لا شك أن مرور 18 عاما على الانطلاق الفعلي لمسيرة بناء المغرب العربي الكبير، تطرح اليوم الكثير من التساؤلات المشروعة حول الحصيلة الناتجة لفائدة شعوب المنطقة، منذ تاريخ 17 فيفري 1989. ففي ذلك الوقت، وفي مدينة طنجة المغربية، تمّ التوقيع على الأحرف الأولى لمعاهدة بعث اتحاد دول المغرب الكبير، الذي يهدف إلى إذابة الحواجز بجميع أصنافها و أشكالها بين سكان دول شمال إفريقيا، و اعتبار "بأن مغربا عربيا موحدا يشكل مرحلة أساسية في طريق الوحدة العربية"(البيان الختامي). و لكن الظاهر الآن، بأن النتائج كانت هزيلة و محبطة للآمال و مثبطة للعزائم للقطار المغاربي الذي يتعثر أكثر فأكثر.لمشروع أرادته أجيال سابقة حلما رافعا لهواجس سكان البلدان الخمس المكونة له، و قنطرة نحو مستقبل أفضل، و ضمانة للأجيال القادمة. عديدة هي العوامل و الأسباب التي تضغط على دوائر القرار في بلدان المغرب العربي، للاندماج فيما بينها. فالسوابق التاريخية في هذا المجال كانت تعبّر بوضوح عن وجود تفاعل من قبل العديد من الشخصيات و الزعامات و الحركات التي تشبعت بمبدأ الوحدة المغاربية، كمخلّص لشعوب المنطقة من براثن التخلف و التبعية ( لنتذكر على الأقل درجة اللّحمة مغاربيا بعد اغتيال المناضل النقابي التونسي فرحات حشّاد في 6 ديسمبر 1952 ) . فالعامل الجغرافي البحت، يُكسب بدرجة أولى، المُتبنّين للطرح المغاربي حُججا ثابتة لممكنات نشأة اتحاد جامع للدول الواقعة شمال القارة الإفريقية. إذ أن المساحة الشاسعة (حوالي 6 مليون كم2) تعرف تجانسا تضاريسيا و طوبوغرافيا يُسهّل عملية التنقل و السفر بسلاسة بين مدن و أرياف الدول المذكورة. فإنشاء شبكة من الطرقات و السكك الحديد يشكل مشترك لا يجابه حواجز كبيرة باعتبار انعدام وجود فواصل جغرافية تقف حاجزا بين البلدان المغاربية. و طبيعي أن يُحدث هذا التطابق الجغرافي تأثيرات على مستوى الثقافة و الحضارة و الذاكرة و الأنتربولوجيا للشعوب التي، نتيجة للتراكم السابق، أصبحت تشترك في العديد من الخصوصيات. فالتاريخ المعيش طوال القرون الفارطة، كان منسجما في الغالب و مشتركا في الكثير من أحقابه. فتتالي الحضارات، سواء كان مصدرها و جذورها من الفضاءات الجغرافية المحلية، أو قادمة و وافدة من الجوار، تتسم بشدة الروابط البينية ثقافيا. إذ أن الحركات الثقافية التي تعاقبت بمرور الزمن، كانت منسجمة بشكل خاص. و لم تعترف بحدود و حواجز معيّنة. بل انه كان من يُنظر إلى منطقة المغرب العربي دوما ككتلة فكرية متجانسة و متراصة. و كان التكامل أيضا الصفة الرئيسية المتداولة في المجال الديني حيث قلّت الصراعات المذهبية و الطائفية. و كان انتشار المذهب السني المالكي المعروف بالوسطية و الاعتدال بأريحية، دورا هاما في دينامية استيعاب المتغيرات الفكرية الحاصلة بتغير الأزمان. و انعدمت بالكاد التناحرات الدينية التي طالت بقاع أخرى من العالم خلال العصور الوسطى. إضافة إلى ذلك، لم تحمل عمليات الاحتكاك مع أوربا الأنوار، في