يبدو أن التطورات الدولية في التعامل مع حركة الأموال، في المصارف المحلية والدولية، أخذت في كشف جانب هام من الفساد المالي، غير المحدود، المستشري في أوساط الحكم المصرية. فمنذ ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 وضعت السلطات والقوانين ونظم المصارف الغربية، حركة تداول الأموال نصب أعينها، لتجفيف منابع تمويل الحركات الجهادية، وتضييق الخناق حول رقبة حركات وتنظيمات وقوي مناوئة للسياسات الغربية، وتحديدا السياسات الصهيو أمريكية. شمل ذلك حركات التحرير والمقاومة، ضد الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري. تطورات كشفت مستوي التردي الذي وصل إليه أتباع أمريكا في المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط. وأدت إلي الكشف عن أموال مصرية، تخص شخصية حزبية كبري شبه رسمية، حائرة لا تجد مستقرا في مصارف أوروبا، ومنها السويسرية التي كانت حتي سنوات ملاذا للأموال المنهوبة والمهربة، من بلادنا ومن بلاد غيرنا. الخطير ليس في حيرة أموال الشخصية المصرية البارزة، ذات العلاقة بالقرار السياسي والسيادي، إنما ما قام به سفراء وسفارات تعمل في خدمة هذه الشخصية، بشكل أساء إلي الدبلوماسية المصرية. وكشفت مصادر موثوقة، لكاتب هذه السطور، عن مبلغ يتجاوز أربعة مليارات جنيه، بالتحديد سَبعمئة وخمسين مليون دولار، حائر منذ ابريل 2005. يبحث عن مستقر في مصرف أوروبي، وفشلت كل محاولات إيداعه في أحداها. وأزاحت الغطاء عن اسم صاحبه. وعرفنا أنه ليس موظفا رسميا، ولا يحتل منصبا وزاريا في حكومة نظيف. مكتفيا بمنصبه الحزبي، الذي يوصف عادة بالرفيع، وهذا جعله صاحب سلطان وسطوة مكنته من الوصول إلي قلب صناعة القرار. في ذلك الشهر، منذ أكثر من سنتين، تم إيداع المبلغ في مصرف سويسري، عبر سفارة مصرية في عاصمة أوروبية كبري، وحسب مصدر مطلع داخل المصرف السويسري، ساد اعتقاد داخل أروقته، في البداية، أن المبلغ مملوك للحكومة المصرية، وإلا ما أودع عبر بعثتها الدبلوماسية، وبدأت رائحة الفضيحة تفوح. السبب هو أن المبالغ المالية الكبيرة، خاصة إذا ما وضعت نقدا، تبقي محل ارتياب وشك، لهذا يخضعونها لنظام صارم ودقيق للتقصي والتحري، لمعرفة مصدرها الحقيقي وخط سيرها ومستقرها، وكانت المفاجأة أن المبلغ الكبير ملكا للمسؤول الحزبي الكبير. استغرقت مدة التقصي والتحري ستة أشهر، في نهايتها تأكد المصرف من شخصية صاحبه، وأعاده إلي السفارة المعنية. لأنه، من وجهة نظر المصرف، حمل شبهة غسيل أموال. تمادت السفارة، ولم ترد المال الحرام إلي صاحبه. يتصرف فيه بالطريقة التي يراها، أو يعيده إلي الخزانة العامة، إذا ما استيقظ ضميره. وقامت بإيداعه مرة أخري، في مصرف هولندي، وتكرر نفس السيناريو، بعد ستة أشهر أخري عاد المبلغ إلي السفارة ثانية. الغريب أن السفير لم ييأس، ويبدو أنه مستفيد، وإلا كان قد تحجج بموقف المصرف الأول، وأبعد نفسه عن موطن الشبهة، وتخفيفا من وطأة النتائج السلبية المترتبة علي استخدام القنوات الدبلوماسية في أعمال غير مشروعة، وتكرار الرفض ثانية لم يمنع السفارة المصرية، في العاصمة الأوروبية الكبري، من إعادة المبلغ، مرة ثالثة، إلي مصرف سويسري لخمسة