تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرّسالة الثّالثة : مبادرة إصلاح وصلح ومصالحة ضمن مرجعيّة جامعة

لا تتعجّل عليّ حضرة القارئ الكريم وتستعجل الحكم بل لعلّك لتستغرب من إقحامي الإمام مالك رحمه الله تعالى في التّجاذب السّياسي الجاري في تونس بين المجتمع والدّولة، ولربما ترغب عن مثل هذه المبادرة لأنّه قد يتسارع إلى ذهنك أنّها لم تتخلّص من الجمود الفكري وتقليد الموروث زد على ذلك الدّاء الأعظم الذي نخر بالعمل السّياسيّ وصرع أحابه هلكى وهو توثين زعاماتهم.
إنّها دعوة تجديد عميقة لأنّها تستهدف تحكيم العتيق الصّافي من تدخّلات التّعصّب، وتشويش الرّجال، وهي عمليّة تنشّط الكسالى الجامدين والسّطحيين المفتونين الذين أبوا أن ينفروا للتّفقّه في الكتاب والسّنّة، وأخلدوا إلى راحة التّقليد المذموم، والإنبهار بالرّجال، إنّها ببساطة عمليّة تخلّص من الموروث الجبري الغامض، ولأن أدعو قومي إلى التعلّق بأصول مالك وأحمد والشّافعي وأبي حنيفة وابن حزم والأوزاعي وابن المبارك وابن تيميّة وابن القيم والعزّ بن عبد السّلام والشّاطبي وابن عاشور وابن أبي زيد القيرواني خير لي وأفضل من أن أدعوهم ومعاذ الله إلى هؤلاء الشّموليّين الذين صاروا في زمن الرّويبضة رؤوساء وهم لا أصول لهم إلاّ ذواتهم وأعراضهم حيث قادوا أحزابهم إلى البوار، وجماعاتهم إلى الانتحار وشعوبهم إلى الدّمار.
وقد تعجبُ من ترشيحي للإمام مالك قائدا للإصلاح في زمن العولمة التي فرضت التّخفّف من كلّ موروث دينيّ وثقافيّ، والتّعلّق "بنموذج " إمبراطوريّة "رعاة البقر"، وقد يشتدّ العجب من النّخبة التّونسيّة بمن فيهم "الإسلاميّين" "الدّيمقراطيّين"، الذين درجوا على تهميش العلماء العاملين، ومنعهم من الخوض في المبادرات وحصر دورهم في العمل الدّعويّ في زاويا المساجد والمنابر والعكوف على محاور الحيض والنّفاس والطّهارة وأنواع المياه وغير ذلك من التّجنّي والظّلم.
إنّ أئمّتنا لم يأخذوا حظّهم من الاهتمام، ولم ينزّلوا مواقعهم ولم ينالوا الاحترام الواجب في حقّهم كما نالوه في واقعهم الذي عاشوا فيه وقد كانوا النّجوم الهادية والقيادات الجامعة والحصون التي تأتمن بها شعوبهم كما كانوا الدّرع الحامي من طغيان السّلطة وظلمها.
لقد تحالفت قوى متعدّدة في تونس واجتمعت على وأد العلم الشّرعيّ وحبس رجال العلم والفقه في كواليس خانقة ضيّقة وتغييبهم عن الفعل والتّأثير في الحياة إلاّ أن يكونوا أداة لخدمة مشاريعهم وتسويق خطط التّزوير والتّجفيف، أو رجالا يتزيّنون بألبسة متميّزة خاصّة تزخرف مجالسهم للتّمويه على شعوبنا المسلمة أنّنا نقيم شأنا عظيما للإسلام، وأحسب أنّ هذا من الأساليب القديمة البالية التي عفا عنها الزّمن.
إنّ العاقل لا يهتمّ كثيرا بمن لا يقيم للعلماء والمصلحين المجتهدين العاملين الذين خلّد الزّمان ذكرهم وأعلى التّاريخ مجدهم، إذ لا بدّ أن يتسلّموا مواقعهم المناسبة وأن يعاد إحياء مناهجهم في الإصلاح، فلماذا لا تهتمّ حركة الإصلاح بما فعله بيبرس وزنكي وصلاح الدّين الأيّوبي رحمهم الله تعالى، فما أشبه اللّيلة بالبارحة، بل قل إنّها السّنن ولن تجد لسنّة الله تبديلا ولن تجد لسنّة الله تحويلا.
إنّه إذا لم نستضئ بأولئك الذين نجحوا وأفلحوا وأَسعدوا، فإنّ ليالي التّيه والزّيغ والضّلال التي نعيشها ستطول، والله المستعان!!!
