إن خير ما تهفو إليه نفوس المصلحين وتتطلع اليه آمال المؤمنين الصادقين , هو استعراض سيرة سلفنا الصالح وخاصة الأيمة العظام منهم , لتتمكن الأجيال المتلاحقة من بعدهم من الإطلاع على ما حققه اولئك العلماء الأفذاذ من جهد شاق وعمل خالد في سبيل استجلاء فضائل الدين الإسلامي الحنيف , وحفظ ما جاء به الرسول الإمام الأعظم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم باذلين النفس والنفيس في بيان ما غمض من نصوصه , ودق معانيه بأمانة وصدق وان من اولئك الصناديد المصلحين والأيمة القدوة والهداة المهتدين , الإمام الحجة حجة الإسلام التقي النقي مالك بن أنس الاصبحي , الذي ما أحوجنا هذه الأيام لدراسة سيرته وتوضيح منهجه في نشر الشريعة المطهرة وحفظ نصوصها , وإعمال الفكر في فهم معانيها ومراميها وتدوين ذلك بحزم وعلم غزير . إن الدافع للغوص في هذا البحر الذي لا ساحل له من العلم , حاجتنا الملحة لتعريف أجيالنا وخاصة المغاربية منها بحقيقة الإمام الذي ينسبون اليه إمام آبائهم واجدادهم منذ قرون , ولاشك أن كل أيمة المسلمين إقتبسوا من سيرة وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آراءهم واجتهاداتهم النيرة ليبصرونا بالطريق القويم الذي كان عليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وصار عليه أصحابه من بعده , والله سبحانه وتعالى يقول "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكرإلاأولوا الأباب " آية 7 آل عمران . إنه من الصعوبة بمكان ان يستطيع إنسان أن يلم بسيرة إمام اتسعت نواحي تفوقه , وتعددت سبل نشاطه , وكثرت مناقبه ومزاياه في هذه الكلمات القليلة المتواضعة . نشأ الإمام مالك رضي الله عنه في المدينةالمنورة منزل الوحي , ومثوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وكانت آنذاك تعج بالصفوة المختارة من التابعين وتابعي التابعين , أبناء المهاجرين والأنصار الذين استقوا من معين النبوة حتى ارتووا ونهلوا من علم من ادركوه من صحابة رسول الله مما اهلهم ليكونوا قدوة صالحة لعلماء زمانهم ومقصدا لطلاب العلم من جميع أقطار الرقعة الإسلامية الواسعة , فكانت حلقات العلم في مسجد رسول الله تكاد تتشابك من اتساع دائرتها . نعم في هذا الجو المشبع بالجد والإجتهاد والتفتح والإشراق نشأ الإمام مالك في أسوة كريمة , وتحدر من آباء صالحين توارثوا علم الأ ثر أبا عن جد , وناهيك بأمه الذكية الحاذقة المؤمنة التي رعت مسيرة رحلته في الحياة بحزم وعزم , وأمرته بعد أن ألبسته ثياب العلم ووضعت على رأسه العمامة , ولم تكتف بذلك , بل اختارت له العالم الذي يأخذ عنه حيث قالت : إذهب الى ربيعة بن عبد الرحمن الملقب بربيعة الرأي , وتعلم من أدبه قبل علمه . ومما يروى في حق الإمام مالك ,أنه ذات مرة القى والده سؤالا له ولأخيه الأكبر النظر بن أنس , فأصاب أخوه وأخطأ مالك في الجواب , فقال له والده متهكما أألهتك الحمام عن طلب العلم , فكان لهذا التقريع من والده أكبر الأثر في مضاعفة جهوده حتى تفوق على أقرانه , وطار صيته حتى أصبحت أسرته تعرف به بعد ان كان لايعرف الا بها. وما أحسب أن البيئة العلمية التي توفرت له في المنزل وفي طيبة الطيبة كافية وحدها في تكوين شخصية الإمام مالك تلك الشخصية الفذة النادرة , ولكن هناك مواهب عقلية خلقية وخلقية , تفضل الله بها عليه هيأت له هذا النجاح الباهر الذي تفوق به على أصحابه . فمن تلك المواهب على سبيل الإختصار : اولا : الحافظة التي تعي كل ما تسمع , فقد كان في الجلسة الواحدة يسمع أربعين حديثا فيحفظها , ولقد امتحنه شيخه ابن شهاب الزهري ذات يوم في أربعين حديثا كان قد حفظه إياها فسحب الأ لواح من يده وقال له : أسمعني الأحاديث , فأسمعه إياها كاملة , وقال كلمته الشهيرة " قم فأنت من أوعية العلم " . وهذه الذاكرة العملاقة تذكرنا بما قاله شيخ الشافعي رضي الله عنه حين اشتكاه من سوء الحفظ فقل " إن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاص " ويستشف من هذه القصة أن الامام الشافعي قال ذلك لأنه كان يحفظ الصفحة من قراءة واحدة وزيادة على ذلك تلتقط ذاكرته الصفحة المقابلة لمجرد أن يمر نظره عليها , فعندما أحس بضعف الحفظ من نظرة عابرة ذهب مسرعا الى وكيع شيخه يستغيث به , وهذه الحادثة تدلل على ورع وتقوى الامام الشافعي لأنه أراد أن يتهم نفسه لمجرد أنه لم يحفظ من التفاتة واحدة . وايضا مما يستفاد من هذه القصة أن المعصية وحفظ العلم لا يجتمعان . ثانيا : الصبر والجلد والمثابرة على طلب العلم , فقد غالب الفقر حتى باع اخشاب بيته من شدة العوز , وقاوم الحر والبرد حين كان يطيل الانتظار عند أبواب شيوخه . ثالثا : الاخلاص , فقد طلب العلم لذات الله سبحانهوتعالى , فلم يكن يريد بالعلم جاها , ولا مالا , ولا ليستزيد به مكانة بين الناس , ولا للجدل والمماراة ,بل لقد كان أبغض شيء إليه الجدل , لذلك طهرت نفسه من أدران الطمع فصفى فكره ولمع ذهنه , ومما ينسب إليه قوله رضي الله عنه " ما زهد أحد في الدنيا الا أنطقه الله بالحكمة " . رابعا : قوة الفراسة وهي لا تتنامى الا من وفرة المدارك , ورجاحة العقل , وحدة الذكاء ,ولقد اشتهر بالفراسة حتى ان الامام الشافعي رضي الله عنه لما سئل من أين لك هذه الفراسة قال : أخذتها عن مالك , يعني تدربت عليها عنده , وليس هناك من شك في فائدة الفراسة فيما رشح الامام مالك نفسه من رواية أحاديث رسول الله , فإن الفراسة الصادقة تساعده على تمييز الثقات الذين يحسن ان يروي عنهم من غيرهم , وقد أوردت عنه كتب السير في هذا المجال أخبارا متواترة . خامسا : الهيبة التي أودعها الله في النفوس لهذا العالم الجليل دون أن يستخدم للحصول عليها سيفا مسلولا , ولا سلطانا موهوبا , ولكنها روحانية ونية صادقة ساندها وجاهة في المظهر , وطول في القامة , ونظافة , ونفاسة في الملبس وبسطة في العلم والجسم أوجدت له في نفوس تلاميذه وقاصديه مكانة زينها ما تحلى به من الوقار في المجالس والتعفف عما في أيدي الآخرين مع اقتصار عن الضحك المزري والحديث الطويل الممل , ولم تقتصر هيبته على تلاميذه وعامة الناس بل لقد تعدت الى الامراء والولاة . إن هذه العجالة لا تسمح لي باسقصاء مناقب هذا الرجل العظيم لكثرتها وتعدد نواحيها , ولكني اختصر ما يمكن اختصاره في النقاط الآتية . 1 كان الامام مالك من اكثر طلاب العلم أساتذة ومشايخا حتى قيل انه أخذ العلم عن مائة عالم . 2 إجلاله لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم , واعتزاه بنفسه , واحتفاظه بمكانته وعدم تخاذله أمام الحاكم والسلاطين خوفا أو طمعا بل أعلن تمسكه بضرورة اجلال العلم وتوقير حامليه من جميع المسمين الحاكم والمحكوم . 3 اهتمامه بالفتياوتصديه لها بفهم وعلم فاق فيه علماء عصره حتى تناقل الناس المثل المشهور الى يومنا هذا " لا يفتى ومالك في المدينة " ومناسبة هذا المثل يقال أن امرأة ماتت على عهد الامام مالك , دخلت عليها سيدة لتغسلها , وكانت بمفردها لا رقيب لها مع هذه المتوفية الا الله , وما أن رأت جثمانها مسجى , رمتها بين نفسها بالفاحشة , وما ان بدأت في تغسيلها حتى لصقت يدها بجسم الميتة , حاولت فصل يدها عن لحم هذه المسكينة فعجزت , عند ذلك استغاثت بالحاضرين طالبة عونهم , فتدفق العلماء من المدينة وضواحيها كل يفتي بما يراه فهذا يقول نقطع يد الحية والآخر يقول نقطع جزء من لحم الميتة , كل هذه الأراء باءت بالفشل , عند ذلك فكروا بدعوة الامام مالك ليخرجهم من هذه الحيرة . جاء مالك وسأل المغسلة ماذا قلت في هذه المرأة واستحلفها بالله فقالت : إني رميتها بالفاحشة , عند ذلك أمر مالك أن تجلد حد القذف , ما ان إنتهوا من الجلد حتى فصلت يد الحية من الميتة , ومن هذه الحادثة ضرب المثل السالف الذكر ؛ لا يفتى ومالك في المدينة ؛ 4 تحرزه من الا قدام على الفتوى الابعد ترو واطالة نظر وكان أجرأ علماء عصره على كلمة لا أدري حتى اشتهر عنه ذلك . 5 وعظه للخلفاء وكلما ارتفعت رتبته في المقام والعلم زاد في وعظه متخذا عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما قدوة له , وكان يقصد الخلفاء ليعظهم وله في ذلك رأي أجمله في قوله " ولولا أني آتيتهم لما رأيتم للنبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في هذه المدينة سنة يعمل بها " . 6 ابتعاده عن الجدل حول ما ظهر في عصره من العقائد المنحرفة , مثل الجبرية والمرجئة , والقدرية , والمعتزلة , وتمسكه بمذهب السلف الصالح , وأشهر دليل على ذلك موقفه من رجل سأله عن معنى الآية في سورة الرحمن " الرحمن على العرش استوى " فغضب غضبا شديدا وقال كلمته المشهورة " الايمان بالاستواء واجب والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة وما أراك الا رجل سوء أخرجوه من حلقتنا " . 7 تنبهه في فقهه الى استنباط الاحكام الشرعية من الكتاب المنزل اولا , ثم السنة النبوية ثانيا ثم اقوال الصحابة ثم الأخذ بعمل أهل المدينة ثم التابعين وهذا ما يتميز به مذهبه . 8 أكرمه الله بانتشار مذهبه في أكبر رقعة من العالم الاسلامي , منها بلاد المغرب العربي وجزء من مصر والسودان وافريقيا وآسيا وبعض دول الخليج العربي , أسأل الله أن يجزيه عن الاسلام والمسلمين خير الجزاء وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين , وللحديث بقية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .