التونسية وذلك في انتظار أن تتهيأ البلاد لاستحقاقات سياسية كبرى قادمة لامحالة بمشيئة الله. *كاتب وباحث في قضايا السياسة والاعلام ومدير صحيفة الوسط التونسية : [email protected]