ليس هذا خطبة حماسيّة أو شطحة صوفيّة أو تخاريف تبليغيّة أو حملة إنتخابيّة، ولكنّها الحقيقة الشّرعيّة، فما قاد الأمم الرّبّانيّة إلاّ الأنبياء، وما قاد حروب مواجهة الاحتلال إلاّ العلماء، وما آستردّ القدس إلاّ تحالف سلطة وعلماء، وما سيقود الأمّة من جديد بالوعود الموثوقة إلاّ أهل العلم والإيمان،ألم تر أنّ المنصورين سيقودهم المهديّ وعيسى النّبيّ عليهما السّلام، هذا وعد غير مكذوب من الصّادق المصدوق، فلينتبه الغافلون المفتونون السّكارى بأوهام الغفلة والمتعة.
إنّ العلماء هم "النّماذج التي تجسّدت فيها رسالة الأمّة وقِيَمها، فهم كتابها النّاطق بحضارتها، وصرحها المشعّ بعظمتها، وشمسها المنيرة بهمّتها السّامقة، وعلوّ مكانتها، إنّهم يختصرون بشخصيّتاتهم هذا كلّه، ويعبّرون بمواقفهم، وبطولاتهم، عن أهداف الأمّة، وسرّ بعثها بالحقّ.
ولهذا يقترن ذكرهم بالأمجاد، فنذكرها بذكرهم، ونستحضر العزّة بحضور مثالهم، ونستعيد تاريخنا بإنجازاتهم المليئة بالمفاخر، بمجرّد ذكر أسمائهم، ولرموز الأمّة وقادتها فينا أعلى منزلة، وأعظم مكانة، غير مدّعين لهم العصمة، ولا غالين فيهم، ولا محرّمين نقدهم، بل لأنهّم حقا نجوم الهدى، ومصابيح الدّجى، والمنبع الذي يروي ظمأنا للعزيمة عند الشّدائد، والعين الفيّاضة التي تمدّنا بالهمّة العالية فتثبّت الأفئدة، وتقوّي السّواعد".
إنّ الذي يعطي الحقّ لكلّ من هبّ ودبّ أن يعالج أمر الإصلاح ويريد أن يستثني فطاحل علماء الأمّة مثل الإمام مالك لا يستحقّ الاحترام، بل ربّما لا يواجه هذا الموقف إلاّ بالاحتقار لأسباب عديدة أهمّها:
أنّ هؤلاء يرون أنفسهم أكبر من مرجعيّة عظيمة مثل الإمام مالك.
أنّ فيه إهانة واحتقارا لعلماء الشّريعة الذين هم خلفاء الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهم القادة الشّرعيّون، لأنّهم أعلم العباد بالشّرع وأحلم النّاس وأرحمهم بالخلق وأعرفهم بمصالحهم، وهم أولياء الله، وملجأ النّاس بعد الله، ومكمن القوّة الشّعبيّة، ومحرّك الحماسة الأمميّة، وأعلم النّاس بما يصلح شؤون الخلق، قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى :" الفقهاء الذين هم زعماء الفقه وقادة الخلق أعني الذين كثر أتباعهم في المذاهب خمسة: الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة وسفيان الثوري رحمهم الله تعالى، وكل ّواحد منهم كان عابدا وزاهدا وعالما بعلوم الآخرة وفقيها في مصالح الخلق في الدنيا"1 ...
إنّه لا يلتفت إلى الذين ينكرون علينا الاستناد إلى مرجعيّة العلماء في حين أنّهم يعطون لأنفسهم الحقّ في توظيفهم لمواجهة خصومهم أو للتّدليس على شعوبهم المسلمة، وقد جعلوا علماءهم زينة لمجالسهم، إذا احتاجوا إليهم جاؤوا بهم لتمرير باطلهم، وتسويق سحرهم. أفيبيحون لأنفسهم أن يستندوا إلى علماء السّوء وتجّار الدّين، ولا يسمحون لنا ونحن نريد تجميع التّونسيّين وتوحيدهم أن نستند إلى من أجمعت الأمّة على علوّ نجمه وسبق كعبه وصفاء نفسه ونظافة يده، وخلود مذهبه، لقوّة حجّته.
أفيبيحون لأنفسهم إتّخاذ "العقلانيّين" والمتكلّمين والعسكر و المنطقيّين بل حتّى السّحرة والمشعوذين أو الغزاة والصّهاينة مرجعيّة ويمنعوننا أن نتواصل مع ذاكرتنا الجمعيّة وأن نكون أوفياء لمن سبقونا بالإيمان، كأن نتّخذ كوكبا شامخا مثل الإمام مالك مرجعيّة في ضبط أصول الإصلاح ومسالكه. ألا يكفي شرعيّة الإمام مالك رحمه الله تعالى أنّه إمام الدّيار التّونسيّة والمغاربيّة والإفريقيّة منذ قرون طويلة.
