في لعبة شد الحبل مع الجماعات الدينية في مصر، قد يضيع الحق قصداً، ويتم تشويه الإسلام عمداً، لصالح الصراع على السلطة. والوصول إلى السلطة أصلاً حق مشروع، من حيث المبدأ، لكل التيارات والقوى السياسية في البلاد عن طريق تداول السلطة، وبالأسلوب الديمقراطي، واللجوء إلى صناديق الاقتراع، والاختيار الحُر من الشعب. حزب حاكم في السلطة على مدى أكثر من نصف قرن هو عمر الثورة المصرية، وأحزاب وجماعات معارضة دينية وليبرالية وماركسية وقومية تنازعه السلطة. الحزب الحاكم –يقول البعض- بيده كل شيء، الدولة والجيش والشرطة والإعلام، والمعارضة –يقول هذا البعض دائماً- ليس بيدها أي شيء، مطاردة من أجهزة الأمن، في السجون والمعتقلات أو سرية تحت الأرض، أو مهاجرة خارج البلاد أو ضعيفة مهمشة في الداخل. ظهر حجمها الحقيقي في الانتخابات التشريعية الأخيرة عندما لم تحصل في مجموعها على أكثر من 20 مقعداً بينما حصدت الحركات الدينية من خلال جماعة "الإخوان" المحظورة 88، ومجموع تمثيل الطرفين أكثر بقليل من 100 مقعد فقط، وهو أقل من ربع المقاعد في مجلس الشعب الذي تبلغ مقاعده 444 مقعداً. والخوف الآن على مصر –يقول المتشائمون- بعد العراق ولبنان وفلسطين والصومال والسودان والتهديد المستمر لسوريا. "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها". وفي أذهان هؤلاء المتشائمين، رغم اختلاف الظروف، مأساة الصدام بين الثورة و"الجماعات"، وما قد يقع اليوم من صدام بينهما بدت مؤشراته في حملة الاعتقالات الأخيرة بدعوى التدريب العسكري لطلاب الجماعات الدينية في جامعة الأزهر ضد ما تسميه الجماعات بالهجمة الاستعمارية الجديدة على الوطن العربي والعالم الإسلامي. وهو ما قامت به الثورة في بدايتها في المدن الجامعية، استئنافاً لحرب الفدائيين في القناة عام 1951 ضد قوات الاحتلال البريطاني على ضفاف القناة. فمتى تتوقف هذه الدائرة المفرغة بين الدولة وخصومها، بين السلطة والمعارضة و"الجماعات"؟ ذريعة المواجهة اليوم هي رفض الدولة الدينية التي تدعو إليها حركات الإسلام السياسي لأن الدولة الحديثة دولة مدنية، ورفض تكوين أحزاب دينية لا يسمج بها الدستور درءاً للفتنة الطائفية. والإسلام ليس دولة دينية ولا دولة أمنية بل دولة مدنية يحكمها القانون والدستور كما هو الحال في الدولة الحديثة. فلماذا التشويه المتعمد، وتصيد الأخطاء، وابتسار الحقائق، والعودة إلى شعارات الأربعينيات، والاعتماد على ما هو وافد من تاريخ الغرب في الصراع بين الكنيسة والدولة، أو بين السلطة الدينية والسلطة السياسية؟ لماذا تشويه الحقائق وإسقاط تاريخ الغرب على تاريخنا؟ ويجادل بعض الإسلاميين الآن بأن برامج "الحركة الإسلامية" تغيرت على مدى ربع قرن. وتجاوزت مرحلة النشأة الأولى التي رفعت فيها شعارات "الحاكمية"، و"تطبيق الشريعة" وتحولاتها الحديثة، وهتافات: "الإسلام هو الحل"، "الإسلام هو البديل". لا تعني "الحاكمية" حكم رجال الدين بل حكم الشريعة والقانون. ولا يعني تطبيق "الشريعة الإسلامية" تطبيق الحدود بل إعطاء الحقوق قبل أداء الواجبات. فحق المسلم في بيت المال التعليم والعلاج والعمل والسكن والاستقرار العائلي قبل تطبيق الحدود. فالجوع والبطالة مانعان من تطبيق حد السرقة. ولا يعني شعار "الإسلام هو الحل" أو "الإسلام هو