على رغم من تزايد الضغط المحلي والدولي، المسلط على الدول العربية، من أجل التنفيس السياسي وإفساح مجال أكبر أمام القوى السياسية والاجتماعية للنشاط العلني والحر، فإن السلطات العربية تؤكد، يوماًً بعد يوم، أنها ليس لها من الاستعداد لتحقيق مطالب المعارضة الديموقراطية وتطلعات الهيئات غير الحكومية. فعلى عكس الخطاب الرسمي العربي الخشبي، الذي يعد دوما بإصلاحات ديموقراطية «ترفع العالم العربي إلى مصاف الدول المتقدمة»، وخلافا ً لانتظارات المراقبين والمهتمين بالشأن السياسي، والذين راهنوا على الإصلاح المدعوم أميركيا، فإن السلطات العربية، هدمت تلك الأحلام وأسقطت تلك الحسابات في الماء، ووضعت الناشطين والفاعلين في الحقل السياسي أمام واقع متأزم، وفي موقف معقد، وأحرجت العديد الذي ما يزال ينتظر إقدام الحكومات العربية على الإصلاح الديموقراطي وتحسين وضع الحريات. وصار الشعب العربي بعد أن أعيته كل دعايات الحكومات العربية والأميركية حول الديموقراطية والمجتمع المدني و الحداثة، قانعا ً بما تيسر من أمن اقتصادي محدودٍ جداًً، فاختصر الحرية السياسية وحرية التعبير، وحرية إنشاء الأحزاب السياسية المعبرة عن تطلعاته وطموحاته، حتى باتت الحرية بالنسبة إليه مجرد إتقاء لشر التسلط والتعسف. والحال هذه، ناصبت السلطات العداء لكل دعوة إلى احترام حقوق الإنسان، ونصبت نفسها ممثلة للحقيقة المطلقة بصفة احتكارية تعلو على السيادة الشعبية. فالديموقراطية هي سياسة الاعتراف بالآخر كما قال شارل تايلور، بينما استغلتها السلطات العربية لخدمة الدولة الأمنية التعسفية والقمعية التي قضت على المجال السياسي، وعلى انبعاث القناعات الديموقراطية لدى فئات الشعب. الديموقراطية مسألة مستجدة على المجتمعات العربية، بل هي وافدة برّانية. فقد اعتقدت النخب الفكرية والسياسية العربية أن الديموقراطية انتصرت بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الأنظمة الشمولية. وفضلاً عن ذلك، فإن الديموقراطية هي المظهر السياسي الذي تتجلى من خلاله حداثة قائمة على اقتصاد السوق من حيث شكلها الاقتصادي، و على العلمانية من حيث تعبيرها الثقافي. فلا السوق السياسية المنفتحة والقادرة على المنافسة هي الديموقراطية، ولا اقتصاد السوق يشكل بحد ذاته مجتمعاً صناعياً. بل إن في وسعنا القول، في الحالتين، إن النظام المنفتح سياسياً واقتصادياً شرط ضروري من شروط الديموقراطية أو التنمية الاقتصادية، لكنه غير كافٍ. صحيح أن لا وجود لديموقراطية من دون حرية اختيار الحاكمين من قبل المحكومين، ومن دون تعددية سياسية، ومن دون حرية تعبير، لكننا لا نستطيع الكلام عن ديموقراطية ما إذا كان الناخبون لا يملكون إلا الاختيار بين جناحين من أجنحة الأوليغارشية أو الجيش و/أو جهاز الدولة، لأن العولمة الرأسمالية التي تقودها الولاياتالمتحدة الأميركية تتساهل تجاه انضمام دول مختلفة لاقتصاد السوق، منها دول تسلطية، ومنها دول ذات أنظمة تسلطية آخذة بالتفكك، ومنها دول ذات أنظمة يمكن تسميتها ديموقراطية، أي أن المحكومين فيها يختارون بملء إرادتهم وحريتهم من يمثلهم من الحاكمين. فالفكرة الديموقراطية التي يتبناها «الوعي السلطوي» العربي منذ بداية الثمانينات، والتي سبقتها صراعات اجتماعية وسياسية وحتى عسكرية، ومخاضات عسيرة حول مفهوم الديموقراطية وآليات تطبيقها، ومدى ملاءمتها للبيئة العربية، ظلت عرضة للأخطار والانتكاسة والتراجع بسبب عدم احترام السلطات للحريات الأساسية، وعدم اتجاهها