يتأسس المشروع الاخلاقي عند «كانط» على نوع من الريبة المفرطة تجاه كل غرضية قد تمثل اغترابا للارادة، وفي الحقيقة فإن تصور الألم باعتباره محتّما كلما عوّلنا على الاشياء التي لا تقع تحت طائلة ارادتنا، ليس منظورا جديدا في الفلسفة اذ من الواضح أن «كانط» استعاد فيه أطروحات الرواقية وأساسا «إبيكتات». لقد شكل هاجس البحث عن معايير اخلاقية ملازمة لإرادة البشر، ويمكن للجميع تبنيها، جوهر أطروحة «كانط» في مسألة العلاقة بين الفضيلة والسعادة، ذلك ان الكانطية رامت التأسيس لعالم دون عنف ولا صراع وهو الامر الذي يبدو مستحيلا دون تقرير سيادة الفضيلة على السعادة. ما هي إذن المبررات التي قادت «كانط» الى رفض المطابقة بين السعادة والفضيلة والى تأسيس الفضيلة الاخلاقية على مطلب السعادة؟ إن السعادة منظورا إليها من زاوية الفرد هي ما يتحقق في انسجام مع أمنياتنا ورغباتنا فهي إذن حالة إرضاء وإشباع للنوازع تتراوح بين النسبية والاطلاقية بحيث قد تنشدّ الى الفرح واللذة والبهجة كمشاعر وقتية وبين الغبطة كحالة مثالية لأهل الحكمة كما تصور بعض الفلاسفة حيث الغبطة لديهم حالة رضاء تام تغطي كامل وعينا يبلغها الحكيم بالتأمل كما تصور ذلك مثلا «أرسطو» و «الرواقيون» و «سبنوزا» وغيرهم. لقد استوجب الأمر على «كانط»، وتوافقا مع سؤاله المركزي «ماذا يجب عليّ أن أفعل؟»، أن يتصدى لكل أطروحات فلسفات اللذة أو السعادة (Les Eudémonistes) أي تلك التي تعتبر ان البحث عن السعادة يمكن ان يكون مبدأ سلوكنا، الذي يشرح «كانط» في كتاب «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» اللاتحدد الذي يصادفنا كلما، رمنا أن نجعل من السعادة موضوعا للمعرفة ويبرر بإسهاب كيف أن السعادة ليست مثلا أعلى للعقل وبالتالي هي ممتنعة عن مطلب الكلي. سيوضح «كانط» في هذا السياق أن السعادة مبنية على عناصر حسيّة وخبريّة، ففي الواقع هناك سعادات تبعا لتعدد المنافع والخيرات أي تبعا لما يتصوره كلّ فرد مشبعا لرغتبه الخاصة. بناءا على ذلك قد يرى البعض السعادة في نيل المناصب والبعض في المال وآخرون في الصحة وآخرون في العلم وهذا يعني أن عناصر مفهوم السعادة ستتغير بحسب ما يراه كل فرد مرضيا له، والنتيجة هي ان ارتباط السعادة بالغرضيّة وبالنفع هي ما يفسر عدم قدرتنا على تأليف حكم كلّي حول السعادة. إن ارتباط السعادة بأحداث «إمبريقية» يجعل مضمونها عرضيا بحيث لا تملك رغباتنا عليه سلطة وممّا يترتب عن ذلك ان اقامة السلوك على معطيات لا متحددة سيجعل من السلوك نفسه لا متحددا وبالتالي فاقدا لأي معنى: «أن نبحث لأجل أن نحدد بصورة يقينيّة وعامة عن ما هو التصرف الذي يمكنه ان يضمن سعادة كائن عاقل، هو مشكل مستعص بالجملة عن الحلّ». هذا ما يقوله لنا كتاب «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» وعلينا ان نفهم من ذلك عجزنا وعجز كل فرد على أن يتصور سعادته وفق قاعدة كلّية، إذ يلزمني لأجل ذلك ان أكون قادرا على تأمل حياتي بمجملها اي ماضيها وحاضرها ومستقبلها وهو أمر متعذر. إن هذا التعذّر هو بالضبط ما قد لا يمنع من أن يتحوّل مصدر سعادتي اليوم الى مصدر أكبر الآلام غدا تماما كما في حال خروج قاطع طريق على ثري سعادته في جمع المال وحينئذ يكون مصدر السعادة سببا مباشرا لمواجهة ألم الموت. إن السعادة إذن من طبيعة شرطية، يحدّها الزمان والمكان والغرض وهي بذلك من صميم اللاتحدّد ولهذا اعتبرها «كانط» «مثلا أعلى للخيال»، أي مثل يستند على