: نحييكم أولا ونرحب بكم في هذا الحوار الذي نجريه معكم بصفتكم واحدا من أبرز العلماء والأكاديميين العرب الذين جمعوا بين التألق في منازل البحث العلمي والانخراط في الشأن العام ,ونذكر القارئ بأنكم مررتم بمحنة السجن في تونس نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي نتيجة مواقفكم الواضحة من التسلط والاستبداد ونتيجة رفضكم لخيار سلخ تونس عن عمقها الحضاري ,العربي والاسلامي وهو ماكلفكم ضريبة عائلية غالية كان من أبرز معالمها حادث مروري كيدي أدى الى اعاقة مزمنة لابنكم عباس المقيم حاليا بألمانيا قصد تلقي العلاج . في تعليق على الكلمة الترحيبية :الكثير من إخواني وأصدقائي يحملون السلطة مسؤولية الحادث الذي تعرض له ابني عباس الواقع أنني لا يمكنني الجزم بذلك ولكنني احمل المسؤولية الكاملة للسلطة في تباطأ التداوي حيث حالت الوضعية الأمنية و الاقتصادية للعائلة من متابعة علاج ابني على الوجه الصحيح ذلك أن البوليس المرافق لوقتها طول الوقت(24:24 )ارهب عددا من الأطباء والممرضين مما جعلهم يرفضون مباشرة عملهم مع ابني و نتج عن ذلك سقوط مستمر وإعاقات كنا في غنى عنها لو كانت حياتنا طبيعية ,البوليس كان يأخذ بطاقة الهوية لمن يتكلم معي ويحرر فيه بطاقة إرشادات وهو ما يعني متابعته امنيا , الضحية قد يكون طبيبا أو ممرضا أو زائرا عاديا,كما حدث عدة مرات أن سرق الملف الصحي لابني من المستشفى وأجبرنا أحيانا على إعادة التحاليل والتصوير بالأشعة من جديد وفيما يخص القضاء فإننا لم نحصل على حكم نهائي في التعويض إلا بعد 8 سنوات من الحادث بعد عدة أحكام صادرة عن محكمة الاستئناف والتعقيب الشيء الذي كلف أجرة المحاماة غالية جدا (حوالي 7000 دينار) :دكتور منصف بن سالم أرجو أن ننطلق في هذا الحوار من اخر تطورات وضعكم الصحي والانساني والعائلي ,وذلك من أجل احاطة الرأي العام العربي والدولي بما الت اليه أوضاعكم وأوضاع من قاسمكم محنة السجن والاعتقال في خضم المواجهة المفتوحة بين السلطة وقوى المجتمع المدني منذ بداية عقد التسعينات . : أعتبر من الخطأ الفادح بل من الجريمة أن ينظر إلى السلطة التونسية على أنها سلطة كل التونسيين وأنها تعامل الناس على حد سواء أمام القانون ,أنا أعتبرها وبكل صراحة أسوء من سلطة الاستعمار وإلا فلماذا تعاملنا نحن الذين سجنا وعذبنا وحرمنا من عيالنا لأكثر من عقدين من الزمن كمواطنين من صنف خاص: ليس لنا الحق في العمل والعيش الكريم : حرمان من حق التداوي والتأمين على المرض, حرمان من جواز السفر, حرمان من ممارسة أي نشاط اقتصادي دون عراقيل وهذه الإجراءات تسحب أيضا على أطفالنا إلا ما رحم ربك, وأسوأ من ذلك كله هو عزلنا عن المجتمع لأن الجو السائد والذي كرسته السلطة بإعلامها وبوليسيها هو أي تقارب مع الإسلاميين يعرض صاحبه إلى ما تعرض له الإسلاميون, والناس يعرفون تشفي السلطة من هذه الشريحة ليعلم الجميع أن السلطة التونسية جعلت من المساهمة في الحملة الوسخة على الإسلام و أهله وسيلة مثلى في الترقية المهنية و في الحصول على رخص عمل و في القروض البنكية و التسهيلات في أعمال اقتصادية غير قانونية وغض البصر على بعض الجرائم و قد نسمع عن إقالة رئيس شعبة في الحزب الحاكم بسبب عيادة مريض كان سجينا سياسيا وتستعمل الوشاية الكاذبة بالإسلاميين كعملة صعبة في ربح قضايا مستعصية هذه الحالة تجعلني و عائلتي كسائر إخواني في المحنة والمصيبة التي حلت ببلادنا عرضة لأمراض مزمنة كنتيجة حتمية من أوضاع السجن و في خصاصة مادية تجبرني على العمل في الفلاحة وفي الحظائر تحت مضايقة أمنية . : ,كيف تقيمون الأوضاع التونسية العامة وكيف ترون السبيل الى معالجة الأزمة السياسية بالبلاد ؟ : لا حل بدون الاعتراف بالمظالم التي وقعت طيلة عقدين وإعادة الحقوق لأصحابها ومعاقبة المتطرفين الحقيقيين والمتعصبين والخارجين عن مسار التاريخ و يمكن بعد ذلك أن نقتدي بما وقع في موريتانيا كحل سياسي. :لعلكم تابعتم في قلق شديد الأحداث الأخيرة التي عرفتها تونس مع نهايات السنة الأخيرة ومطلع السنة الجارية , فما هو تفسيركم للأسباب الحقيقية لهذه الأحداث ؟ وهل تسلمون فعلا بالرواية الرسمية في الموضوع ؟ : ما وقع أخيرا من استعمال للغة النار هو نتيجة حتمية و منطقية لتراكم ممارسات السلطة في تلجيم أفواه الناس و انتهاك حرماتهم وتفشي الفساد الأخلاقي و السياسي والاقتصادي وإقصاء شريحة هامة من المجتمع من المشاركة في كثير من الأنشطة وتخصيص ميزانية هامة من الأموال العمومية لصرفها في جهد هياكل السلطة لسلخ تونس من هويتها العربية والإسلامية وتحطيم التعليم والتربية في مستوياتها الثلاثة.أما الرواية الرسمية فهي تتناقض مع نفسها ولا يصدقها عاقل وحتى بسطاء المواطنين الذين عرفوا بالتصفيق للسلطة صاروا يضحكون من هذه الرواية . :دكتور منصف بن سالم ,في شيء من الانصاف والمراجعة الذاتية لتجربة العمل المعارض وتجربة الحركة الاسلامية التونسية ,هل لديكم قناعة بأن الجسم المعارض في حاجة ماسة اليوم الى مراجعة جذرية للخطاب والممارسة على ضوء فشل ذريع في أنسنة الدولة والحد من تغولها ؟ وهل تتحمل الحركة الاسلامية في تقديركم شيئا من المسؤولية فيما صارت اليه الأوضاع السياسية العامة بتونس ؟ :لا شك أن المعارضة الإسلامية تتحمل جزئا من المسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع في تونس باعتبارها المعارضة الشعبية الواسعة الانتشار والقادرة على التأثير في الساحة أكثر من غيرها والوقت الآن لا يسمح بسرد الأخطاء و إلصاق التهم ,هذا يتم بعد إجراء تقييم شامل و كامل للإحداث التي وقعت منذ 1987 وبالمقابل يمكن تحميل السلطة السابقة واللاحقة (لا اقدر أن افرق بينهما و اعتبرها واحدة ) وما عساها أن تفعل الحركة الإسلامية إذا قررت السلطة تسخير كل إمكانياتها البشرية والمادية والمالية لاستئصال حركة الاتجاه الإسلامي أولا,و محاربة الإسلام ثانيا و تلجيم بقية المعارضة ثالثا.هذا القرار لازال قائما حتى اليوم . :لقد كنتم من الذين باركوا نشأة حركة 18 أكتوبر وزاروا قادتها ,فهل مازلتم تعتقدون في جدوى مشروعها السياسي في ظل توغل أجندتها باتجاه مناقشة قضايا ايديولوجية يرى البعض أنها لم تكن على الاطلاق من مشمولات مبادئها الأساسية ؟ : نعم باركت نشأة حركة 18 أكتوبر, هذه الهيئة برهنت على نضج سياسي تقدمي رفيع أعطى دليلا قويا لإمكانية التعايش السلمي لحركات لها مشارب فكرية مختلفة وعقائد ايديولجية متناقضة وهو ما كنت ادعوا إليه منذ السبعينات عندما كنت مترئسا لنقابة التعليم العالي بصفاقس , وكنت أتمنى أن تقوم الهيئة ببلورة مشروع حضاري لانقاذ تونس مع بقاء كل طرف على خصوصياته و قبول الرأي الآخر,وفوق كل ذلك مع المحافظة على هوية المجتمع الذي ننتمي إليه جميعا و الاعتزاز بجذورنا المعروفة لدى الجميع وقد أسفني كثيرا ما جاء في بيان الهيئة الأخير بمناسبة اليوم العالمي للمرأة , ودون أن ادخل في الحجج و الإثباتات العلمية والمنطقية على فضل الإسلام على المرأة ومكانتها و عزتها في ظل الشريعة الإسلامية أقول بكل صراحة ولعل الصراحة مضرة إلى حد ما أن البيان موجه عن قصد أو عن غير قصد لثلاث أهداف: 1- ضرب آخر معقل للإسلام في تونس وهو الأسرة 2- عزل تونس عن محيطها العربي والإسلامي (وإذا كان لابد من العيش ضمن تكتلات دولية كنتيجة حتمية للعولمة , اسأل الهيئة إلى أين ستنتمي تونس) 3- إثارة نعرة الخلافات فيما اتفق على قبول الرأي الآخر بين مكونات