مرة أخرى، تنقضي سنة وتكون محصِّلتها على الصّعيد السياسي مخيبة لآمال وتوقعات أوساط واسعة، بعضها معارض للحكم، وأخرى قريبة منه. فسنة 2006 سادتها حالة تردد "غير مفهوم أو غير مبرر"، حالت دون اتِّخاذ عدد من الإجراءات التي كان من شأنها أن تُساعد على خلق حركية، دون أن تغيّر موازين القوى. فما هي أبرز ملامح المرحلة التي انقضت وكيف تبدو توقعات السنة الجديدة؟ كان عام 2006 في تونس عام "المؤتمرات" بامتياز، سواء على الصعيد السياسي أو الجمعوي، وقد عكست التفاوت القائم بين الآمال والواقع، وسنكتفي بالإشارة إلى أربعة منها. أولها، مؤتمر "الاتحاد العام التونسي للشغل"، هذه المنظمة، ذات الثقل الاجتماعي والسياسي، التي ساهمت في تحديد ملامح وبناء دولة ما بعد الاستقلال. وبالرغم من أن موازين القوى لم تتغيّر بشكل كبير داخل المكتب التنفيذي، كما طغت الحسابات الانتخابية على أجواء المؤتمر وكواليسه، إلا أن التجاذب الحاد بين المجموعات النقابية والشفافية التي ميّزت عملية الاقتراع، والنبرة الاحتجاجية التي سادت أحيانا دِفاعا عن استقلالية الاتحاد ورغبته في تعميق الممارسة الديمقراطية داخله، كل ذلك أشّر على أن هذه المنظمة مرشحة لتستعيد خلال السنوات القادمة شيئا من حيويتها، ليس فقط على الصعيد النقابي، ولكن أيضا على الصعيد السياسي، بعد أن نجح النظام منذ مؤتمر سُوسة عام 1989 في تحويل الاتحاد إلى "حليف ثابت"، وهو تحالف لا يزال مستمرا، لكنه بدأ يتراجع منذ أن رفض النقابيون تزكية منظمتهم للإنتخابات الرئاسية الماضية، ولم يقبلوا بتعيين ممثلين عنهم داخل مجلس المستشارين، وانتقدوا الدعوة التي وجِّهت إلى شارون لحضور فعاليات الجولة الثانية من قمة المعلومات. ويتعلّق الحدث الثاني بمؤتمر "الحزب الديمقراطي التقدمي"، الذي تطورت هياكله بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، فبدا أكثر الأحزاب قُدرة على استقطاب الأنصار في مرحلة تراجعت فيها رغبة الالتحاق بالنشاطات الحزبية أو الجمعياتية، وقد تميّزت مسيرة الحزب بمشاركة فاعلة في أهم الأحداث التي شهدتها البلاد منذ عام 2000. ومما أضفى على هذا المؤتمر نُكهة خاصة، قرار أحمد نجيب الشابي عدم تجديد ترشحه لمنصب الأمانة العامة، ممّا وفر فرصة للمناضلة "مية الجريبي" لتكون أول امرأة تونسية تتولّى قيادة حزب سياسي. لكن التحدّي الرئيسي، الذي لا يزال يُواجهه الحزب، هو مدى قدرته على هضم تعدديته الداخلية، التي اختارها مؤسسوه بوعي منذ البداية في مرحلة "التجمع الاشتراكي التقدمي"، تعددية تفرض مستوى عال من الانضباط والنّضج السياسي واحترام الآخر والانفتاح الواسع على المحيط، وهو ما يفرض مُرونة وتكيُّفا فكريا وتنظيميا مع المتغيِّرات، التي تفرزها حتما مرحلة الانتقال من حزب صغير إلى حزب يطمح للجماهيرية. كما شكّل الحوار والاختلاف العلني والشفاف حول تقييم المسار العام للحزب، نقطة قوة لصالح الديمقراطية الداخلية، هذا الحوار الذي فجّرته الورقة التي أعدّها عضوا المكتب السياسي (محمد القوماني وفتحي التوزري)، والتي تناولت أبرز التحدّيات والعوائق التي تواجه مسيرة الحزب، وبالخصوص تحديد طبيعة العلاقة مع السلطة وبقية مكَوِّنات المعارضة الديمقراطية. كانت محاولة جدية في اتّجاه التخفيف من ظاهرة التناحر الشخصي داخل الأحزاب التونسية، ومحاولة استبدالها باختلاف في الرؤى والبرامج بين متنافسين حقيقيين، وذلك بالرغم من "التشنُّج"، الذي اتّسمت به ردود البعض. قبل ذلك بفترة وجيزة، عُقد أيضا مؤتمران آخران لهما صلة قوية بالحالة السياسية العامة، مؤتمر أرباب العمل (الأعراف) "الاتحاد