من يقول نصف قرن من الاستقلال فقد يعني نصف قرن من الانجازات وأبسطها السيادة الوطنية الكاملة حتى يكون للاستقلال معنى وحرية الإنسان حتى يكون للمواطن معنى وحرية التعبير حتى يكون للوعي دور ولكن هل يكفي نصف قرن من الزمن كي نحقق أحلامنا ونجسد وجودنا كشعب يعطي أكثر مما يأخذ وينتج أكثر مما يستهلك ويعمل أكثر مما يتكلم ويسعى أكثر مما ينتظر ؟ وما أكثر الذين هم قاعدون في انتظار ما تمنه الدولة وما أكثر الذين هم مسئولون ساهرون على مصلحة القاعدين في المقاهي وفي بيوتهم وما أكثر الجالسين على مقاعد الدراسة وعلى كراسي المؤسسات والمسؤوليات وما أكثر الواقفين في الحافلات والقطارات وفي الشوارع وما يجمع بين القاعد والواقف والساهر هو انتظار الفرج من أمراض العطالة التي أصابت الضمير وشلت الإرادة والتفكير فلا مطلب في الحياة غير "هات" وهات أعطيني ما عندي شيء". بعد نصف قرن من التربية والتعليم صار عندنا ملايين المتعلمين أكثرهم نصف أميين أو نصف متعلمين زادهم "عشرة الحاكم" أو أقل قليلا بفضل الإسعاف. ذلك هو مستواهم وهل هم مسئولون عن ذلك ؟، ألم توفر الدولة الروضات والمدارس والمعاهد والجامعات وتسن التراتيب التربوية لتسهيل العملية التعليمية وحماية حقوق الطفل والمتعلم وإن تطلب الأمر اعتباره ناجحا بملاحظة متوسط ومسعوف بحكم نظرية خير الأمور الوسط فلا هو متعلم ولا هو أمي. أليست هذه رحمة بالنشء وتشجيع لهم على متابعة الدراسة بقليل من الجهد وكثير من تدبير الرأس لتنمية حيلة الضعيف ؟. نصف قرن من التوجيهات الرئاسية ولازال المسئول ينتظر مسئوله والمرؤوس ينتظر رئيسه والجميع ساهرون على تعطيل الاجتهاد الفردي وإقالة الناس من الاعتماد على الذات لإبقائهم في راحة تامة كما هم القصّر تحت رعاية المؤتمن الأوحد وصاحب القرار الوحيد الأمر مكن الناس من الانصراف إلى همومهم اليومية غير معنيين بالواجبات ولا بالحقوق طالما أن السلطة قد تكفلت بالتفكير عوضا عنهم والتعبير عن خياراتهم والسهر على مصيرهم في الكبيرة والصغيرة وهذه نعمة لم تنعم بها أكثر الشعوب تحررا واستقلالا. بعد نصف قرن من التنمية يصبح الفقر قدرا والبطالة قضاء مع أن النمو الاقتصادي فاق التقديرات حسب تصريحات أهل الحل والعقد ولكن اختفى في جيوب الذين يعرفون "من أين تؤكل الكتف" رغم أن الدولة لم تقصر في تنويع أجهزة الرقابة والملاحقة والأمن وسن قوانين المحاسبة والجباية ولكن ما عساها تفعل إزاء إنسان محطم الآمال، قابل بالاستغلال وبالحرام قبل الحلال لم يقتنع بعد بأنه يعيش في ظل دولة الاستقلال. ففي ظل دولة القانون والمؤسسات ازدادت القناعة بأن الحاجة أم الاختراع فقد أبدعنا في اختراع سبل العيش رغم قلة الموارد فقل من عف عن الرشوة والسمسرة و"القلبة" و"الفصعة" من الدراسة ومن العمل... وراجت فلسفة تدبير الرأس وساد مبدأ "الاختلاس ولا الإفلاس". خلال نصف قرن نجحنا في فرض الاستقرار الاجتماعي والرخاء الاقتصادي وتمكنا من رفع مكانة البلاد إلى المرتبة الرابعة عالميا في نسبة الطلاق مما يعني مدى نضج الحرية الفردية وحق النجاة بالذات من جحيم القفص الذهبي والعيش باستقلالية. ومن ثمار رعاية الأسرة طيلة نصف قرن ارتفاع نسبة العنوسة حتى صارت العزوبة تاج العاطلين والمحبطين والحديث عن حق الأمهات العازبات أضحى ركنا من حرية المرأة وحقوقها الطبيعية والاجتماعية ونسبة الولادات خارج القفص الذهبي تجاوزت الألف حالة كمعدل سنوي رغم أن وسائل منع الحمل وطبابة الإسقاط في متناول الجميع وتستوجب التنويه كمنجزات لمسيرة طويلة من تطوير مجلة الأحوال الشخصية وحماية الأمومة الفاضلة والأسرة السعيدة. يكفينا فخرا أن حققنا الاستقلال وأصبحنا أحرارا في استعادته من الباب الكبير كما نريد مكرما وشريكا كامل الحقوق: فها هي الشراكة آخذة في النمو والاستثمارات الأجنبية تستجدي رضانا في الانتصاب ببلادنا وها هي فرنسا مرغمة على ضخ المنح لدعم تعليم اللغة الفرنسية بمؤسساتنا التربوية وها هي مشاريع التطبيع تنشط سرا وعلنا لتستفيد من مكانتنا ومواقفنا في المحافل الدولية. أليس في كل ذلك دلائل على أننا ننعم باستقلالية عالية ونمتلك القدرة على فرض سيادتنا رغم محنة التبعية وأعباء المديونية وتحديات العولمة ؟. صحيح لم نحقق المجتمع المدني ولكننا نجحنا في إنشاء المجتمع الاستهلاكي الذي ينعم بالسيارات الشعبية ورباعية الدفع وأسواقنا تزخر ب(الفريب) الرفيع والعادي والمواطن حر في اختياره وتلبية ذوقه سيما أن البنوك مفتوحة على مصراعيها للاقتراض والارتهان وما أكثر رهانات السلطة على عبقرية المواطن وهو وليد نصف قرن من الرهانات السياسية الصائبة أو المصابة بالنجاح في كل شيء فلا فساد ولا استبداد بدليل ما يرتفع من أصوات فردية وجماعية بتجديد البيعة والمناشدة باستمرار العرش على حاله لكون الفساد والاستبداد حالة متلازمة ومتأصلة حتى تكاد تكون عبقريتنا الوحيدة الضامنة للأمن والاستقرار واستقلال البلاد. فهنيئا لنا بذكرى الاستقلال وما جلبه من أمن وحريات وديمقراطية وتعددية في ظل الوحدة الحديدية بين الدولة والحزب الحاكم وهي الضامن الوحيد لوحدة المسار والراعي للتعددية تحت خيمة النظام القائم طالما أن الشعب وقواه الوطنية لم تبلغ بعد النضج السياسي والأهلية الكاملة لممارسة التعددية وحرية التنظم والحال أننا لم نتأخر في ركوب قطار العولمة والانفتاح على حرية المعلومة مما اضطر الساهرين على سلامة عقولنا ونفوسنا من حمايتنا من بعض مواقع الانترنت حتى لا تفسد علينا راحة البال والاطمئنان لأصحاب القرار والشأن. نحتفل بنصف قرن من الاستقلال والكامل فينا نصف إنسان وربما نحتاج إلى نصف قرن آخر لنحرر النصف الباقي من هذا الإنسان.