البديل" إلا السأم والملل من الأيديولوجيات العلمانية للتحديث، الليبرالية والقومية والماركسية. فقد ضاع نصف فلسطين في 1948 في العصر الليبرالي، وضاع النصف الآخر في 1967 أثناء الحكم القومي. ويقول هؤلاء إن الحركات الدينية تغيرت منذ العشرينيات وحتى الآن على مدى أكثر من 80 عاماً. فلماذا دفعها إلى الوراء وهي تكاد تقترب من مبادئ الدولة المدنية الحديثة، وتقبل بالتعددية السياسية، وحرية الفرد، والمواطنة، والمساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون؟ لقد كبا الإصلاح من الأفغاني إلى محمد عبده بسبب فشل الثورة العرابية، واحتلال مصر في 1882. وكبا مرة ثانية من محمد عبده إلى رشيد رضا بسبب الثورة الكمالية في تركيا في 1923. وكبا مرة ثالثة بالصدام بين "الإخوان" والثورة في 1954. وكبا مرة رابعة في الصدام بين "الجماعات" والدولة في 1981. وقد تعلم بعض الحركات الدينية من التاريخ، وقد اتجه إلى العمل السياسي العلني. ومازالت المحافظة الدينية العامة الموروثة منذ ألف عام منذ قضاء الغزالي على العلوم العقلية وتكفير المعارضة، مازالت حالة في الوجدان العام بل وتقوى يوماً بعد يوم بسبب الصدام بينها وبين بعض النظم السياسية، وإقصائها من العمل السياسي على مدى أكثر من نصف قرن. ومنها خرجت معظم حركات التحرر الوطني في مصر وتونس وليبيا والجزائر والمغرب والسودان واليمن وسوريا ولبنان والعراق وفلسطين. والأخطر من ذلك صب الدولة الزيت على النار باستدعاء بعض أحزاب المعارضة ضد بعض آخر، ووقوع بعض أحزاب المعارضة في الفخ كما استعملت الجمهورية الثانية "التيار الإسلامي" لتصفية الناصريين، "أكلت يوم أكل الثور الأبيض". بل إن بعض الإسلاميين العلمانيين أيضاً وقعوا في الفخ. ودفعهم التجديد إلى الحد الأقصى دون المرور بالمراحل المتوسطة. الإسلام ليس ديناً بمعنى الكهنوت ولكنه دين المصالح العامة. والشريعة وضعية كما قال الشاطبي في "الموافقات". تقوم على الدفاع عن الحياة والعقل والقيمة والعرض أي الكرامة والمال أي الثروة الوطنية. والتوحيد ليس مجرد عقيدة دينية بل نظرية في الوحدة، وحدة الذات الإنسانية ضد النفاق وانفصال القول عن العمل، واللسان عن القلب، والفكر عن الضمير، وضد التفاوت الشديد بين الطبقات، وضد استعلاء دولة على دولة دفاعاً عن وحدة البشرية. والنص الديني إجابة على أسئلة طرحها الواقع كما هو معروف في أسباب النزول. الواقع يسأل، والوحي يجيب. والتشريع متطور بتطور الزمان وتغير المصالح كما هو معروف من دلالة النسخ بغية التدرج، ومواكبة التشريع لدرجة تطور الواقع كما هو الحال في تحريم الخمر. لقد نجحت الحضارة الإسلامية، أو لنقلْ الدولة الإسلامية، في الماضي في المدينة ودمشق وبغداد والقاهرة واسطنبول في إقامة حضارة تقوم على العلم والفن. ومازلنا نزهو بجامعات الأزهر والزيتونة والقرويين وبآثار قصر الحمراء ومدينة الزهراء وبرج أشبيلية بالأندلس، وبمدارس الطب الإسلامي في باليرمو وبادوا. وقد كانت النهضة الأوروبية في بدايات العصور الحديثة من آثار الترجمات العبرية واللاتينية للعلوم العربية والثقافة الإسلامية. وكما نجحت الدولة الإسلامية –بالمفهوم المستنير- قديماً نجحت حديثاً في ماليزيا وإندونيسيا بعد أن تحول فهم الإسلام المستنير إلى هوية وطنية وساهم في إنشاء الدولة.