بعد استقراره في قصر الايليزيه منذ أسبوعين بدأ الرئيس الجديد يوجه عناية كبرى لمشروعه المنتظر وهو انشاء اتحاد متوسطي أي منظومة حضارية و سياسية واقتصادية و أمنية و ثقافية تجمع بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط شماله وجنوبه. فالحلم عظيم و عبارة الحلم أطلقها ساركوزي ذاته في فبراير الماضي في خطابه بمدينة طولون الفرنسية و في حفل تسلمه لمهامه يوم 16 مايو. و لكننا يجب أن نقرأ المراجع التي يعتمدها الرئيس ساركوزي لتأسيس هذا الاتحاد و الظروف الدولية المحيطة بالمشروع الطموح. و من أبرز المراجع التقرير الذي أعدته بطلب من الرئيس ساركوزي كوكبة من الدبلوماسيين و المنظرين و المفكرين الفرنسيين لهذا الغرض وهو يحمل عنوان ( تقرير ابن سينا ) على اسم الفيلسوف الطبيب المسلم. و التقرير وثيقة ضرورية لفهم الغايات التي يرمي الى تحقيقها الرئيس الفرنسي الجديد الذي باشر الاصلاحات الجذرية الجريئة في كل مجالات الحياة في بلاده. يبدأ التقرير باستعراض العلاقات الفرنسية المتوسطية أي في الحقيقة علاقات باريس التقليدية مع بلدان المغرب العربي : تونس و الجزائر و المغرب، نزولا الى مصر وتركيا كشركاء لبلدان ساحل البحر في الشمال أو في الشرق أي فرنسا و ايطاليا وأسبانيا و اليونان و مالطا و قبرص. و في الأسبوع الماضي تكلم وزير خارجية البرتغال السيد لويس أمادو عن تحمس بلاده للانضمام الى هذا الاتحاد، رغم أن البرتغال لا تقع على ضفة المتوسط، لكنه يطالب بادراج موضوع الاتحاد المتوسطي في جدول أعمال اجتماع وزراء الخارجية للمنتدى المتوسطي الذي يجتمع هذا الأسبوع في جزيرة كريت اليونانية. و يمضي التقرير في تقييم العلاقات الفرنسية المغاربية فيؤكد على طابعها التاريخي و لكنه يعترف بأن سياسات باريس لم تكن دائما مستقرة الأهداف و منطقية الخيارات باتجاة المغرب العربي، و كذلك الأمر باتجاه أزمات المشرق العربي، مما جعل أبواب هذه الأقاليم تنفتح تدريجيا على القوى الأخرى الطموحة للحضور فيها مثل الولاياتالمتحدة و لكن أيضا الصين و روسيا. و يقول التقرير بأن هذه العلاقات لم تبلغ مستوى المخاطر المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط و التي تهدد فرنسا و أوروبا اذا ما تم اهمالها. فبلدان المغرب العربي تونس و الجزائر و المغرب تستدعي نفسها باستمرار في كل حوار فرنسي داخلي حول ملفات الهجرة و الأمن و اندماج المقيمين و العلمانية و مكافحة الارهاب، و يقترح التقرير مضاعفة الجهد الفرنسي باتجاه هذه البلدان الثلاثة حتى يرقى الى سياسة منهجية و مستديمة للشراكة في التنمية و التنسيق على كل الأصعدة. و يلفت التقرير النظر الى تعطل اتحاد المغرب العربي و أسبابه المعروفة. و هنا أستسمح القراء الكرام أن أنقل بعض تعاليق صحيفة تونسية على محتوى التقرير لأنه يشكل رؤية موضوعية للمحاور المطروحة ، فقد كتب الزميل المحترم رضا الكافي في يومية (لوتون) التونسية بتاريخ 31 مايو 2007 بأن التقرير دعا الحكومة الفرنسية الى دعم حوارها مع المجتمعات المدنية في بلدان جنوب المتوسط و دعم علاقاتها واتصالاتها بالقوى الحية في هذه البلدان دون الوقوع في مطبات الضغط الأحادي على السلطات فيها، و هنا يقول السيد رضا الكافي نقلا عن التقرير بأن السؤال الجوهري يصبح: هل تشمل الديمقراطية الاسلاميين ؟ و يقترح كتاب التقرير معالجة هذه الاشكالية بمواصلة الحوار مع المعتدلين الرافضين للعنف حتى تجد سلطات هذه البلدان صيغا مقبولة و عملية لتجاوز هذه الحالات المنغلقة الراهنة و المختلفة من بلاد الى بلاد حسب اعتدال مخاطبيها الاسلاميين و مدى اعتراف السلطات بهم أو تهميشهم. و تجدر الاشارة الى أن لجنة تفكير انشأت في تونس و افتتح أعمالها وزير الخارجية التونسي حول اعداد تصورات و رؤى للتعاون و الشراكة بين ضفتي البحر المتوسط، وهو عمل سياسي ضروري حتى ندخل كعرب نحتل جنوب البحر و غربه منذ عشرات القرون أي منظومة من صنف هذا الاتحاد المتوسطي، و كنت أود لو اتسعت هذه اللجنة التونسية لتشمل الاخوة الجزائريين و المغاربة و المصريين والأتراك في مرحلة قادمة حتى يقع التنسيق بين شعوبنا و حكوماتنا استعدادا لحماية مصالحنا ضمن أي اتحاد يقترح علينا، و السبب بسيط فالاتحاد الأوروبي الذي ينوي ادماجنا في منظومة متوسطية يتشكل من دول أعضاء فيه قبلت بالتخلي عن أجزاء من سيادتها لفائدة الاتحاد الأوروبي و لا يتخذ أي قرار يعنيها سوى بالأكثرية الديمقراطية، فدول الشمال سبقتنا في هذا المجال بأشواط، و لا بد أن نبدأ نحن بتجاوز انقساماتنا و حل معضلاتنا لنقف أمامها صفا قويا و قلعة حصينة.