جزء كبير منها، صداما مروعا مهدما. و لم تُفرز عودة قوية إلى الخلف و انغلاقا شديدا على الذات. فالمفكرين المغاربة استطاعوا، ولو بدرجات، الموازنة بين الأصالة في جانبه النير و المشرق، و الحداثة في مبادئها الشاملة و العامة و الإنسانية. فكانت مرحلة بناء الدولة الحديثة، و لو كانت السبل و الطرق المودية لها مختلفة، خطوة في نفس المستوى لمأسسة النمط السياسي و القطع مع النماذج القبائلية و العروشية. إن هيمنة التجانس الاثني ( قرابة 20.5 مليون بربري من جملة 80 مليون ساكن مغاربي) و الديني و الثقافي و الديمغرافي، يُعتبر من عناصر القوة التي من المفروض أن تكون حافزا و محرّكا نشطا من أجل صهر الاختلافات التي قد تبرز في بعض الأحيان. و تُضخم في الكثير منها في غير صالح الشعوب المغاربية. و إذا كان لا بد، في هذا الشأن، التعريج على فترة ما بعد موجة الاستقلال لهذه البلدان، التي شهدت خلالها طغيان نزعات "وطنية" لقيادات كارزماتية، عرقلت في عديد من الأحيان التوجه الوحدوي المتميّز زمن الاستعمار. و ذلك لحساب روى برامج أيديولوجية تبدو في ظاهرها متباينة فيما بينها ( بين شق ليبرالي متجه رأسا نحو الدول الرأسمالية الغربية – تونس و المغرب – و شق آخر متعاون بالأساس مع المعسكر الشرقي و مؤمن بضرورة فك الارتباط مع دول المركز المتقدم لكل من الجزائر و ليبيا ) . و لكنها في الجوهر، تُرسي قواعد التنافر بين البلدان المغاربية رضوخا لأجندة دولية، تتمعّش من الحروب والتفرقة. هذا و الغريب في هذا الصدد، أنه لم يكن للشعوب و هياكلها المدنية و نخبها الثقافية ، دورا بارزا في تسطير هذه الاختلافات. و ظلّت في غالب الأحيان تُواكب عن بُعد ما يحدث بين ظهريها من نسج تحالفات ( المشروع الوحدوي بين تونس و الجزائر سنة 1973؛ معاهدة الوحدة التونسية-الليبية سنة 1974 ) أو بروز النزاعات المسلّحة ( تعقّد الوضع في الصحراء المغربية؛ حرب الرمال بين الجزائر و المغرب سنة 1963؛ المناوشات الحدودية بين تونس ليبيا ). لتكون في الأخير، فترة أواخر التسعينات حاسمة للدول المغاربية، بعد اقتناع القادة على ما يبدو، بأنه لم يعد من الممكن في مواجهة المتغيرات الدولية و التحولات الاقتصادية، المحافظة على العزلة و البقاء في وضعيات منفردة. المحرّك الاقتصادي في بناء الاتحاد الأكيد بأن المنطلقات الأولى لاقتصاديات المنطقة تختلف بدرجة كبيرة. فكل من الدولة المغربية و الدولة التونسية الفتيّتين راهنتا، في الأول، على ضخ الأموال العمومية لوضع اللبنات الأساسية للاقتصاد المحلي لهما. أخذا بعين الاعتبار ضعف وزن البورجوازية الوطنية و عدم قدرتها على تحمل عبء تركيز صناعة وطنية متكاملة. قبل أن يقتنعا بانعدام جدوى هذا الأسلوب و يلتجئا إلى الاستثمار الأجنبي المباشر في القطاعات التصديرية و السياحية، كنهج قادر على استيعاب جحافل العمالة المحلية ، و التقليص من حدّة الاعتماد على التوريد، و الاندماج في السوق التجارية العالمية. أما فيما يخصّ في كل من الجزائر و