العام للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية". وبالرغم من أن القيادة لم يطرأ عليها تغيير جوهري، حيث تم تجديد العُهدة مرة أخرى للهادي الجيلاني، إلا أن شيئا ما قد بدأ يتغيّر داخل هذه المنظمة، التي تشكّل أحد الدعائم الرئيسية لنظام الحكم. فنسبة التجديد المرتفعة، التي حصلت على مستوى الهياكل الوسطى والانتقادات التي وجِّهت لأسلوب إدارة الاتحاد والملفات الساخنة التي نُوقشت من قِبل أصحاب المؤسسات الاقتصادية، كل ذلك وغيره قد عكس إلى حدّ ما رغبة دفينة لدى رجال الأعمال في أن يُمارسوا دورا فعليا في وضع السياسات ومراقبة تنفيذها في كنف الشفافية والديمقراطية الداخلية واستقلالية اتحادهم، وذلك في مرحلة يحمِل فيها القِطاع الخاص مسؤولية كبيرة، دون أن تتقيد السلطة بجميع شروط الشراكة الحقيقية. أما مؤتمر "جمعية القضاة"، فقد عُقد بدون روح، وخلا من كل مظاهر المنافسة، حيث كانت غايته الاحتفاظ بالهيكل وقطع الطريق نهائيا أمام التيار الاستقلالي، الذي لا يزال يتمتّع بمصداقية عالية في الأوساط القضائية، خاصة بعد أن عوقبت رموزه. فالسلطة لم تكن مستعدّة لكي تتساهل مع الذين يُنادون بإعادة النظر في العلاقة بين السلطتين، التنفيذية والقضائية. تميّزت سنة 2006 بإحساس حادّ لدى المعارضة، يُشعِرها بأنها فاقدة للتأثير وعاجزة عن الارتقاء بأدائها، وتستوي في ذلك الأحزاب الموالية للحكم أو تلك التي صعدت في خطابها الاحتجاجي وحاولت بناء جبهة مضادة للسلطة. فالدائرة الأولى من الأحزاب قررت أربعة منها تأسيس ما سمي ب "اللقاء الديمقراطي"، وهو عبارة عن هيئة تنسيق فيما بينها من أجل الدفاع عن نفسها ضد من يشكِّكون في مِصداقيتها واستقلاليتها، ويصفونها ب "الأحزاب الإدارية" القابلة بدور الديكور في ظل نظام أحادي، وهو تشكيك لا يصدر أيضا حتى "عمّن يُعتبرون محافظين في أوساط الحزب الحاكم "حسبما أشار إلى ذلك مقال ورد بصيفة" الوحدة الناطقة باسم حزب الوحدة الشعبية (ممثل في البرلمان). أما الدائرة الثانية من الأحزاب، فقد لجأت إلى كل الوسائل للتعبير عن رفضها ومحاولة منها للخروج من حالة العجز، لكنها وجدت نفسها تدور في حلقة مفرغة، نتيجة الحصار وغِياب السّند الشعبي وقلّة الأنصار. في هذا الإطار، لم يجد رئيس حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" (محظور) المنصف المرزوقي سوى التوغل أكثر في اتّجاه تكريس القطيعة مع النظام، الذي يعتقد بأنه "لا يصلُح ولا يُصلَح". وبناء عليه، دعا الشعب التونسي إلى العِصيان المدني، لكن بعد أقل من شهر، عاد إلى فرنسا بدون حصيلة تُذكر، باستثناء الشجاعة السياسية والصّبر على الأذى و"إقامة الحجة" على الجميع، وإرباك السلطة التي تخلّت عن إيقافه ومحاكمته. في مقابل ذلك، اقترح القوماني والتوزري في ورقتهما - التي عرضاها على أعضاء حزبهما وأثارت جدلا واسعا - تبني "الخيار الثالث"، الذي يتجنّب القطيعة مع السلطة، ويؤكّد على مبدأ "المشاركة"، أي العودة إلى المنهج الإصلاحي من خلال تبنّي "إستراتيجية الضّغط السياسي على النظام، إلى جانب الحوار معه". لكن المشكلة التي يواجهها أصحاب هذا الطرح، وهم موجودون داخل عديد الأحزاب والجمعيات، تكمُن، حسب اعتقاد البعض، في أن السلطة لا تزال ترفض محاورة حتى ذوي الأيدي الممدودة إليها، بمن في ذلك أعضاء في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أو معتدلون داخل حركة النهضة أو خارجها، الذين لا يزالون يُطالبون منذ أكثر من سنة بالتطبيع السياسي مع نظام الحكم تحت عنوان "المصالحة"، ولهذا كان من الطبيعي أن يطرح محمد حرمل، رئيس حركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقا) السؤال التالي: لماذا لم توفّق المعارضة الديمقراطية والتجديد جزءً منها في إخراج الحياة السياسية من المأزق.. ولم تتمكن من ترجيح الكفة وتعبئة المجتمع في سبيل الديمقراطية؟، وهو إذ يعتقِد بأن الحل يكمُن في بناء الحزب الواسع، لكن لماذا عجزت الأحزاب، وفي مقدّمتها حركة التجديد في تأسيس هذا الحزب الواسع الديمقراطي والتقدمي، أي البقاء داخل الحلقة المفرغة وتكرار لحدوثة البيضة والدجاجة؟ سنة الضباب واضطراب الرؤية اتسمت سنة 2006 أيضا بكثرة الإشاعات، وانقضت دون أن يُغلق ملف المساجين السياسيين نهائيا، وبدلا أن يطلق سراحهم، تم التوسع في ملاحقة من يوصفون بالسلفيين، وإيقاف العشرات أو المئات منهم وإصدار أحكام قاسية ضد العديد منهم، كما تميّزت هذه السنة بموجة جديدة من ملاحقة المحجّبات، دون تحقيق نتائج فعلية وتشديد الخناق على محاولات إعادة البناء الرمزي لحركة النهضة، كما استمرّت إرادة منع الرابطة من عقد مؤتمرها، وحالت الشرطة دون السماح للهيئة المديرة بتعميق المشاورات، حتى مع أصحاب المبادرات الداعين إلى الاعتدال والتوافق وتبنّي الحلول الوسطى. لكن رغم أن اللّجوء إلى قِوى الأمن قد تكثف، حسب الكثير من المراقبين، إلا أنه في خطٍّ مُواز تحمّلت السلطة تواصل صدور صحيفة "الموقف"، رغم جُرأتها العالية، وتم السماح لمكونات مبادرة 18 أكتوبر من عقد بعض الاجتماعات على إثر سلسلة من قرارات المنع والمحاصرة، ووقع تمكين حزب "التكتل الديمقراطي للعمل والحريات" من رخصة إصدار صحيفة "مواطنون"، بعد تردد وممانعة. كما تضمن خطاب الرئيس بن علي في الذكرى 19 لاستلامه السلطة، دعوة إلى تنشيط الحِوار مع جميع مكوِّنات المجتمع المدني في ظل "الميثاق الوطني" (تم التوقيع عليه يوم 7 نوفمبر 1988) حول ملفّات المرحلة القادمة، غير أن هذه الدّعوة بقِيت على الصعيد العملي بدون تفعيل أو صدى، أما على صعيد الإعلام، فقد هبّت على بعض الصحف المحلية نسمة خفيفة من الجُرأة المسموح بها، لكن سرعان ما أغلق القوس، قبل أن يُفتح من جديد وِفق وتيرة مضطربة. حالة التردد والمراوحة، جعلت الكثيرين يخشون من أن يفتح جمود الحياة السياسية الباب أمام المغامرين والمتطرفين، لهذا السبب، أصيب هؤلاء بالرّجفة، عندما تمّ الإعلان مساء 23 ديسمبر عن تبادل طلق ناري مع مسلحين مختفين بأحد المنازل، الواقعة في جنوب العاصمة، وهي حادثة تُعتبر الأولى من نوعها. وبالرغم من أن البلاغ الرّسمي قد وَصف المجموعة بأنها من المجرمين الخطرين، إلا أن بعض الأوساط تخشى من أن يكون الأمر من صنع "خلية نائمة"، كما أشار إلى ذلك مراسل صحيفة الشرق الأوسط في العاصمة الجزائرية، وهي فرضية تُثير رعب كل الذين يخشون على أمن تونس واستقرارها، ويأملون في أن يبقى الاعتدال هو السِّمة الملازمة للمعارضة التونسية. وبقطع النظر عن هذا الاحتمال، الذي لا يوجد ما يدعمه حتى الآن، فإن السؤال المطروح لا يزال يتكرّر في صيغ متعددة: هل تكون السنة القادمة سنة تفعيل دور المعارضة ومنظمات المجتمع المدني؟ وهل تبلغ السلطة درجة الاقتناع بأن الانفتاح السياسي يحمي الاستقرار وينمي روح الاعتدال ويخدم صورة النظام؟ لا يملك أحد الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، التي تتكرّر مع خاتمة أو افتتاح كل عام، لكن قد يطرح البعض سؤالا آخر - في سياق نتصل - : ماذا أعدّت السلطة للاحتفال بمناسبتين: الأولى، مرور خمسين عاما على إعلان الجمهورية وإلغاء النظام الملكي، والثانية مرور عشرين سنة على ذكرى السابع من نوفمبر 1987.