الهيئة وهو ما يعني بداية قتل الهيئة بعد تهميشها. رأيي هذا قد لا يعجب الكثير ولكني أكون منافقا إذا أخفيته قصد المحافظة على وحدة الهيئة ,أنا لازلت أكن كل احترام وتقدير لأعضاء الهيئة و أرجو أن تتجنب الهيئة الدخول في هذه المتاهات وأن تجعل من العمل على حرية التعبير والتنظيم السياسي هدفا لا غير, وليعلم أعضاء الهيئة أن هناك شباب صاروا كهولا وكهولا صاروا شيوخا وراء القضبان فمتى تتوقف محنتهم , واتركوا المرأة فهي حرة في تونس إلا في لباسها الشرعي . :بعد الحملات المتكررة على المحجبات وشن حملات اعتقال استهدفت المئات من الشباب المتدين ,كيف ترون السبيل الى معالجة علاقة الدولة بالدين وكيف ترون سبل حماية المجتمع من مخاطر الارهاب والتطرف ؟ :عرفت تونس بالاعتدال والتسامح عبر قرون من التاريخ وصفة شعبها الميل لذلك حتى هذه الساعة إلا أننا ابتلينا بنوع آخر من الإرهاب والتطرف إرهاب السلطة لشريحة من شعبنا وتطرف و غلو في الكفر والفساد الأخلاقي وتحطيم الهوية وذلك تحت غطاء مقاومة التطرف الديني مسايرة للحملة الغربية على الوطن العربي والإسلامي لا أرى تطرف آخر غير هذا وإلا فسأكون مساهما في قلب المفاهيم الطفل الفلسطيني يدافع عن أرضه وعرضه بالحجارة هو ارهابي والدبابة الاسرائلية تقتل الأطفال على الشاطئ هي في حالة دفاع شرعي.أما ما تقوم به السلطة فهو عامل قوي لدفع الناس إلى اليأس ولربما للقيام بما لا ينفع البلاد والعباد. :هناك من يعود بالذاكرة الى الحديث عن مجموعة الانقاذ الوطني في ظروف تاريخية عايشتها تونس سنة 1987 ,ومن ثمة يرفض التضامن الحقوقي والسياسي معكم من منطلق أنكم أردتم الانخراط في عمل "غير ديمقراطي" ,فماهو تعليقكم على مايقوله ويفعله هؤلاء ؟ :مجموعة الإنقاذ الوطني هي شرف كل تونسي, عندما تحركت شوكة الكفر والطغوة عند عجوز فقد صوابه لما وصل إلى أرذل العمر وتلجمت أفواه الأحرار وسارع الجبناء إلى ركوب موجة بورقيبة الجنونية قامت ثلة من خيرة أبناء أرضنا الطيبة برفع اللعنة التي حلت ببلدنا الحبيب مضحين بالغالي والنفس وبالروح والدم لإعادة عزة تونس, يحلو لبعض المتاجرين بالسياسة أن يجعل منهم "وصمة عار" للحركة الإسلامية كما يحلو لهم إظهار المجموعة في الصورة المشبوهة التي يريدونها لكسب مواقف سياسية رخيصة. :كيف ترون مستقبل الاصلاح السياسي والدمقرطة في تونس وهل تعولون على دور اقليمي ودولي في احداث الانفتاح السياسي المنشود ؟ : حقيقة تصرفات السلطة تجعل كل عاقل يائسا من الإصلاح السياسي الداخلي بتراجع السلطة عن نهجها المتصلب بالرغم من درجة النضج الواعي عند الشعب في المقابل, يمكن لمن له مصلحة في تونس يخاف من الانفلات الأمني أن يفرض الحل الموريتاني خاصة بعدما اثبت هذا الحل جدواه ونجاعته. :هل من كلمة أخيرة أو نداء تتوجهون بهما الى القراء والى أحباء العدل والحرية وأحباء تونس ؟ : إلى كل ضمير حي والى كل ذي بصيرة والى كل من بإمكانه زحزحة موقف السلطات التونسية عن مواقفها المتخلفة أن يتصور نفسه يعيش طيلة عقدين من الزمن فاقدا لكل حقوقه حتى الحقوق الحيوانية ومسلط على أطفاله نفس العقاب وبدون أحكام قضائية يمارس عنه وفيه ما تشتهيه نفسية عصابة شريرة تحت تعتيم إعلامي رهيب. ونحن في عصر العولمة وفي عصر الأنترنات والثورة العلمية العملاقة لنتصور هذه الحالة: أستاذ جامعي (دكتور مهندس في الصناعة الآلية ودكتور دولة رياضيات) يقضي 20 سنة بين سجن لا رحمة فيه وإقامة جبرية مع العائلة ومتابعات بوليسية استفزازية ومضايقة لكل العائلة وحرمان من التداوي والعمل والسفر والخدمات الاجتماعية والإدارية العادية دخله الوحيد هو العمل في الفلاحة بكد اليمين وخلسة عن عيون البوليس وميليشيات الحزب الحاكم .