مشروع إنشاء اتحاد متوسطي الذي يروج له الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، هو منظومة حضارية وسياسية واقتصادية وأمنية وثقافية تجمع بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط شماله وجنوبه. فالمشروع المتوسطي مستوحى في قسم كبير منه من المراجع التي اعتمدها الرئيس ساركوزي لتأسيس هذا الاتحاد، والظروف الدولية المحيطة بهذا المشروع الطموح. ومن أبرز مراجع التقرير الذي أعدّته، وبطلب من الرئيس ساركوزي، كوكبة من الدبلوماسيين والمنظرين والمفكرين الفرنسيين لهذا الغرض، وهو يحمل عنوان «تقرير ابن سينا» على اسم الفيلسوف الطبيب المسلم. والتقرير وثيقة ضرورية لفهم الغايات التي يرمي الى تحقيقها الرئيس ساركوزي، ولاسيما لجهة إيجاد حل للمشكلات التي باتت ترهق بلدان الاتحاد الأوروبي، وهي مشكلات مألوفة تمت مناقشتها كثيراً: الإرهاب، الهجرة غير الشرعية، تلوث البحر الذي يؤثر على السياحة وصيد الأسماك، شحّ المياه العذبة، البطالة المستفحلة والكثافة السكانية في الجنوب، التّصحر الذي ينتشر ليطال بلداناً مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان، اتساع الهوة، الكبيرة أصلاً، في الدخل الفردي بين الشمال والجنوب. وبعبارة أخرى، لا يمكن ضمان أمن أوروبا وازدهارها إلا إذا تمتّعت الدول المتاخمة للبحر الأبيض المتوسط بالأمن والازدهار أيضا - إلا أن ذلك يتطلّب مبادرة مشتركة كبيرة من قبل الشمال والجنوب. ويكمن في خلفية هذا التفكير توجه مفاده أنه منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، مالت أوروبا الغربية إلى إهمال جانبها الجنوبي، في حين أنها تولي الكثير من المساعدة والانتباه إلى دول أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية. وتقوم فكرة المشروع على البناء التدريجي لهذا الاتحاد المتوسطي الجديد من خلال القمم المنتظمة، ثم عبر المؤسسات المقلّدة من مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بدايات تشكله في خمسينيات القرن الماضي، إذ إن المقاربة ستكون اقتصادية في جوهرها.. والحق يقال، إن الفكرة ليست جديدة، فالقمة 5+5، عقدت في تونس في ديسمبر 2003، وهناك عدة اجتماعات مشابهة ضمت وزراء المالية أو الدفاع، عقدت بشكل سري خلال السنوات العشر الماضية. وكان واقع الإخفاق لأوروميد، عقب الذكرى العاشرة لاتفاق الشراكة الأورو-متوسطية في برشلونة في نوفمبر 2005، قد حث على الإسراع ببلورة هذا المشروع الجديد. يستند هذا المشروع إلى التقرير الذي استعرض العلاقات الفرنسية المتوسطية أي في الحقيقة علاقات باريس التقليدية مع بلدان المغرب العربي: تونس و الجزائر و المغرب، نزولا الى مصر وتركيا كشركاء لبلدان ساحل البحر في الشمال أو في الشرق أي فرنسا و ايطاليا وأسبانيا واليونان ومالطا وقبرص. ويمضي التقرير في تقييم العلاقات الفرنسية المغاربية فيؤكد على طابعها التاريخي و لكنه يعترف بأن سياسات باريس لم تكن دائما مستقرة الأهداف ومنطقية الخيارات باتجاة المغرب العربي، وكذلك الأمر باتجاه أزمات المشرق العربي، مما جعل أبواب هذه الأقاليم تنفتح تدريجيا على القوى الأخرى الطموحة للحضور فيها مثل الولاياتالمتحدة و لكن أيضا الصين وروسيا. الأصل في الاتحاد المتوسطي الذي يبدو اليوم بمنزلة تقليعة جديدة، أنه لا يعدو أن يكون استنساخاً ذكياً لمشروع السلام الاقتصادي في المنظومة الأميركية للشرق الأوسط وشمال افريقيا، فقد بدأت في الدارالبيضاء في مطلع تسعينات القرن الماضي ثم جالت على عواصم عربية قبل أن تتعرض للانهيار نتيجة تداعيات أزمة الشرق الأوسط. والحال أن الطبعة المنقحة للاتحاد المتوسطي تسلك المنهجية ذاتها في استقطاب بلدان شمال افريقيا، كونه الأقل تأثراً بما يحدث في المشرق العربي، وبالتالي فالرهان على إمكان إحداث اختراق كبير في انفراج العلاقات المغاربية يبقى محكوماً بإرادة الدول المعنية، أكثر منه بتسويق المشاعر. وسواء انجذبت المنطقة إلى دعم غير مشروط للاتحاد المتوسطي أو تحفظت على بعض أهدافه السياسية، فإنه يظل رؤية أوروبية تأخذ في الاعتبار معطيات توسيع الاتحاد وآفاق التحالفات والمنافسات القائمة مع الولاياتالمتحدة. هناك هدفان دائمان يتدثران في عباءة دعوة ساركوزي، والتي لا يستثنى منها أشهرها، أي ما يدعى حوار الحضارات، ومنتديات حوار الأديان التي درجت مؤخراً، بمشاهدها المتلفزة التي يتصدّرها الحاخامون إلى جانب القسس والمشايخ، وهما: التطبيع بين الدول العربية و إسرائيل، بمعنى جعل هذه الأخيرة في حكم المسلمة المقبولة في محيطها العربي، ودمجها اقتصادياً وتنموياً في المنطقة، وصولاً إلى فرضها مركزاً مقرراً فيها.هذا إلى جانب هدفين آخرين معروفين هما، ما يسمّى «محاربة الإرهاب»، ومكافحة الهجرة السريّة أو غير الشرعية. فهل سيتمكن مشروع الاتحاد المتوسطي الذي اقترحة الرئيس ساركوزي من تعميق المسار الأوروبي المتوسطي،وسد الثغرات والتشققات التي ظهرت في جداره؟ كاتب من تونس