في أحد ليالي مصر العامرة ، أهدت دار الأوبرا المصرية لقاءاً ودياً وعلمياً إلي الجمهور المصري، كان ضيفه العالم المصري الحاصل علي جائزة نوبل الدكتور أحمد زويل ، ليكشف بشكل مبسط للحاضرين عدداً من أسرار العلم ، ويخوض معهم أيضاً في بعض أمور الحياة والسياسة ، ويجيب علي بعض أسئلة العصر الصعبة مثل : لماذا يمر الوقت سريعا في السنوات الأخيرة ، ولماذا تحدث الشيخوخة ، ولماذا نحن شعوب فوضوية ، وكيف تنجح مصر في برنامجها النووي ، وهل يحق لنا أن نلوم "الإسرائيليين" علي محاولة هدم المسجد الأقصي ؟! استهل الكاتب الصحفي أسامة هيكل مدير اللقاء الأمسية بتأكيده علي أهمية العلم والعلماء في الإسلام ، ثم قدَّم ضيف الصالون بقوله : حينما سافر لأمريكا كان محدد الهدف ، واثق الخطي ، ثابت العزيمة ، ولأنه علي قدر أهل العزم تأتي العزائم فقد نال عددا من الجوائز علي رأسها جائزة نوبل إضافة إلي نحو 105 جائزة أخري . ومحاضرة اليوم هي بعنوان ( زمن الفوضي الخلاقة ) ، وهو مصطلح ارتبط في أذهاننا بوزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس ، ومنذ قالته والدنيا فعلا فوضي و( ملخبطة ) في بلادنا ، ويعتقد من يقرأ هذا العنوان أن الدكتور زويل سوف يتحول من العلم إلي السياسة ، ولكن فلنترك له المجال ليبين لنا في حديثه المدلولات العلمية لهذا المصطلح . ونترك الفرصة للقارئ الكريم ل ( يستمع ) للدكتور زويل كما كان يتحدث في الأمسية ، بلا تدخل منا بالقطع أو التعقيب وكأن القارئ يستمع له وسط الحضور .. يقول الدكتور زويل : أنا حريص علي حضور هذا الصالون الثقافي سنوياً للالتقاء بالمصريين، لكي نتناقش سوياً نحن في مصر والعالم العربي والعالم الإسلامي إلي أين سائرون . أما عن اختياري للعنوان الذي يبدو سياسياً فأحب أن أوضح أن الفوضي الخلاقة هي ظاهرة علمية موجودة منذ مئات السنين ،وهي موجودة في كل أحجام الظواهر والمكونات الكونية من حجم الذرة إلي أكبر الأحجام الكونية . وساستعرض معكم بعض الأشياء الشيقة ،لنتمتع بأمسية فكرية فيها نكتشف فيها أن هناك الكثير مما نجهله ،ومن قال أنه يفهم كل شيء فهو بالمصري ( بيبكش) ، لأنه ما زالت هناك أسئلة من مئات السنوات لم يستطع علماء كبار في العالم الإجابة عنها و منها ، أسئلة تتعلق بأمراض الشيخوخة وعلاقتها بظاهرة الفوضي الخلاقة التي أتحدث عنها اليوم . هذه الظاهرة لها علاقة بموضوع الزمن ، هذا الزمن الذي احتار فلاسفة وعلماء العالم ومنهم ابن رشد في تحديد مفهومه وفلسفته ودوره في الحياة ، وبالتحديد ما زالوا يتساءلون عن أربعة أمور : 1- ما هو الزمن ؟ 2- هل له بداية واتجاه ؟ 3- هل نستطيع أن نركب مع الزمن ، أم أنه كلام فارغ ؟ 4- كيف نُعَرِف الزمان والمكان ؟ ( ثم دخل شخص ومعه ساعة وكوب به قطعة ثلج ، وضع الساعة بجانب المنضدة وكوب الثلج فوقها )، وقال الدكتور زويل للحاضرين : راقبوا تحركات عقارب الساعة وحالة قطعة الثلج ، الطبيعي أنكم سترون أن عقارب الساعة تتقدم ، ولا تعود للوراء ، وكذلك الثلج يذوب ولا يعود للتجمد بأي حال ،هذه الظاهرة البديهية جعلت علماء يتساءلون : هل يمكن أن يعود الماء ليصبح ثلجاً مرة أخري ؟ فلو أن هذا الماء الذائب عاد بدون أي عوامل خارجية مرة أخري ثلجاً فمعني هذا أن الزمن ممكن أن يعود للوراء ، وهذا مستحيل لأن هناك قوانين تحكمنا ،ومنها أن الزمن لن يعود للوراء . ولكن في نفس الوقت هناك قانون من أعظم القوانين الكونية يقول أن كل الظواهر لديها قابلية لعدم النظام أي لل ( الفوضي ) و (الانحلالية) ، وهذا معناه أن قطعة الثلج كانت عبارة عن ذرات منظمة كل واحدة منها موضوعة في أماكن محددة مرسومة لها وفيها درجة عالية من النظامية أخرجت في النهاية هذه القطعة بهذا الشكل وهذه الصلابة ، ولكن وفقاً لهذا القانون فإن هذه النظام حتماً سيأتي عليه وقت ولأي سبب من الأسباب وينفك ويتحول لشكل آخر رأيناه في قطعة الثلج عبارة عن ماء سائل. وبتعبير بسيط فنحن رايحين إلي فوضي !! ووسط هذه العملية الكونية ،كيف لي أن أخرج من الفوضي هذه إلي النظام مرة أخري ، وأن أكافح هذا القانون السابق الإشارة إليه من قوانين الكون ، وبشكل مبدئي هل يمكن أصلاً أن أفعل هذا ؟ نعم ، وأحد الطرق لهذا نجده في مثالين علي المستوي العلمي وعلي المستوي الإنساني ، فعلي المستوي العملي مثلاً - وهو ممسك بلمبة مضيئة - هذا اللون الأبيض الخارج من اللمبة يدل علي أنه مكون في الأصل من مجموعة من الألوان المتداخلة ، كما أن إشعاعها في كل المكان وتفريق هذه الأشعة يعني أن جزيئاتها متفرقة وغير منظمة ؛ولذلك ليس لها تأثير قوي ، فمثلا لو وضعت يدك عليها وهي مضيئة فلن تتأثر بأي شيء . ولكن لو قمنا بعملية بسيطة بتركيز مجموعة من هذه الأشعة في حزمة واحدة وفي اتجاه واحد مثل الضوء الخارج من قلم الليزر هذا – وينير قلم ليزر في يده – لوجدنا أن لونه المميز سيظهر ( أخضر مثلا ) وأن هذه الحزمة من الضوء لها تأثير فهي في بعض الاستعمالات قد تصل في قوتها إذا ما تم تركيزها بشكل كبير إلي حد أن تخرق دبابة مثلا . وبهذا العملية ( تجميع وتنظيم أشعة الضوء ) فأنا نجحت في أن أعيد تنظيم عدد من ذرات الضوء الهمجية والعبثية في حزمة منظمة ومنسقة لأجد أنها أصبحت أكثر قوة وتأثيرا ، وهذا المثال العلمي يقودنا إلي المثال الإنساني ، بمعني أن الشعوب في هذه الحياة مثالها مثل هذه الأشعة ، لو انشغل كل واحد فيها بنفسه وبمصالحه الخاصة ، ولم يهتم في تحديد هدفه بالأهداف الكبري لبلده فسوف يكون هذا الشعب مهما كثر عدده فوضوياً ، وجهوده مبعثرة ، وهش غير مؤثر ، أما إذا تم توجيهه إلي أهداف واتجاهات بعينها ، ونظم جهوده في نظام العمل الجماعي المنسق ، فسوف تظهر جهوده في شكل انجازات عظيمة ، و يظهر له قوة وتأثير كبير في العالم . وهذا المثال يمكن أن نفرق به بين المعني السياسي و المعني العلمي لعنوان المحاضرة ( زمن الفوضي الخلاقة ) ، فلو كان هذا المصطلح له أصل علمي كما أشرتُ وأعطيتُ مثال ببعض القوانين الكونية التي تشرحه ، إلا أنه في المجال السياسي والحياة الإنسانية هو مصطلح لا أصل له ، ولذلك فهو غير بناء ، وغير مقبول ، ولذلك أري أن استخدام أمريكا له عبر تشجيع الاقتتال والفرقة الداخلية في الصومال والعراق وفلسطين ولبنان وغيرها ليرسموا به شرق أوسط جديد ، هو استخدام غير موفق ، ولن يثمرعما تريده ، لأن الفوضي إذا شاعت في المجتمعات فلن تكون بأي حال من الأحوال خلاَّقة . ما علاقة هذا بأمراض الشيخوخة ؟ ويجيب الدكتور زويل مواصلاً حديثه : الفوضي هي كلمة علمية من مئات السنين كما قلت ، وفي عقلنا يوجد 100 مليون ذرة متصلة ببعضها البعض لتدبير عمل المخ ، والذي يحصل أنه ، ووفقاً لقانون الفوضي والانحلال ، فإن هذه الاتصالات بمرور الزمن تقل ، وفي وقت ما قد تنتهي تماما ، وهذا ما يخلق أحد أخطر أمراض الشيخوخة وهو (الزهايمر) ، ويفقد الإنسان تدريجيا القدرة علي تذكر الأشياء التي حدثت له في الوقت القريب ، ليصل به الأمر في بعض الحالات لنسيان كل ما مر عليه من قديم أو جديد . وهذا المثال العملي أيضاً يمكن أن نطبقه علي حركة الشعوب ، فإذا ما فقدت أجزاء المجتمع اتصالاتها ببعضها والتنسيق فيما بينها ، فإن هذا مؤشر خطير علي فقدان هذا المجتمع لحاضره ومستقبله ، وفي مراحل متأخرة قد يفقد ماضيه وتاريخه أيضا . ولذلك أكرر علي ضرورة العمل الجماعي لكي نخرج من حالة الفوضي التي نعيشها في مجتمعاتنا إلي حالة النظام والاتصال لنستمر علي قيد الحياة ، أقوياء ومؤثرين . ردود علي أسئلة عصرية ثم أجاب العالم المصري علي عدد من أسئلة الحاضرين كان من أبرزها : كيف نختصر الهوة الزمنية في التقدم بيننا وبين الدول المتقدمة ؟ د. زويل : اختصار هذه الهوة يحتاج أن نركز علي عدد من الأهداف والمشروعات الكبري ، ونسلك الطريق الصح لانجازها ، ومصر قادرة علي هذا ، ولكن الأمر يحتاج إلي إرادة حقيقية وصادقة . لماذا هناك من يعترض علي قيامكم بتخصيص جائزة سنوية لأفضل موهبة فنية ، بجانب للجائزة العلمية التي تقدمها في الجامعة الأمريكية؟ د. زويل: أود أن أشير أولاً إلي أنه صحيح ليس كل من حصل دكتوراه أصبح مفكرا ، ولكن هناك علماء شغلهم الشاغل أن يكون الواحد منهم مفكرا ، سواء في السياسة أو الفن والحركة الإنسانية ، وأتعجب ممن اعترضوا علي أنني أخصص جائزة في الفن، أليس لي روح ، أليس عندي وقت أسعي فيه لمعرفة إلي أين يسيرالعالم ، أليس عندي وعي ؟! إن الإنسان الذي ليس عنده وعي ليس إنسانا . ما رأيك في إعلان مصر إحياء برنامجها النووي ؟ د. زويل: بالطبع إحياء مصر للبرنامج النووي حقٌ لها ، وإن كنت لا أعرف بالضبط ما ستفعله مصر في ذلك ، ولكن ما يجب أن نعرفه جميعا أن الطاقة النووية كأشعة الليزر ، تحتاج لمنظومة علمية متكاملة ليتم العمل فيها بنجاح والوصول إلي نتائج حقيقية ، ومن ذلك أن نمتلك أجهزة نعرف كيفية صناعتها ووقايتها وصيانتها إذا تلفت ، وأن يكون عندي أسرار خاصة تتعلق بتشغيلها ، علي الأقل حتي يحترمنا العالم عندما يري أننا لسنا فقط مستهلكي أجهزته التي يبيعها لنا ، ولكننا أيضا منتجين لها ، ولنا بصمة فيها ، ولنا مشروعات نخدم بها العالم ولا نصبح عالة عليه . لماذا نشعر بسرعة مرور الوقت في السنوات الأخيرة ؟ د. زويل: مسئولية الإحساس بسرعة مرور الوقت قد تعود إلي زحام المواصلات ، أو إلي جدولك اليومي ، فهناك من يحترم الوقت بالثانية ، وهناك من لا يحترمه بالسنة !! ماذا تقول في تجرؤ "إسرائيل" علي هدم أجزاء من الحرم القدسي في الأيام الأخيرة ؟ د. زويل: بالطبع هو عمل غير شرعي .. ولكن أيها السادة والسيدات ، هذا الزمن ليس زمن أن نتساءل لماذا يفعلون هذا ، لأن العالم لا يعترف إلا بقدراتك ، فلو أنك عالم بقدراتك وتعرف كيف تستفيد منها ، فسيحترمك العالم ولن يفعل "الإسرائيليون" أو غيرهم ما يفعلونه الآن ، فنحن كأمة عربية في وضع صعب ، و مع ذلك أقول أن حماية المسجد الأقصي ليست مسئولية المسلمين وحدهم ، بل هي أيضاً مسئولية المسيحيين والأمم المتحدة ، والعالم كله . ماذا نفعل نحن كشباب نواجه تحديات في كل مجال ؟ د.زويل: هذا السؤال يوجَّه لي كثيراً جداً ،وأجدني عاجزاً تماماً عن الرد ، ولكن ما استطيع قوله أن الدنيا بها تحديات كثيرة ، وإذا لم يكن لك القدرة علي تحديد مستقبلك سيكون هناك مشكلة كبري ، فالوضع صعب .