ألا يكفي شرعيّة لمالك رحمه الله تعالى وقطبيّته قول الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه "يوشك أن يضرب النّاس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة".
إنّه إذا أردنا أن تجتمع كلمة التّونسيّين وأن يتوحّدوا وأن يتجنّبوا التّفرّق ويمنعوا الفتن فما عليهم إلاّ أن تتوحّد صفوفهم من أجل البناء و الإصلاح والتّنمية، فلا بدّ أن نجتمع على أصول ثابتة وطويلة المدى "استراتيجيّة" لحلّ الاشتباكات السّاخنة والمتأزّمة التي تثار بين "الإسلاميّين" خاصّة، والتي يرتّب لها في البلاد.
ليس هناك في ظلّ تشابك المعاني في فهم الإسلام في البلد بين النّخبة والإسلاميّين من جهة وبين الإسلاميّين من جهة أخرى، إلاّ القبول بما أجمع عليه التّونسيّون منذ قرون: إنّها أصول مالك في العقيدة والفقه والمنهج والإصلاح.
لقد تعلّق كثير من النّاس بفروع مالك في الفقه وأعرضوا عن أصوله في العقيدة والمنهج والإصلاح التي آتّفق عليها السّلف بمن فيهم أبو الحسن الأشعريّ رحمه الله تعالى في آخر حياته، ممّا يجعل العاقل يستغرب من قوم يجمعون على فروع مالك في الفقه ويخالفونه في الأصول أي في العقيدة حيث سادت عقيدة الأشعريّ القديمة التي تبرّأ منها وانتقدها وتراجع عنها في آخر حياته.
إنّي لست حريصا على جلب الأصوات وإنّي أعلم أنّي أقتحم عقبة كئودا بمثل هذه "الغرابة" في الرّأي و "الغربة" في الطّرح و التّلقائية في التّعبير، والوضوح في المرجعيّة، والشّفافيّة في طرح "الممنوع المؤجّل" من القضايا، التي ستفرض نفسها رضينا أم كرهنا. إنّ هذه الطّباع غريبة في منتظم العمل السّياسي التّونسيّ المسكون بالحذر والغموض والازدواجيّة والابتزاز، بل ربما تصدم من يريد أن يحافظ على الموروث السّائد من العقائد ولو كانت مخالفة لنجوم المدرسة المالكيّة من مثل الإمام مالك والإمام أبي الحسن الأشعري والإمام عبد الله أبو محمد بن أبي زيد القيرواني الملقب بمالك الصّغير، الذي جمع عقيدة "السّلفيّة" المعتمدة لدى المالكيّة في مقدّمة الرّسالة المشهورة. وهي منشورة في موقعنا متنا وشرحا.
إنّ من أهمّ نواقض العمل السّياسيّ في تونس أنّه غير ربّانيّ أي لم يحتكم إلى العلم الشّرعيّ ممّا أفقده البصيرة السّياسيّة، كما جاء عن الإمام القرطبي رحمه الله تعالى القائل:"الرّبّاني: الذي يجمع إلى العلم البصر بالسّياسة "2.
ومن ثمّ لا تستغرب من المسلك النفعيّ والإنقلابيّ المتنكّر للقيم والمبادئ والمثل الأخلاقيّة، ومن هنا تعلم ما هي أسباب فشل السّياسيّين، وعجزهم عن احتضان شعوبهم فضلا عن حلّ المشاكل العالقة والمتزايدة.
فمن أجل تطهير الوضع السّياسيّ يحتاج وضعنا إلى المصالحة مع تلك القواعد والأصول التي وضعها الإمام – رحمه اللّه – وجعلها نصوصا مرجعيّة سنّيّة معتدلة مرضيّة تحدّ من الجفاء من جهة ومن الغلوّ من جهة أخرى.
و من نافلة القول ونحن نريد الإصلاح أنّه لا يمكن أن يتحقّق ذلك المطلب إلاّ بالمصالحة مع الإسلام خيار التّونسيّين. من أجل ذلك رأيت أنّه من المفيد أن نشخّص مواقف العائلات السّياسيّة التّونسيّة العلمانيّة من الإسلام دين الحكم والشّعب، معرّجا من حين إلى آخر فيما ظهر لي من أخطاء "التّجربة" الإسلاميّة السّابقة التي انطلقت في أوّل عهدها سلفيّة "مواجهة" فتصادمت مع المجتمع ثمّ استسلمت له في آخر المطاف من أجل تحقيق أهداف سياسيّة، حتّى أنّ الملاحظين آتّهموا تلك التّجربة بالتّلاعب بالمرجعيّة الشّرعيّة وبناء مناهجها المتناقضة والمختلفة على الغلوّ في شعار المصالح وتوسيع خرق المقاصد لتستجيب لكلّ طارئ وتتطاوع مع كلّ ضاغط ممّا ميّعها، حتّى أنّها عارضت ببرجماتيّتها السّياسيّة بعض النّصوص القطعيّة الواضحة أو تخطّتها أو أخفتها أو حرّفت تأويلها.