شهور أخري. ويتكرر الرفض، وعلي مدي ثمانية عشر شهرا المبلغ حائر. الفضيحة إللي بجلاجل، كما نقول في مصر، أكدت ما هو معروف عن فئة من حكام مصر. لا تبالي بأي شيء في سبيل جمع المال ونهبه. فتجاوزت كل الخطوط والحدود.. حتى حولت السفارات لقنوات غسيل أموال مهربة، وقطعا هناك من يتذكر ما كتبناه علي هذه الصفحة، من سنوات قليلة، عن طبيعة العمل في سفارات مصرية في عواصم غربية، وهو لا يختلف كثيرا عن مكاتب التشهيلات، العاملة في خدمة المسؤولين والحكام، وزوجاتهم وأبنائهم وأصهارهم. أشرنا وقتها إلي عقاب موظف بسفارة مصرية في أوروبا. وأعيد للقاهرة، لأنه طلب بصوت عال، زجاجات صبغة شعر مسؤول كبير، كي لا تتعطل الحقيبة الدبلوماسية. ولفت صوته العالي أنظار كثيرين. علموا بما تحويه الحقيبة، ودفع الموظف ثمن تصرفه التلقائي والبريء. استخدام السفارات والقنوات الدبلوماسية في تهريب الأموال وغسلها، يبين أن الفساد طال الدبلوماسية المصرية، وكان العالم يشهد لها بالكفاءة والنزاهة. وأيا كان وزن المسؤول، وحجم ضغطه ومستوي بطشه، ما كان علي سفير أو مسؤول في سفارة أن يقوم بهذا العمل المشين إلا إذا كان هو نفسه جزءا من منظومة الفساد الرسمية، تجاوز الأعراف الدبلوماسية، والقواعد القانونية والسياسية، والمبادئ الأخلاقية. والسؤال هو هل تتم هذه التصرفات البائسة دون علم وزير الخارجية؟ وهل ما جري جري من خلف ظهر الوزارة المعنية؟ وإذا ما علمنا أن وزارة الخارجية، ومعها وزارات الدفاع والداخلية والإعلام، من وزارات السيادة، أي تتبع رئيس الدولة مباشرة، فهل هذا التصرف حدث بعيدا عن أعين مؤسسة الرئاسة وسمعها ولسانها؟ مما يضع حسني مبارك، شخصيا، تحت طائلة المساءلة القانونية، حتي لو لم يكن يعلم!! بجانب سؤال من نوع آخر.. عن هذا المبلغ الحائر.. عن إمكانية متابعة مساره، من بداية الحصول عليه، حتي لحظة وصوله إلي أوروبا. وهل تقوي أجهزة الرقابة علي الدخول إلي جحر الأفاعي لتعرف ما فيه، وهل يهتم النائب العام بما ورد في هذه السطور، ويفتح تحقيقا. خاصة أن لدي كاتب هذه السطور بيانات عن السفارة المعنية، وأسماء المصارف الثلاثة التي أودع بها المبلغ، ومر عليها بطريقة الكعب الداير البوليسية. وهل يمكن أن تتخذ الإجراءات اللازمة.. والتحقيق فيما هو منسوب إلي الأطراف ذات الصلة بحركة هذا المبلغ الكبير؟ وهذا المبلغ، الذي كشفت الإجراءات المصرفية سره، ليس سوي نقطة في بحر أموال مهربة، علي مدي أكثر من ثلاثين عاما، إلي المصارف الغربية وغير الغربية، إذا كان المبلغ قد عرف. فما هو حجم المبالغ التي لم تعرف؟ وعلي كل معني بمستقبل مصر، وكل قادر علي مواجهة الفساد والمفسدين، أن يضغط لفتح ملفات المال الحرام، ودوره في إفساد السياسة المصرية. ومع إقرارنا بتأثير المال علي كافة شؤون الحياة، إلا أن مشروعيته تستمد قيمتها من مشروعية مصدره، أما أن ينهب المال ويهرب بهذه الطريقة، وتحت حماية أصحاب السلطة والسلطان، فذلك جعل الاعتماد علي القانون وحده، وهو من صياغة منظومة الحكم الفاسد، غير كاف. ولا يحد من تأثير الفساد السلبي علي الحياة المصرية في كافة مجالاتها ، وهنا تأتي أهمية الرأي العام، وكشف هذه الجرائم والمخالفات أمامه.