رأيته آخر مرة قبل استشهاده رحمه الله ببضعة أشهر لما كنت نزيل مستشفى شارل نيكول يالعاصمة التونسية الذي نقلوني إليه بعد أن خضت إضرابا طويلا عن الطعام. كنت مقيما بغرفة منعزلة مع أحد الإخوة الذي قارب سنه الستين كانت الأغلال في أقدامنا مشدودة إلى الفراش و لا تفك عنا القيود حتى أثناء أدائنا الصلاة. وكان في حراستنا 4 أعوان من السجن و 2 من أمن الدولة ( 6 أعوان ياخذون رواتبهم من عرق الشعب الكادح مقابل حراسة شيخ كبير لم يترك له المرض و الجوع قدرة حتى على الوقوف و العبد الضعيف مضرب عن الطعام لأكثر من شهر لا أقوى على المشي ). وذات مساء لاحظنا حركية غير عادية في الممر أمام غرفتنا و تضاعف عدد العسس حتى لم أعد أحصيهم ( حالة استنفار قصوى ) ثم ساد سكون في الممر فحسبنا أن أحد المسؤولين جاء لزيارتنا بعد أن رفضنا التفاوض حول تعليق الإضراب إلا مع مسؤول سام في وزارة القمع (الداخلية) وبعد لحظات قطع الصمت صوت امرأة في الخمسينات من عمرعا لمحناها في الممر بحجابها تدفع الأعوان المسلحين بشدة وهم يحاولون منعها من التقدم للغرفة الملاصقة لغرفتنا وكانت تصيح بالعسس " والله لو تقطعوني إربا لن أعود قبل أن أرى زوجي و أكلمه و علا الصراخ من الجانبين وسمعتها تقول لهم بلهجة تونسية "خافوا ربي حتى الراجل بساق وحدة خايفين منو ؟؟؟"و تدخل عون من أمن الدولة وسمح لها برؤية زوجها من الباب للحظات ثم تنصرف لتأتي برخصة للزيارة من السجن. ففهمنا أنها زوجة عم مبروك و أن كل الإستنفار كان من أجله. و ضعوه في الغرفة المجاورة و مع حلول الليل سمعت الشيخ يصلي العشاء بصوت قوي عال ثم أخذ يلقي درسا على الأعوان المرابطين بغرفته و كان رحمه الله ذو صوت شديد كنا نسمعه رغم أن العسس أغلق علينا الباب "لأسباب أمنية" كان يقص عليهم من قصص الأنبياء. ولأن الشعب التونسي في غالبيته طيب بما فيهم العسس و لكنهم مكرهون من قبل السلطة حتى يكونوا قساة فكان من الأعوان من يدخل غرفتنا في غفلة من أشرار العسس و يخبرنا بالمستجدات في السجن فعلمنا أن الشيخ الشهيد و بعد أن قطعت رجله الأولى لا يزال يشكو آلاما فضيعة في رجله الثانية و أنها لا بد أن تبقى تحت التخدير لتخفيف الألم . و أنهم ربما يقطعونها. كان كل الأعوان يحترمون الشيخ و يستمعون لقصصه كل ليلة ولكنه رحمه الله كان حين تشتد به الآلام عند زوال مفعول المخدريصيح صياحا يدمي القلوب و يحرك الصخور الصماء فتنفجر دموعا و دماء. كنا نبكي لصياحه و ننادي العسس و الممرضين ليعطوه مسكنا أو يفعلوا شيئا ليوقفوا آلامه. و يتكرر السيناريو تقريبا كل ليلة ( أول الليل قصص ومواعظ وآخره ألام و صياح). كان رحمه الله لا يقوى على المشي فكان الأعوان يحملونه لقضاء حاجته و الوضوء إلى أن ملوا ذلك واشتكوا فسمحت الإدارة لابنته أن تلازمه ليلا وزوجته نهارا لا رأفة به و لكن تخلصا من مشقة حمله للحمام خمس مرات في اليوم للوضوء. بعد مدة ولما تدهورت صحتي و صحة أخي و أوشك على الهلاك وعلموا أنه لا مفر لهم من استدعاء مسؤول من الداخلية لدفعنا لحل الإضراب جاءنا المسؤول الذي طلبنا و نسينا مطالبنا التي أضربنا من أجلها و دار حوارنا حول الشيخ مبروك رحمه الله فكنت أسأله ماذا تفعلون برجل شديد المرض كعم مبروك هل يمثل خطرا على أمنكم و هو في تلك الحالة ؟ أين إنسانية الرئيس ؟ أين" طيبته" و رعايته لضعاف الحال؟ هل في الوجود أضعف حالا من العم مبروك الذي لم يبق إلا لسانه الداعي إلى الخير. كنت أتحدث بغضب و شدة مع ذلك المسؤول و كان يعدني خيرا. و استدعى رئيس القسم الذي كنا نقيم به أنذاك و أقسم لي أنه أمضى تقريرا للرئاسة يقتضي ضرورة تسريح الشيخ فورا و أقسم لي أن إدارة السجون فعلت بالمثل و أن أمن الدولة فعلت كذلك و أنهم فقط ينتظرون قرار الرئيس الذي سيصل في غضون أيام . لم أتحدث عن مطالبي رغم أنه والحق يقال لبى لي كثيرا مما طالبت به سابقا و قطعت الإضراب و غادرت المستشفى بعد أيام رأيت خلالها الشيخ في غرفته يقرأالقرآن وكنت مارا لإجراء فحص طبي وحالما لمحني تبسم و قال السلام عليكم و لم يترك الاعوان لي فرصة الحديث معه و عدت إلى السجن و كلي أمل أن يطلق سراح الشيخ و لم أسمع شيئا عن الشيخ لصعوبة متابعة الاخبار من داخل السجن في ذلك الوقت إلى ان بلغنا نبأ استشهاده بالسجن و تأكدت أن القوم لا عهد لهم ولا ميثاق . أو لعل الكلام ينطبق فقط على كبيرهم الذي علمهم السحر الذي أخاله تلقى التقارير و قال كما قال سيء الذكر طبيب السجن لما اخبروه بان الشهيد سحنون يموت "نحن لا نسعف كلبا يموت" وسيثبت التاريخ من الكلاب حقا. رأيت الشيخ قبلها لما كان بصدد عرض مبادرة لإنهاء الأزمة بين السلطة و الحركة و قد تأكد بعدها أن القوم ما أرادوا صلحا و لكن أرادو تمزيق الصف و جمع معلومات بوليسية ليس إلا. و قد نبه رحمه الله لذلك ( قد تحدثت عن تلك المبادرة في أعداد سابقة). لا زلت أذكر للشيخ حادثتين الأولى كانت في فترة الإيقاف ببوشوشة حيث كان رحمه الله مصابا بالسكري و كان لا بد له من أكل قطعة سكر كلما نزل معدل سكره وقد اشترى له أهله صندوق سكر و أعطوه للعسس حتى يناولوه قطعة كلما احتاج لذلك و بعد يومين أو ثلاثة أيام طلب السكر فأخبروه أنه قد نفد و الشيخ لم يأخذ منه إلا بعض القطع و قد كان العسس ياخذون منه لتحلية قهوتهم دون علمه فلقنهم درسا في الامانة و كان يعيرهم و يهددهم بعكازه الذي لا يفارقه ناعتا إياهم بما يستحقون فكانوا يخافون المرور من أمام زنزانته رحمه الله. والثانية لما عزم أن يزورنا ليلا بمبيت بن عروس لإلقاء درس تربوي و كان حارس المبيت بالباب ليمنع كل غريب من الدخول و الشيخ كان كبير السن إضافة إلى عرجته فلم يكن بالإمكان أن يتسلق السور الخارجي كما كنا نفعل فوضع رحمه الله" زنارا" على راسه و وخفف من حدة عرجه حتى لا يلفت انتباه الحارس و نجح في الدخول وكان البرنامج أن يقدم درسا في السيرة تماشيا مع ما كنا نعيشه أنذاك من أحداث و لمح في أول اللقاء أحد الإخوة تثاءب و لم يضع يده على فمه فغير الموضوع متحدثا عن آداب التثاؤب و سنة النبي عليه السلام في ذلك طبعا دون أن يحرج الأخ الذي تثاءب. و أذكر حادثة أخرى أخبرني بها سجين حق العام "البشير بو راس" بالسجن. قبل أن يتوب من معاصيه كان سكرانا و مر من قرب مسجد في منطقة الملاسين بتونس فوجده محاصرا بأعداد كبيرة من قوات الأمن يريدون القبض على الشيخ مبروك ووجد المصلين يحاولون إخراجه من المسجد بعد أن ألقى به درسا فأخذ الشيخ على رقبته وهرب به في أزقة الملاسين التي يعرف ثناياها جيدا و أنقذ الشيخ من الإعتقال فكان ذلك سبب هدايته و إقلاعه عن المعاصي كما أخبرني و العهدة عليه. رحم الله الشيخ الشهيد لقد عاش عزيزا و مات وهو كريم فما بدل ولا غير رغم آلامه و شيخوخته و مات بالسجن فكان موته حياة لنا و لعنة على الظالمين و دليل ساطع على بربرية و همجية سلطة 7/11و أنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة مهما كان اعتداله وتسامحه إلا أن يركع لهم و الشيخ رحمه الله لم يركع لهم ولم يساوم كما فعل أشباه الرجال اليوم لذلك سيبقى حيا بحياة قضيته التي مات من أجلها ألا وهي حرية التدين و التنظم و إزالة الإستبداد و الظلم. أما أشباه الرجال فلن يبق لهم ذكر حتى و إن ملكوا الدنيا وما فيها وحشروا ما حشروا من الالقاب ما حشروا أمام أسمائهم فلن يبقى منها إلا الخ......الس......لن أذكر الأوصاف حتى لا أنعت بالسباب ولكن التاريخ سيذكرها حتما فالتاريخ لا يرحم.