ليبيا، فإن العائدات المالية الضخمة العائدة من مداخيل النفط و الغاز، وفّر لهما عناء الاقتراض و الانصياع المطلق لأهواء رؤوس الأموال الأجنبية. فعن طريق السيولة الكبيرة للريع النفطي ساهم في تنمية صناعة محلية متنوعة و ثقيلة، ترضخ للحاجيات الشعبية و نُحاول تحقيق الاكتفاء الذاتي. و ذلك رغم الضغوطات التي كانوا عرضة إليها من قبل الدوائر الغربية. و لكن تجربة البلدين سرعان ما انهارت لعدة أسباب أهمها شدّة ترابط المصالح و تعقّدها بين المراكز الاقتصادية والمالية العالمية. وصعوبة النمو و الرقي الذاتيين، المنفصل و المنعزل. هذا إضافة إلى عدم جدية البرامج الموضوعة و تقلص آفاقها و سقوطها في مستنقع البيروقراطية و الزبونية. فرغم حجم الإمكانيات الهائلة، بشريا و طاقيّا و ماليّا، فإن الدول الخمس بقيت عاجزة إلى اليوم عن بناء نهضة اقتصادية شاملة. و تحقيق قفزة نوعية في هذا الميدان تكفل للشعوب العيش بكرامة والقطع مع الارتهان و التبعية للغير. ذلك أن التعامل الأُحادي من قبل هذه البلدان من حيث تسطير مخططاتها الاقتصادية، أفقدتها القدرة على تحقيق أهدافها المرجوة على الرغم من تأسيس لجنة استشارية دائمة للمغرب العربي سنة 1964 لدراسة شروط إمكانيات التعاون الاقتصادي؛ فان جميع مقرراتها لم تجد سبيلا للتطبيق في الواقع. حيث لم تتجاوز مثلا نسبة التجارة بين دول الاتحاد 4% من إجمالي مبادلاتها مع بقية بلدان العالم. فتونس و المغرب عضويْن في المنظمة العالمية للتجارة. و هما من أوائل الدول التي وقّعت على اتفاقيّات للتبادل الحرّ مع الاتحاد الأوربي. و هو ما يفترض عليْهما استعدادا و تأهبا لمواجهة المنافسة المحتدمة مع اقتصاديات مُماثلة. كما أن هذين البلدين، أضاف إلى الجزائر، يرتبطون بشكل متطور بعلاقات مع دول شمال المتوسط في مختلف الميادين. و يتأثرون جماعيّا بما يحدث لمواطنيهم المهجّرين، سواء إيجابيا أو سلبيا. أما من جهة أخرى، فان فرص الاندماج الاقتصادي بين هاته الدول، كبيرة للغاية. فلو أخذنا كل دولة على حدة، لوجدنا أن الحاجة الماسّة و الملموسة لكل منها واضحة جدّاً. فمثلاً، تعرف ليبيا ضعفا ديمغرافياًّ وهو ما يجعلها تحتاج بصورة مستمرة ليد عاملة متدفّقة لتنمية اقتصادها. وهو ما يُمكن أن تُوفّره لها دول الجوار المغاربي. كما أن كل من تونس و المغرب يعيشان في الكثير من الوقت أزمات ماليّة نتيجة للارتفاع الدائم لأسعار النفط. و هما اللذيْن يقعان إلى جوار أكبر الدول المنتجة له. هذا دون أن ننسى ما يُمكن أن يوفره هاذيْن البلديْن في المقابل من منتجات مصنّعة و شبه-مصنّعة، و بُنى أساسية لمنتجعات سياحية تفتقرها بقية الدول. فمجالات الشراكة بين الشعوب المغاربية في مواجهة التطورات العاصفة التي تواجهها الإنسانية هي أقل صعوبة من مثيلاتها مع الدول الأخرى. وهي تحتاج لإرادة حقيقية و جادّة و لجهود حثيثة و صادقة من أجل البناء الفعلي لمغرب كبير، مُشترك، اجتماعي و ديمقراطي. تكون لشعوبه الكلمة الأولى و الأخيرة في ذلك.