انتقل الرقص في تونس من عصر إلى عصر مع الانتشار السريع للفضائيات. صار الشباب مولعاً بتقليد الراقصات، وباتت الملاهي والمقاهي في الأحياء الراقية تخصص فترات رقص جماعي كل مساء تقريباً. يشير الطالب ضياء العزوزي إلى أنه تعلّم الرقص من الحفلات الموسيقية التي يحضرها مع أقرانه. ويقول: «نحن نتابع تقريباً معظم الحفلات الموسيقية والراقصة في البلد، ونحرص على حجز أمكنة في الصفوف الأمامية، فلدى مجيء المُغني مايكل جاكسون إلى تونس قبل أعوام، كنا بين أول الحاضرين، ثم في الحفلة التي أقامتها الفنانة ماريا كاري السنة الماضية في قصر الرياضة في العاصمة». ولم ينسَ ضياء أن يذكّر بولع أبناء جيله بالمُغنيات العربيات الشابات، خصوصاً روبي وباسكال مشعلاني ونانسي عجرم. في جميع الحفلات الموسيقية، بما فيها مهرجان قرطاج العريق، صار الرقص الجماعي من الثوابت، حتى أن الشباب اعتاد الوقوف فوق المقاعد الحجرية لمُدرجات المسرح الروماني ليشجع المطرب أو المطربة بالرقص، على إيقاع النغم الموسيقي. وهكذا تشاهد أمواجاً من البشر تتمايل ذات اليمين وذات اليسار مُرددة كلمات الأغنية بأصوات أعلى من صوت النجم أو النجمة. وإلى جانب هذه الظاهرة الإجتماعية (وهي حديثة إذ انتشرت في العشرين سنة الأخيرة فقط)، تشعر قطاعات واسعة من الفتيان والفتيات برغبة جامحة في تعلم الرقص في شكل فردي. وإذا كان سكان الأحياء الفقيرة لا يملكون الوسائل اللازمة لتلقي دروس في الرقص، ويكتفون بالمشاركة في حفلات الرقص التي تقام في مناسبات الزفاف، فإن الشباب في الضواحي المُوسرة يحب التردد على نوادي الرقص الخاصة. وفيما يُقبل الفتيان على الرقص الغربي أساساً، تُقبل الفتيات على تعلم الرقص الشرقي في الدرجة الأولى، لكنهن يتعلمن أيضاً بعضاً من الغربي مثل الفالز والسالسا. وأفادت إيمان الكيلاني التي يوصلها والدها إلى نادي الرقص مرتين في الأسبوع بعد الانتهاء من الدرس في المعهد، بأن غالبية المدربين على الرقص الشرقي هم من المصريين أو من التونسيين الذين تعلموا أصول الرقص في الشرق. وتعكس أسعار الاشتراكات المرتفعة نسبياً (نحو أربعين دولاراً في الشهر في نادي الرقص الخاص) مدى تشبث الشباب بهذه الهواية، إلا أن سوسن عجمية أكدت أنها تدفع لنادي الرقص في دار الشباب الواقعة في «حي المنزه» حيث تسكن، عشرين دولاراً فقط. وتنتشر نوادي الرقص إلى جانب نوادي السينما والشطرنج والرسم والموسيقى، في غالبية دور الشباب ودور الثقافة التابعة لوزارة الثقافة، والوزارة هي التي تصرف رواتب المدربين. غير أن عالم الاجتماع محمد صالح قسومة قلّل من دور النوادي، مُعتبراً أن الفضائيات باتت اليوم أكبر مدرسة لتعليم الرقص. وهو انطلق من حالات الأطفال الذين تدربوا من خلال متابعتهم الدقيقة لحركات المُغنيات، إذ كثيراً ما نرى فتاة صغيرة تقف أمام التلفزيون مُقلدة هذه النجمة أو تلك. لا بل أحياناً يشجع الأولياء بناتهم على تقليد المُطربات والمطربين، وشوهد أحد الآباء يضع ابنته على طاولة كي ترقص أمام الجمهور في حفلة أقامها المطرب حكيم في مدينة بنزرت، فتركز اهتمام الجمهور على براعة البنت الصغيرة التي كانت تجيد الرقص على رغم حداثة سنها، وكاد ينسى الفنان. إلا أن والدها عزا تشجيعها على الرقص أمام الجمهور إلى كون هذه الوسيلة «هي أنجع الطرق لتخليصها من الخجل منذ الصغر». مع ذلك يمكن القول إن الولع بالرقص ليس جديداً على المجتمع المحلي، إذ على رغم طابعه المُحافظ سواء في المدينة أم في الأرياف، كان الرقص مُتنفساً للرجال والنساء على السواء لكن في شكل منفصل. كانت للرجال حفلات رقص خاصة بهم تقام في البيوت. تحضر الفرقة الموسيقية التي تعتمد على عدد محدود من الأدوات البسيطة مثل الطبل والدف والمزمار، إلى البيت ويتحلق الرجال حولها في فن اء المنزل، فيما تتطلع النساء إلى المشهد من وراء ستائر تغطي نوافذ الغرف المحيطة في وسط البيت. أما في الأرياف فيتجمع الريفيون في مقامات الأولياء ويرقصون على أنغام الطبل في إطار الاحتفال بنجاح طالب أو شفاء مريض، قبل أن يتناولوا الكسكس في مآدب جماعية تشترك في إعدادها جميع الأسر الحاضرة. وهكذا كان الرقص بالنسبة إلى شباب الجيل الماضي من الريفيين، فرصة للتعرف على الحبيبة تمهيداً لإرسال أهله في طلب يدها. كذلك انتشر نوع آخر من الرقص المحافظ هو الرقص الصوفي الذي كان يغلب عليه الوقار ولا يتعاطى سوى مع الجوانب الروحية. وبعدما حاول الفنان سمير العقربي ومن بعده فاضل الجزيري، إحياء هذا النوع من الرقص الصوفي من خلال تجربة أطلقا عليها اسماً تقليدياً هو «الحضرة» والذي يعني في القاموس المحلي حفلة الرقص الروحاني، انشد إليها الشباب وصارت تقليداً متداولاً في الحفلات والسهرات العامة والخاصة، لا بل حتى في ملاعب الكرة. ولوحظ أن حفلة «الحضرة» التقليدية المؤلفة من عشرات المنشدين - الراقصين إلى جانب عدد محدود من العازفين، صارت تجول في بلدان عدة لتقدم عروضاً في أوروبا وحتى في اليابان. ومن السهل أن نرى اليوم شباباً من الجنسين يرقصون رقصة «الحضرة» بمناسبة أو من دونها. ورأى الطبيب فتحي الولهازي أن الرقص التقليدي كان رياضة علاجية إن في المدن أو في الأرياف، لأن الرقص كان وصفة لمن يشعرون بآلام في المفاصل أو السيقان والذين كانوا يُنصحون باللجوء إلى حفلة رقص للتخلص من المرض. كذلك كانت الحفلات التي تقام في مناسبات الزفاف أو الختان أو نيل الشهادات الأكاديمية، تشكل حصصاً رياضية إضافية، وهي رقصات جماعية تشبه الدبكة. أما شباب اليوم فلم يعد يحتاج لمبررات كي يقيم حفلة راقصة في البيت، فالمناسبات كثيرة وإن لم توجد فنهاية الأسبوع هي سبب كاف. وإذا كان هناك من رأى في انتشار هذه الظاهرة حالاً مرضية، فإن المخرج المصري يوسف شاهين اعتبر على عكس ذلك أن الشعب الذي لا يرقص هو شعب مريض.