ولقائل أن يقول إنّنا أمّة إتّباع لنبيّ خاتم معصوم فهو وحده ثمّ إجماع أصحابه المثال الأعلى الذي نقيس عليه مسيرة الأمّة كلّها.
قلت: نعم إنّ هذا والله لحقّ، ولكنّ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ نفسه أمر الأمّة بالإقتاد بأهل الإجتهاد فجاء عنه: "إقتدوا بالّذَين من بعدي أبي بكر وعمر"، وأمر بآتّباع الجماعة وهي ما كان عليه أصحابه رضي اللّه تعالى عنهم، وقال:" العلماء ورثة الأنبياء"، وقال:" يوشك أن يضرب النّاس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة"
قيمة مالك المرجعيّة:
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: " يوشك أن يضرب النّاس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة" 3
ذهب أكثر أهل العلم إلى أنّ هذا الحديث ينصرف إلى إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، فقد روي عن ابن عيينة، أنه قال: هو مالك بن أنس. وكذا قال عبد الرّزّاق. وقال ابْنُ مَعِيْنٍ: مَالِكٌ مِنْ حُجَجِ اللهِ عَلَى خَلْقِه.4
وقد ترجمه ابن خلكّان في الوفيّات فأطنب وأتى بفوائد جمة 5
قال عبد الله بن أحمد:" قلت لأبي من أثبت أصحاب الزّهري؟ قال:" مالك أثبت في كلّ شيء" . وقال عبد الرّزّاق في حديث " يوشك النّاس أن يضربوا أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة" فكنّا نرى أنّه مالك. وكان عبد الرّحمن بن مهدي لا يقدّم على مالك أحدا. وقال الشّافعي:" إذا ذكر العلماء، قال فمالك النّجم. قال بن مهدي:" مالك أفقه من الحكم وحمّاد". وقال الشّافعي:" لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز". وقال ابن وهب:" لولا مالك واللّيث لضللنا". وقال شعبة:" قدمت المدينة بعد موت نافع بسنة فإذا لمالك حلقة قال أبو مصعب سمعت مالكا يقول ما أفتيت حتىّ شهد لي سبعون أنّي أهل لذلك". وقال الشّافعي:" ما في الأرض كتاب في العلم أكثر صوابا من موطّأ مالك" 6
لا تعصّبا لمالك ولكن تعصّبا للحقّ الذي جاء منه والذي يعمل على وحدة التّونسيّين وتجنيبهم المنازعات الفقهية والفتن العقائديّة خاصّة:
إنّنا لا نتعصّب لشخص الإمام مالك رحمه الله تعالى، ولكن نتعصّب لأصوله وفروعه التي قبلتها الأمّة بالاستحسان والقبول، تلك الأصول والفروع التي عملت على اجتماع المسلمين وتوحّدهم.
إنّ أهل العلم والعدل في حلّ من أن يحملوا النّاس على قول عالم مهما كان كعبه وطارت شهرته ولا يمتحنون النّاس به، ولكنّهم يتعصّبون للحقّ الذي يتقبّلونه من أيّ جهة كانت. ومن مُلهمات مالك التي ستتأسّس عليها هذه المبادرة أنّ الاجتهاد لا يمكن فرضه على أحد، وبالتّالي لا يجوز بحال حمل الأمّة على قول رجل أو رأي واحد منها مهما كان. قال عَبْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ الحَكَمِ: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُوْلُ: شَاوَرَنِي هَارُوْنُ الرَّشِيْدُ فِي ثَلاَثَةٍ: فِي أَنْ يُعَلِّقَ (المُوَطَّأَ) فِي الكَعْبَةِ،....فَقُلْتُ: أَمَّا تَعلِيقُ (المُوَطَّأِ)، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي الفُرُوعِ، وَتَفَرَّقُوا، وَكُلٌّ عِنْد نَفْسِه مُصِيْبٌ...............
إنّ من الأصول المقرّرة و من الثّوابت المعتمدة لدى أهل السّنّة والجماعة أنّهم لا يتعصّبون للرّجال مهما كان فضلهم، أو للآباء مهما كانت درجتهم، ذلك أنّ الله تعالى لم يأمرنا أن نتعبّده بالرّجال أبدا ولم يأمرنا أن نجعل أقوالهم سبيلا إليه حتّى توافق أقوالهم أقوال النّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ – ، وأنّهم أي أهل السّنّة والجماعة لا يقبلون قول أيّ كائن مهما كان بغير حجّة و لا يتّخذون أقوال رجل بعينه مهما كان بمنزلة نصوص الشّارع و لا يقلّدونه دون غيره ولا يلتفتون إلى قول سواه، و لا يعتبرون أقواله دينا أبدا إلاّ إذا وافقت نصوصه نصوص الشّارع الحكيم. قال ابن مسعود رضي الله عنه يقول:" لا يقلّدنّ أحدكم دينه رجلا، إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإن كنتم لا بدّ مقتدين فبالميّت، فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة"7.
إنّ حصر التّقليد في واحد العلماء دون غيره وضبط الالتزام بأقوال رجل معيّن في الدّين ليس من عمل أهل السّنّة والجماعة، فمن التزم بعالم دون غيره فقد التزم منهج من تشيّع في تفضيل بعض الصّحابة دون الباقين، غير أنّ هذا تشيّع في تفضيل بعض المذاهب والطّوائف والعلماء. قال ابن تيميّة رحمه الله تعالى :" ومن تعصّب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصّب لواحد بعينه من الصّحابة دون الباقين، كالرّافضيّ الذي يتعصّب لعليّ دون الخلفاء الثّلاثة وجمهور الصّحابة، وكالخارجيّ الذي يقدح في عثمان وعليّ رضي الله عنهما، فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسّنّة والإجماع أنّهم مذمومون،.... فمن تعصّب لواحد من الأئمّة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصّب لمالك أو الشّافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم". وقال الإمام الشّاطبي رحمه الله: "إنّ تحكيم الرّجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشّرعي المطلوب شرعا ضلال.." 8. وقال رحمه الله:" فتأمّلوا يا أولي الألباب! كيف حال الاعتقاد في الفتوى على الرّجال من غير تحرّ للدّليل الشّرعيّ، بل لمجرّد العرض العاجل"9. وقال رحمه الله:" ليس كلّ ما قال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه، لقول الله عزّ وجلّ: " الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه " 10. 11.
ولهذا نرى أئمّة الهدى يكرهون أن يقلّدهم عموم النّاس وخافوا من ذلك بل دعوهم أن يأخذوا ممّا أخذوا، فهذا الإمام مالك رحمه الله تعالى قد نهى عن تقليده. قال ابن القيّم – رحمه الله تعالى – :" وقد نهى الأئمّة الأربعة عن تقليدهم، وذمّوا من أخذ أقوالهم بغير حجّة.12 بل نهوا أصحابهم ومن تبعهم عن تقليدهم. قال ابن حزم – رحمه الله -:"إنّ الفقهاء الّذين قلّدوا مبطلون للتّقليد، وأنّهم نهوا أصحابهم عن تقليدهم" 13. وقال أيضا:" فهذا مالك ينهى عن تقليده، وكذلك أبو حنيفة وكذلك الشّافعي".14 .
ليس عندنا في ديننا حصر التّقليد المباح في رجل بعينه، بل للمقلّد أن يقلّد الأرجح في أقوال أهل العلم. قال ابن تيميّة رحمه الله تعالى:" وليس على أحد من النّاس أن يقلّد رجلاً بعينه في كلّ ما يأمر به، وينهى عنه، ويستحبّه إلاّ رسول الله، وما زال المسلمون يستفتون علماء المسلمين فيقلّدون تارة هذا، وتارة هذا، فإذا كان المقلّد يقلّد في مسألة يراها أصلح في دينه، أو القول بها أرجح، أو نحو ذلك، جاز هذا باتّفاق جماهير علماء المسلمين، لم يحرّم ذلك لا أبو حنيفة ولا مالك ولا الشّافعي ولا أحمد".15 ، وقال:" وليس في الكتاب والسّنّة فرق في الأئمّة المجتهدين بين شخص وشخص، فمالك واللّيث بن سعد، والأوزاعي، والثّوري، هؤلاء أئمّة في زمانهم، وتقليد كلّ منهم كتقليد الآخر، لا يقول مسلم إنّه يجوز تقليد هذا دون هذا".16. وقال:" وأمّا وجوب اتّباع القائل في كلّ ما يقوله من غير ذكر دليل يدلّ على صحّة ما يقول فليس بصحيح؛ بل هذه المرتبة هي (مرتبة الرّسول) التي لا تصلح إلاّ له " فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " 17 و 18.
إنّه إذا كان المسلم مقلّدا لإمام من الأئمّة وهو يحسن فهم الأدلّة، ثمّ رأى أنّ إماما آخر كان مذهبه أقوى في المسألة، فلا بأس بآتّباعه ولا ضير عليه إذ لا يجوز التّعصّب لشخص الإمام أو مذهبه، ولكنّ المسلم يجب عليه أن يدور مع الحقّ حيثما دار من أيّ إمام كان، قال ابن تيميّة رحمه الله تعالى:" وإذا كان الرّجل متّبعًا لأبي حنيفة أو مالك أو الشّافعي أو أحمد، ورأى في بعض المسائل أنّ مذهب غيره أقوى فاتّبعه كان قد أحسن في ذلك، ولم يقدح ذلك في دينه، ولا عدالته بلا نزاع؛ بل هذا أولى بالحقّ، وأحبّ إلى الله ورسوله ممّن يتعصّب لواحد معيّن، غير النّبيّ، كمن يتعصّب لمالك أو الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة، ويرى أنّ قول هذا المعيّن هو الصّواب الذي ينبغي اتّباعه، دون قول الإمام الذي خالفه، فمن فعل هذا كان جاهلاً ضالا" ثمّ قال رحمه الله تعالى:".. فإنّه متى اعتقد أنه يجب على النّاس اتّباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمّة دون الإمام الآخر فإنّه يجب أن يستتاب، .... بل غاية ما يقال: أنه يسوغ أو ينبغي أو يجب على العامي أن يقلد واحدًا لا بعينه، من غير تعيين زيد ولا عمرو، وأما أن يقول قائل: إنّه يجب على العامّة تقليد فلان أو فلان، فهذا لا يقوله مسلم، ومن كان مواليًا للأئمّة محبًّا لهم يقلّد كلّ واحد منهم فيما يظهر له أنّه موافق للسّنّة فهو محسن في ذلك، بل هذا أحسن حالا من غيره، ولا يقال لمثل هذا مذبذب على وجه الذّمّ"19.. وهذا أبو يوسف ومحمّد أتبع النّاس لأبي حنيفة وأعلمهم بقوله، وهما قد خالفاه في مسائل لا تكاد تحصى، لمّا تبيّن لهما من السّنّة والحجّة ما وجب عليهما اتّباعه، وهما مع ذلك معظّمان لإمامهما، لا يقال فيهما مذبذبان، بل أبو حنيفة وغيره من الأئمّة يقول القول ثمّ يتبيّن له الحجّة في خلافه فيقول بها، ولا يقال له مذبذب؛ فإنّ الإنسان لا يزال يطلب العلم والإيمان، فإذا تبيّن له من العلم ما كان خافيًا عليه اتّبعه، وليس هذا مذبذبًا؛ بل هذا مهتد زاده الله هدى، وقد قال تعالى: " وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا" 20، فالواجب على كلّ مؤمن موالاة المؤمنين، وعلماء المؤمنين، وأن يقصد الحقّ ويتبعه حيث وجده، ويعلم أنّ من اجتهد منهم فأصاب فله أجران، ومن اجتهد منهم فأخطأ فله أجر لاجتهاده، وخطؤه مغفور له".21 وقال رحمه الله تعالى:" وطريقة أهل الحديث والعلم لا تعصّب فيها لقول أحد من الفقهاء مثل أئمّة الحديث المشهورين".22 ، وقال الشّيخ وهبة الزّحيلي: " إنّ الحقّ واحد لا يتعدّد ودين الله واحد مستمدّ من معين واحد هو الكتاب والسّنّة وما أجمع عليه السّلف الصّالح فلا يعرف الحقّ من آراء الرّجال أبدا مهما كانوا ... وإنّ الإخلاص للشّريعة والحفاظ على أحكامها وخلودها وبقائها عقيدة كلّ مسلم. وإنّه لا إلزام في الشّريعة بأحد اجتهادات أو أقوال الفقهاء إذ لا واجب إلاّ ما أوجبه الله ورسوله ولم يوجب الله ولا رسوله على احد من الناس أن يعمل في دين الله عز وجل بغير كتاب الله وسنة رسوله وما يرجع إليهما " 23.
