على مدى تاريخ الدولة الحديثة في مصر، كان هناك خطّان أحمرين لا يجوز التفريط فيهما أيا كانت طبيعة نظام الحكم السائد ملكي، إقطاعي، جمهوري وهما حماية الوحدة الوطنية بين عنصري الأمة، أي المسلمين والأقباط. وثانيا، تأمين مستقر ودائم لمياه النيل أو ما يُسمى أصل الحياة في بر مصر. الآن، أضِيف إليهما خط أحمر ثالث، وهو الدولة المدنية. الخط الأحمر الثالث يطرحه البعض الآن، باعتباره قضية خطيرة في ضوء التطوّرات الجارية بسرعة في نهر السياسة المصرية، خاصة المتعلِّقة بموقف جماعة الإخوان المسلمين، المحظورة قانونا، والموجودة واقعا، تُجاه الديمقراطية كشكل للحكم، والتي يقابلها موقف المعارضين للجماعة والمناهضين لها إلى حدّ كراهية التحريم، ومنهم من يعتبرها وَرما خبيثا لا يجُوز معه سوى الاستئصال، ولكنه لا يعرف كيف. الإشكالية الأكبر في هذا الخط الأحمر الثالث، أنه على عكس الخطَّين الأحمرين الآخرين (الوحدة الوطنية ومياه النيل)، ملتبس وغامض ولا يوجد اتفاق على مضمونه، ولكنه يطرح بصفة عامة باعتباره النقيض لما يُسمى بالدولة الدينية، التي يفترض كثيرون أنها جوهر ما يريده الإخوان لمصر وللمنطقة العربية ككل. وفي حين يتحدث الإخوان الآن عن قناعتهم بالدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، تتُوه المفاهيم والمصطلحات ويغيب الوضوح، ليس فقط عن العامة من الناس، بل أيضا عن النُّخبة المثقفة وتلك التي تنشط في مجال الفكر والسياسة والعمل العام. إلتباس المفاهيم.. بين الجهل والعمد هذا الالتباس عبَّر عنه أحد كبار مسؤولي الحزب الوطني الحاكم، وكان وزيرا سابقا قبل فترة قصيرة بأن "الناس البسيطة لا تعرف ماذا تعني الدولة المدنية، وأن ما يطرحه البعض بأنها النقيض الموضوعي للدولة الدِّينية، يجعل الغالبية من المصريين تميل إلى مفهوم الدولة الدينية، أي التي يحكمها شرع الله، حسب فهمهم، ومن ثم، تكسب الجماعة المحظورة أرضا جديدة وتأييدا إضافيا، دون عناء، وذلك بسبب غباء الطرح الذي يقدمه مؤيِّدو الدولة المدنية". وربما - من قسوة ما تتعرّض له الجماعة المحظورة - عن حق أو عن باطل، وصف أحد الكتَّاب المؤيدين للطرح الرسمي بشكل عام، بأن ما يحدث في مصر هو كارثة جديدة، تجاوزت حدود الحوار العقلاني. هجوم غير مسبوق عُنف الحوار أو بالأحرى الهجوم الذي يتعرّض له الإخوان، القائم على افتراض ضمني مُسبق، وهو أنهم ذوى نوايا سيِّئة وأنهم يريدون تحطيم الدولة في مصر وإقامة حكم ديني، شبيه بما هو قائم في إيران مثلا، يقضي على الحريات ويلغي الحقوق المكتسبة ويعامل الأقباط باعتبارهم من أصحاب المِلل، وليسوا بمواطنين كاملي الأهلية والحقوق، وينظر للمرأة نظرة دُونية، ويعتبر المرجِع الوحيد لهم هو تصوراتهم عن الدّين، والتي ليست بالضرورة مقبولة من العموم، وأنهم الأساس لفِكر الجماعات الإسلامية الجهادية العنيفة، وهم الذين أسّسوا لفِكر ولثقافة الاغتيالات السياسية المدفوعة باعتبارات ومفاهيم وتبريرات دينية. وعلينا هنا أن نلاحظ أن هذه الاتِّهامات قديمة جدا، ولكنها زادت من حدَّتِها وكثافتها بطريفة لافتة للنظر، بعد ما يعرف بأحداث جامعة الأزهر قبل شهر، حين اصطدم بعض الطلاب المحسوبين على الجماعة مع إدارة الجامعة بسبب قرارات فصلهم، نظرا لتكوينهم اتحادا طلابيا بطريقة غير رسمية، فقاموا بنوع من الاحتجاج الرمزي أمام إدارة الجامعة لعدّة أيام، انتهى بقيام البعض منهم بعمل عرض عسكري ظهر فيه الطلاب معصُوبو العينين ومرتدين لِباسا رياضيا أسود، وفوق الجبين كُتبت عبارة "صامدون". وقد جاء العرض أشبه بما يقوم به ملثمو الحركات الجهادية والإسلامية في فلسطين، مما أشاع الذُّعر في نفوس الكثيرين، حتى لدى هؤلاء الذين كانوا يدافعون عن حق الجماعة المحظورة في الحصول على