نحو الحد من سلطة الدولة على الأفراد، و بقائها أسيرة المصالح الخاصة، والحزبية الحاكمة، ذات المنشأ غير الديموقراطي. والحقيقة، أن الديموقراطية تبدأ بإرساء نظم علاقات ديموقراطية وممارستها مؤسساتيا، كما تتطلب التغيير في العقليات والتكوين النفسي، لا في الشكل فحسب ولكن أيضا في المضمون. ومن الأفضل للسلطة السياسية التي ترفع لواء الحداثة والديموقراطية وحقوق الإنسان أن تبدأ بممارسة هذه القيم داخل أطرها المؤسساتية، لأن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه. وهذا ما هو ليس حاصلاً، وربما لن يحصل في العالم العربي. فضبط المجتمع شرط توطيد الأمر القائم، لا سيما بعدما تعالت أصوات عربية داخلية تطالب بإحداث نقلة نوعية عبر القيام بإصلاح ديموقراطي جدي وعميق، ومعالجة الأزمات التي يجب أن يعالجها كل بلد عربي بجهود أبنائه، في الموالاة والمعارضة، والذين لن يتمكنوا من مواجهة التحديات بغير الاعتراف للمواطنين بحقهم في الحرية، وبحق أحزابهم في الشرعية والعلنية. وهو حق يقوم على نمط من الإدارة والتنظيم، ويستند على مشاركة المواطن في الشأن العام، دون قيود تبطل حريته أو تتعارض معها، ويسمح بمراجعة سياسات بلده الداخلية والخارجية، وبتحويل الدولة من دولة الحزب الحاكم إلى دولة حق وقانون، دولة الكل الاجتماعي التي تخص كل واحد من مواطنيها. إن الديموقراطية الحقة هي تلك التي تقوم على اعتراف السلطة العربية بضرورة إعادة النظر في بنية الدولة السائدة حالياً، لجهة بناء دولة المؤسسات، دولة كل المواطنين، لا دولة حزب واحد، أو دولة أفراد مهما كبرت أدوارهم التاريخية. ويتطلب بناء الدولة الحديثة أن تطلق السلطة حواراً وطنياً واسعاً طال انتظاره حول قوانين الدولة الوطنية الحديثة، بدءاً من قانون الأحزاب والجمعيات إلى قانون المطبوعات إلى قانون الأسرة وغيره، فضلا عن بناء المؤسسات المجتمعية المقتنعة بالحريات الفردية والعامة، و ضمان ممارستها في المجتمع، وعدم كبحها. والحريات الفردية والعامة لا يمكن أن يكون لها وجود عياني ملموس مالم يكن المحكومون قادرين على اختيار حكامهم بملء إرادتهم، وما لم يكن الشعب قادراً على المشاركة السياسية في إيجاد المؤسسات السياسية والقانونية والمجتمعية، وفي تغييرها. إن إحدى ركائز وجود دولة الحق والقانون وجود تعددية سياسية حقيقية مؤسسة على قيم الحوار، والتنافس الشريف، والاعتراف المتبادل. ففي البلدان التي توجد فيها ديموقراطية تعددية، تجري انتخابات حرة ونزيهة بشكل دوري ومنتظم بواسطة الاقتراع العام. ولهذا نرى في هذه البلدان تداولا ً سلميا ً على السلطة، جراء تحقق توافق بين الفاعلين السياسيين حول سير المؤسسات و طريقة عملها، بما في ذلك السياسة الداخلية والخارجية، وضمان ديمومة استمرار دولة القانون، أولاً، ووجود حياة حزبية مستقرة، منتظمة، ومؤسسة على ثقافة المشاركة. فهناك تلازم بين الحياة الحزبية السليمة والعملية الديموقراطية، باعتبار ذلك تعبيراً عن التداول السلمي على السلطة، ثانياً. وفضلاً عن ذلك، فإن فكرة الديموقراطية لا تترسخ في النظام السياسي المعاصر، لا سيما في البلدان المتخلفة، إلا من خلال تفعيل العمل الحزبي وتقويته وتطويره، في أوساط الشعب، الذي من المفترض أن تنتج السياسة في صلبه. ذلك أن الأداء الحزبي، المنتظم، والمستقر، والمؤسس على روح المنافسة، يصقل الديموقراطية ويعمق الوعي بها، ثالثاً. كاتب تونسي . -أرسل الى الوسط التونسية بواسطة الكاتب التونسي توفيق المديني.