وحتّى لا أفهم خطأ فإنّه يجب أن يفهم كذلك أنّ التّقليد ليس كلّه مذموماً؛ بل هو جائز و مطلوب أحياناً لقوله تعالى: " فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ". 24 ، ذلك أنّ التّقليد يجوز في حقّ العامّي العاجز عن الاجتهاد مطلقاً، وفي حقّ العالم فيما يعجز عن الاجتهاد فيه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والذي عليه جماهير الأمّة أنّ الاجتهاد جائز في الجملة والتّقليد جائز في الجملة، لا يوجبون الاجتهاد على كلّ أحدٍ ويحرّمون التّقليد، ولا يوجبون التّقليد على كلّ أحدٍ ويحرمون الاجتهاد، وأنّ الاجتهاد جائز على القادر على الاجتهاد، والتّقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد، فأمّا القادر على الاجتهاد، فهل يجوز له التّقليد؟ هذا فيه خلاف، والصّحيح أنّه يجوز حيث عجز عن الاجتهاد، إمّا لتكافؤ الأدلّة، وإمّا لضيق الوقت عن الاجتهاد، وإمّا لعدم ظهور دليلٍ له؛ فإنّه حيث عجز سقط عنه وجوب ما عجز عنه، وانتقل إلى بدله، وهو التّقليد كما لو عجز عن الطّهارة بالماء". 25
ونحن على قول الإمام ابن تيميّة رحمه الله تعالى " فنحن مقلّدون الكتاب والسّنة، وصالح سلف الأمّة، وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمّة الأربعة؛ أبي حنيفة النّعمان بن ثابت ومالك بن أنس، ومحمّد بن إدريس وأحمد بن حنبل – رحمهم الله- "26.
إنّ من أهمّ العوائق التي تعمينا عن إصابة الحقّ وحبّه والعمل به، التّعصّب المقيت للرّجال أو المذهب أو الحزب، وهذا الدّاء السّرطاني ممّا يمنع البحث عن الدّين الصّحيح ويحصره في المحبوبين، ولا يعمل به إذا جاء من غيرهم، ولقد ذهب الإمام الشّاطبي مذهبا عجيبا عندما اعتبر المتعصّب للرّجال هو من عادات الجاهليّة حيث قال: "إنّ التّعصّب للرّجال عادة جاهليّة موروثة من الوثنيّة الأولى وهي عبادة الآباء". 27. ويصوّر رحمه الله تعالى موقف المتعصّبين للمذهب الفقهي الذين يطعنون في كلّ من خالف مذهبهم قائلا:" حتّى إذا جاءهم من بلغ درجة الاجتهاد، وتكلّم في المسائل ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنّكير، وفوّقوا عليه سهام النّقد، وعدّوه من الخارجين عن الجادّة، والمفارقين للجماعة، من غير استدلال منهم بدليل، بل بمجرّد الاعتياد العامّي "28. ويجعل هؤلاء :" من جنس المعنيّين في قوله تعالى:" اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه".29 ثمّ قال بعد ذلك:" فتأمّلوا يا أولي الألباب! كيف حال الاعتقاد في الفتوى على الرّجال من غير تحرّ للدّليل الشّرعيّ، بل لمجرّد العرض العاجل.. 30 .
إنّه لمن المؤلم حقّا أن ترى أتباعا للرّجال دون دليل أو حقّ يتعصّبون لهم و يوالون النّاس ويعادونهم فيهم فضيّعوا بذلك الحقّ والعدل وفقدوا كلّ شرعيّة ومصداقيّة . قال ابن القيّم – رحمه الله - يصف حاله بين المتعصّبين:" فانّ الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما وإنّما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظّ وافر، وكيف يكون من ورثة الرّسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ- من يجدّ ويكدح في ردّ ما جاء به إلى قول مقلّده ومتبوعه ويضيع ساعات عمره في التّعصّب والهوى ولا يشعر بتضييعه؟ تالله إنّها فتنة عمّت فأعمت ورمت القلوب فأصمّت ربا عليها الصّغير وهرم فيها الكبير وآتّخذ لأجلها القرآن مهجورا، وكان ذلك بقدر الله وقدره في الكتاب مسطورا، ولمّا عمّت البليّة، وعظمت بسببها الرّزيّة، بحيث لا يعرف أكثر النّاس سواها، ولا يعدّون العلم إلاّ إيّاها، فطالب الحقّ من مظانّه لديهم مفتون، ومؤثره على ما سواه عندهم مغبون، نصبوا لمن خالفهم في طريقهم الحبائل، وبغوا له الغوائل، ورموه عن قوس الجهل والبغي والعناد، وقالوا لإخوانهم إناّ نخاف أن يبدّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد31.
لقد أكثرت من هذه النّقول المتناصرة لبيان أمور ثلاثة وهي:
1 أنّ التّعصّب وهو التّقليد دون حجّة، أو قل التّقليد الأعمى الذي يمارسه المتعصّبة مذموم.
2 أنّ حصر التّقليد في رجل أو مذهب خطأ فاحش.
3 أنّ تقليد الإمام أيّا كان فهو مباح للمقلّد، بشرط أن يتقصّد الحجّة إن كان يدرك ذلك.
