أعود من جديد للحديث عن الإمام الكبير مالك بن أنس, أحاول في هذه المساهمة التطرق إلى مكانته العلمية أنذاك بين معاصريه, والآثار والشهادات الواردة في فضله, لعلي أوصل ولو جزء بسيط من تراث هذا الرجل العظيم إلى القارئ الكريم . عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يوشك أن يضرب الناس أكباد الابل يطلبون العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة " أخرجه أحمد والنسائي وحسنه الترمذي وصححه الحاكم في المستدرك, وعلق القاضي عياض على هذا الحديث بقوله " وهذا الطريق أشهر طرقه ورجال هذا الطريق رجال مشاهير ثقات, خرج عن جميعهم البخاري ومسلم وأهل الصحيح " 1 وممن توقف عند هذا الحديث بالدراسة, شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله فقال معلقا عليه " فقد روى غير واحد كابن جريج وابن عيينة وغيرهما أنهم قالوا : المقصود في الحديث مالك بن أنس " ثم زاد ابن تيمية رأيا من عنده بقوله " فإنه لا ريب أنه لم يكن في عصر مالك احد ضرب اليه الناس اكباد الابل أكثر من مالك " وواصل رحمه الله حديثه يوضح فضل إمام دار الهجرة إلى أن قال : " ونحن نعلم أن الناس ضربوا أكباد الابل في طلب العلم فلم يجدوا عالما أعلم من مالك في وقته "2 . وقال الزرقاني شارح موطأ مالك رحمه الله " ما أفتى مالك حتى شهد له سبعون إماما أنه أهل لذلك وكتب بيده مائة الف حديث, وجلس وهو ابن سبع عشرة سنة, وصارت حلقته أكبر من حلقات مشائخه في حياته, وكان الناس يزدحمون على بابه لأخذ الحديث والفقه كازدحامهم على باب السلطان "3 هذا الحديث النبوي الشريف الذي روي في فضل الإمام مالك يزيدنا إصرارا على أنه رضي الله عنه كان على المنهج السليم, الذي ترك الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه عليه من بعده, على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. أما الآن, أنتقل بالحديث عن إمامنا من خلال سرد أقوال وشهادات اهل عصره فيه, فهذا شيخه ابن هرمز يقول " إنه أعلم الناس " وهذا بن عيينة يقول في علمه " مالك إمام, ومالك عالم أهل الحجاز, ومالك حجة في زمانه " . وقال الامام الشافعي رضي الله عنه موضحا فضل مالك عليه " مالك أستاذي, وعنه أخذت العلم, وما أحد أمن علي من مالك, وجعلت مالكا حجة بيني وبين الله, واذا ذكر العلماء فمالك النجم " . وحين سئل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه , على مجموعة من العلماء الفطاحل كالأوزاعي والثوري والليث وحماد والحكم ومالك, قال " مالك إمام في الحديث والفقه "4 . وهذه قصة يرويها القاضي عياض عن الإمام الشافعي قال " قال لي محمد بن الحسن أيهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم؟ يعني أبا حنيفة ومالكا رضي الله عنهما قال قلت : على الإنصاف؟ قال : نعم ... قال : قلت : أنشدك الله من أعلم بالقرآن صاحبنا أم صاحبكم؟ قال : اللهم صاحبكم, قال قلت : أناشدك الله صاحبنا أعلم بسنة رسول الله صلى عليه وسلم أم صاحبكم؟ قال اللهم صاحبكم, قال قلت : أنشدك الله صاحبنا أعلم بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم؟ قال اللهم صاحبكم . قال ما بقي بيننا الا القياس, ونحن نقول بالقياس ولكن من كان بالأصول أعلم كان قياسه أصح "5 . ومن أراد المزيد من الإطلاع على الأخبار التي تبين تفوق الإمام مالك على معاصريه, فعليه الرجوع إلى آلاف الكتب المؤلفة في فضائله فهي لا تحصى . ورغم هذه الشهادات الكبيرة, التي تظهر عظم شأن الإمام مالك العلمية, فإنه لورعه إذا سئل عن مسألة لا يكاد يجيب عنها, وكثيرا ما يقول لا أدري, وفي بعض الأحيان, يظل حزينا ويبيت ليله ساهرا مخافة أن يفتي بما لا يرضي الله, فالفتوى توقيع عن الله . روى عبد الرحمن العمري عن مالك قوله " ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم فقلت له : يا أبا عبد الله والله ما كلامك عند الناس الا نقش في حجر ما تقول شيئا الا تلقوه منك . قال فمن أحق أن يكون كذا إلا من كان هكذا؟ "6 . وقال بعض أهل العلم : لكأنما مالك والله إذا سئل عن مسألة واقف بين الجنة والنار, وكان رضي الله عنه يقول " من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار, وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب "7 . وتنسب إليه بعض الأقوال التي تلخص تقواه وورعه وخوفه الشديد من القول بلا علم ودراية ورواية منها " ليس العلم بكثرة الرواية وانما العلم نور يضعه الله في القلوب " . " العلم لا يأنس الا بقلب تقي خاشع " . " الحكمة التفكير في أمر الله والا تباع له " . " لا خير في شيء من الدنيا وان كثر بفساد دين الرجل او مروءته " . " إذا ظهر الباطل على الحق كان الفساد في الأرض, وقليل الباطل وكثيره هلكة, وان لزوم الحق نجاة " . " كثرة الكلام تمج العالم وتذله وتنقصه " . " وكان يقال نعم الرجل فلان لولا أنه يتكلم كلام شهر في يوم "8 . نعم إخوتي الكرام, هكذا استطاع مالك بن أنس أن يفوز بهذه المكانة العالية, التي أهلته حقيقة بأن يكون إمام عصره, وعصر اللاحقين من بعده, فجزاه الله خيراعن الإسلام والمسلمين خيرا . وللحديث بقية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . ______________________________________________________ 1 المدارك المجلد الأول ص 68 69 2 فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية المجلد 20 3 شرح موطأ مالك للزرقاني المجلد الأول 4 المدارك المجلد الأول 5 نفس المرجع 6 نفس المرجع 7 الدبياج ص 23 8 المدارك المجلد الثاني .