مضمون خارجي، لا محدد وبالتالي غير قادر على ان يعطينا قاعدة ثابتة للسلوك. إن إدراك «كانط» ان الاخلاق هي أولا وأخيرا ما يربطنا بالغير وأن العلاقة بالغير يلزمها ان تبنى خارج أفكار النفع والغرضية، هو ما سيقوده الى الاعتراض على الأمر الشرطي بالأمر القطعي: «إفعل فقط طبقا للمبدأ الذاتي الذي يجعلك تريد له في الوقت نفسه ان يصير قانونا كليا». يتعلق الأمر هنا بصيغة عقلية صورية خالصة يعرض من خلالها كانط القانون الأخلاقي الذي على النقيض من اللهث وراء السعادة يحدد واجبا لا يتوقف على الاحداث الخارجية ونزيه عن الغرضية مهما كان طبيعتها حتى وإن تعلق الامر بالرغبة في رضاء الضمير: يقول «كانط» في كتاب «نقد العقل العملي»: «بما أن جميع المبادئ المحددة للإرادة باستثناء قانون العقل العملي المحض (القانون الأخلاقي)، هي مبادئ خيرية وبذلك ترتبط بمبدأ السعادة، فإنه يلزم فصلها جميعا عن المبدأ الاخلاقي الأسمى» ويواصل «كانط» شارحا كيف ان محاولة الخلط بين القانون الاخلاقي وأي مبدأ للسعادة هو تحطيم واغتراب لكل قيمة أخلاقية. الأخلاق الحقّة، إذن لا علاقة لها بأي شكل من أشكال المصلحة وطاعة الارادة لأوامر العقل لا غرض لها سوى احترام الواجب لذاته لا لشيء اخر وتأسيسا على ذلك فإن احترام الغير كإنسان في كرامته هو شعور أنبل من العمل على تحقيق سعادته. لقد ربط «كانط» الخير باستقلال الارادة وطاعتها لأوامر العقل ولذلك فقد أسس لفضيلة متعالية هي عنده نشدان الارادة لذاتها بصفتها إرادة مستقلة تحترم الواجب لذاته. هل يتعلق الامر عند «كانط» بتناقض بين السعادة والفضيلة؟ بشكل عام وموجز يمكن القول ان «كانط» قصد وضع حدود الاختلاف بين الفضيلة والسعادة لكن دون الانتهاء الى الاقرار بتعارضهما كما وضّح هو ذلك في كتاب «نقد العقل العملي» إنّ وضع حدود امام «معرفة» السعادة سيكون في ذات اللحظة استدعاء للسعادة فيما وراء العقل وأبعد منه ذلك ان التفكير في موضوع السعادة لا يمكنه ان يبلغ مداه دون مخالفة العقل نفسه. لقد أوضح «كانط» في هذا السياق أن السعادة يمكنها تثبيت الالتزام الاخلاقي غير أنه من الممكن ايضا ان تصيب الفضيلة بالضرر حين لا يحصل عليها من التزم لأجلها بالفضيلة، بناءا على ذلك يبدو من الواضح ان التمسك بالفضيلة ليس حائلا دون ان نكون سعداء لكنه من الواضح ايضا انه لا يحقق ضرورة السعادة. بهذا الشكل يحق القول بأن الفضيلة وان كانت لا تجعلنا ضرورة سعداء فإنها يمكن ان تجعلنا «جديرين بالسعادة». ما الذي قصده «كانط» بفكرة الجدارة بالسعادة؟ يفسح «كانط» المجال لعنصر الدين لكي يجعل من السعادة آملا أخرويا تناله ارادة تجانست مع «إرادة الالاه وهو التناغم الذي يسميه «كانط» «الخير الأسمى» ذلك ان استحقاقنا للسعادة في عالم الالاه سيكون محصلة أخلاقيتنا ككائنات عاقلة، ففي عالم الالاه فقط يمكن الحديث عن هذا الخير الأسمى الذي هو عين تطابق الفضيلة والسعادة. لا ينبغي إذن ان نفكرّ في أن نصبح سعداء بل فقط كيف نكون جديرين ومستحقين للسعادة: إن قاعدة السلوك يجب أن تكون دائما الالتزام بالقانون الاخلاقي أمّا السعادة فهي أملٌ يشدّ الكائن العاقل الى ما وراء حدود العقل. إن لا واقعية كانط هي أمر يجمع عليه أغلب نقاده ولذلك سنلاحظ أن الفلسفة المعاصرة ستعود في مسألة السعادة الى «أرسطوا» أكثر منه الى «كانط» ففي عصر مثل عصرنا انشدّ فيه مفهوم السعادة الى معاني الرفاه واللذّة ومقاومة الألم يصعب إقناع أحد بأن «سيزيف كان سعيدا».