إجازة قانونية كحزب أو كجماعة، لكي تمارس دورها في حدود القانون وإطار الدستور، فإذا بكثيرين منهم يتراجع عن هذا الطرح، ويطالب الجماعة بأن تُعيد النظر في آليات عملها وأن تُثبِت حسن نيتها. مثل هذا التراجع وحالة الذعر، أتاحت بالفعل فرصة ذهبية للهجوم المكثف على الجماعة وعلى دورها وعلى ما يُفترض أنه نيتها وخُططها للإجهاز على الدولة المدنية في مصر، كما أتاح أيضا القيام بحملة أمنية على أعضاء الجماعة في كثير من المحافظات المصرية وسط صمت من يُسمّون بمنظمات حقوق الإنسان. أي مفهوم للدولة المدنية أخطاء الإخوان المحظورة، لا تعني بالضرورة أنها إضافة للمناهضين لها، خاصة إذا لم يكن هناك توافق بينهم على المفهوم البديل، الذي يرونه الخط الأحمر الثالث. فالدولة المدنية كمفهوم، ليست واضحة بما يكفي، ويمكن للمرء أن يلاحظ وجود عدّة تيارات بين هؤلاء المدافعين عنها بكل قوة، أول الأصناف من يرى أن الدولة المدنية المرغوبة، هي الدولة التي تُخاصم الدِّين بالضرورة، لأنه في عُرفهم مصدرا للتخلّف والتّراجع والتّمييز، وأن ما يطالبون به، ليس فقط تهميش الدِّين، بل مكافحته بكل ما في الكلمة من معنى يقترب إلى حد الاستئصال. هؤلاء يعتبرون عِلمانية أوروبا في نماذجها المتطرفة، هي الأساس المُبتَغى، ويتمنَّون أن لو قامت الدولة في مصر بتجاهل كل ما له علاقة بالدِّين. هذا الصِّنف المتطرف قليل العدد، ولكنه لا يستحى من المناداة بقناعاته، وهؤلاء يرون أن المؤسسات الدِّينية الرسمية، كالأزهر وخلافه لا يقلّون خُطورة عن الجماعة المحظورة، وأنه يجب التعامل معهم بكل صلف. دولة للحريات الشخصية التيار الثاني، ينظر إلى الدولة المدنية باعتبارها دولة الحريات والمواطنة المتساوية بشكل عام، وأن الدِّين فيها يجب ألاّ يُشكّل عاملا للتّمييز وأن أكثر ما ينتظره من الدِّين، أن يكون مُجرد علاقة شخصية بين الإنسان وربِّه وله أن يعبُده بالطريقة التي تحلو له، ولا يجب أن يكون هناك أي إطار مؤسسي باسم الدِّين، وإن وُجِد للضرورة، فلا يجب أن يكون له أي دور في العملية السياسية أو تشكيل ثقافة الناس أو ممارسة دور توجيهي في التنشِئة الثقافية والفكرية، هذا الصنف في حقيقته يَعتبر الدولة المدنية نموذجا للحرية الدينية الشخصية المنزوعة المؤسسية. دولة حريات تنظم العلاقة مع الدِّين يرى التيار الثالث أ، الدولة المدنية، وفي ظروف مصر تحديدا، لا يجوز لها أن تُخاصم الدِّين أو تحاصِر مؤسّساته أو تتطرّف في الهجوم عليه. والفرض الذي يقوم عليه فكر هؤلاء، يفرق بين ما تطرحه الجماعة المحظورة من أفكار سياسية مغموسة بالدِّين أو أفكار دينية مغموسة بالسياسة، هي في عُرفهم مرفوضة وخطيرة، وتؤسّس لدولة دينية بشكل ما، وبين الدِّين الإسلامي أو المسيحي، والذي لا يمكن المَساس به ولا بالمؤسسات التي تسهر عليه. واستطرادا، فإن هذا التيار يَعتبر الدولة المدنية مرهونة بالقوانين الوضعية والدستور، الذي لا يتعارض مع الأسُس المعلومة للشريعة، وكل ما هناك، أن السياسة لا تمارَس باسم الدِّين المُقدَّس، وإنما تُمارس باسم الاجتهادات البشرية القابلة للخطأ والصّواب، ومن ثم، فإن القائمين على السياسة، هم سياسيون وليسوا رجال دِين. ومُجمل هذا الطرح يندرج تحت فكرة تنظيم العلاقة بين ما هو ديني وما هو سياسي، مع وضع ضوابط بالاّ تُمارس السياسة باسم الدِّين، وألاّ تُلغي السياسة دور الدِّين أو تُهمله. حقيقة الأمر، أن ما يطرحه هذا الطرف أو ذاك، هو جزء من صراع ليس على حاضر مصر، بل على هويَّتها وعلى مُستقبلها، صراع تستخدم فيه أحيانا المفاهيم المُلتبسة والأكاذيب الفكرية والشعارات الدِّينية، أكثر مما تستخدم فيه العقلانية والرشادة الفكرية، وهنا يكمُن حجم الإثارة والخطر أيضا فيما يجري الآن في بر مصر.