فنحن إذ خصّصنا مالكا كمرجعيّة لا تعصّبا لشخصه أبدا، ولا حصرا للحقّ لمذهبه مطلقا ولكن لما ثبت عنه من مسائل أًْلهِمَها واستخرجها من الثّقلين وآستحسنتها الأمّة قبولا وعملا، ولأنّ تلك الأصول تساعد على تقليص سبل الاختلاف المورد للمهالك. إذ لا يختلف المتابعون للشّأن العام في البلد أنّ الملفّ الإسلاميّ هو من أعقد الملفّات التي يجب أن يلامسه إصلاح عميق وجوهريّ، خاصّة بعد انتشار صحوة جديدة تحتاج إلى ترشيد وتبصرة حتّى لا تترشّح الأوضاع إلى مزيد من الضّرر الذي لا يتمنّاه كلّ مخلص وصادق.
إنّ المسلم في كلّ الأحوال لا يريد إلاّ الحقّ، ولا يتعصّب إلاّ له، يتّبع الحجّة، ويخدم المحجّة، يحافظ على سلامة الدّين من التّزييف وسلامة شعبه من فتن المغالبة وشرور الاختلاف المذموم وما ينتجه من المواجهات والإحن والأحقاد.
من أجل ذلك أقدّم بين يديك شعبي العزيز هذه المبادرة ساعيا بها ردّ الجميع إلى المشترك فيه من الدّين وتمثّل أداء الأمانة التي تحمّلتها السّلطة خاصّة.
الخلاصة:
لا زالت هذه الأمّة يقودها أئمّة العلم والمعرفة والوعي من الدّعوة إلى الصّبر على الأذى إلى الحكم الرّاشد، ولم يكن في تاريخها لأهل الجهل والجهالة أيّ منزلة، إذ في ذلك إزراء بميراث النبوّة، وحطّ من مكانة الوحي فيها، وتنقيص من حضارة الشّهادة وإهانة لأمّة الوسط.
ولقد علمت أمّتنا أنّ قيادة الرّأي هي أخطر منزلة، والخلل فيها يستتبعه دمار ينتقل في مراحل المسيرة كلّها، ولهذا قدّمت العلماء الأئمة تستنير بآرائهم، وجعل الناس تبعا لهم، امتثالا لقوله تعالى " فاسألوا أهل الذّكر"، وقول النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم "العلماء هم ورثة الأنبياء ".
ويا للعجب أيّ قيمة لرسالة أمّة، تسلّط الغوغاء على قيادة الرّأي، فتلقي إليهم خطامه، ويملكون زمامه، يقيّمون العلماء والمفكرين، يحطّون هذا، ويرفعون ذاك، ويخطّطون وينظّرون، حتى تمتلئ السّاحة من الفوضى الفكريّة، والعبث في العقول والمدارك، فالحكم ما لم يقم أمره على قيادة الرّأي على رأسه العلماءُ العارفون، يرجع إليهم الأتباع، ويقدّمون كلمتهم، لن يكون رشيدا.
إنّه لا سبيل لضمان وحدة تونسيّة دون وحدة عقائديّة وفكريّة، وإنّ هذه الوحدة لا يمكن أن تخضع ضمن الجدال السّياسي. لأنّها من القواطع والمسلّمات التي لا يجوز المساس بها فضلا عن الطّعن فيها.
خَمِيس بن علي الماجري
الرّابط
http://www.tunisalmoslima.com/modules.php?name=News&file=article&sid=159
1 إحياء علوم الدين1/ 31 .
2 تفسير القرطبي 4/79.
3 رواه التّرمذي، عن سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. ثمّ قال: هذا حديث حسن.
4 سير أعلام النّبلاء (8/95) .
5 انظر الوفيات لابن خلكان (10/ 188) .
6 ترجمة الأئمّة الأربعة...
7 السّنّة اللاّلكائي.
8 الاعتصام 2/355.
9 الاعتصام 2 /511.
10 الزّمر 18.
11 الاعتصام 2 /515.
12 إعلام الموقّّعين 2 / 200 .
13 الإحكام في أصول الأحكام 6 / 118.
14 المصدر السّابق 6 / 150 .
15 "الفتاوى" (23/381).
16 "الفتاوى" (23/398).
17 النساء:65.
18 "الفتاوى" (35/121).
19 "الفتاوى" بتصرّف (22/248-249).
20 طه:114.
21 "الفتاوى" (22/252-253).
22 "الفتاوى" (24/146).
23 أ. د وهبة الزّحيلي. الفقه الإسلاميّ وأدلّّته ج 9 ص 29 30 بتصرّف.
24 النّحل من الآية: 43، والأنبياء، من الآية: 7.
25 مجموع الفتاوى 20/205.
26 مجموع مؤلَّفات الشّيخ 3/55، والدّرر السّنية 1/97.
27 انظر الاعتصام 2/348.
28 الاعتصام 2 /347.
29 الأعراف 9.
30 انظر الاعتصام 2 /511.
31 الإعلام 1 / 6 -7.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.