(3) لم نكن نتوقع أن تندلع المعارك بهذه السرعة، وكان هذا التوقع هو السائد لدى الأوساط العسكرية الليبية، وفي الواقع فلم نكن نحن فقط الذين فوجئنا باندلاع المعارك بهذا التوقيت ولكن -كما اتضح فيما بعد- كان مفاجأة لجميع القيادات السياسية والعسكرية العربية. كانت التوقعات السائدة في الشارع العربي أن القوات العربية ستحقق انتصارا ساحقا. وقد سبقت المعارك جملة من الحوارات والمناقشات بين الضباط في معسكر المرج، وكان الاعتقاد عند الأغلبية أن القوات العربية ستحقق نجاحا إذا ما احتفظت بعنصر المبادءة وتمكنت من الاستمرار في إدامته. ولكن كان لعدد من الضباط –كنت من بينهم- رأي مخالف ولا نتفق مع هذا التفاؤل[1]. كنا نعتقد بأن الحشد المصري في سيناء يأخذ شكلا دعائيا، وقد لا يكون وراءه أية إرادة أو استعداد حقيقي. وكنا نظن بأن اندلاع المعارك –إن حدث- سيكون بقرار إسرائيلي وليس العكس. وكنا نظن أيضا أن المعارك –في أحسن الظروف- ستستمر وقتا أطول مما حدث فعلا، وقد تكون معارك كر وفر على جبهة سيناء لطبيعة الأرض، ولن تتمكن القوات العربية من تحقيق نجاحات سريعة، وأفضل ما يمكنها تحقيقه هو تكبيد القوات الإسرائيلية خسائر جسيمة، لكن لا الدول الغربية ولا مجلس الأمن سيسمح للقوات العربية أن تطور أي نجاح تحققه، إن لم يكن هذا النجاح سريعا وخاطف، وهو أمر كان يبدو مستحيلا. وكن نعتقد أن تدخلا من الأممالمتحدة أو من الدول الكبرى سيوقف القتال. لكن لا أحد توقع الهزيمة على الإطلاق، ولا أحد فكر –حتى مجرد التفكير- أن تكون هزيمة بهذا الحجم. هذه التوقعات المختلفة كانت مؤسسة- بطبيعة الحال- على الانطباعات المتوافرة في الساحة العربية حول حجم وكفاءة القوات المسلحة المصرية تسليحا وأداء، وهي الانطباعات التي تمكنت أجهزة الدعاية المصرية من زرعها في الأذهان. كانت المبالغات آنذاك في وصف القوات المسلحة المصرية على أنها "أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط". كما قامت الدعاية المصرية بالمبالغة في حجم وكفاءة الأسلحة السوفيتية التي تسلحت بها القوات المصرية، وعلى سبيل المثال المبالغة الكبيرة التي وصفت بها منظومة صواريخ "القاهر و الظافر"، والمبالغات التي وصفت بها طائرات "الميغ" السوفيتية. لكن الواقع الذي كشفته الحرب أن الصواريخ المذكورة كانت تفتقر إلى وسائط التوجيه الدقيقة الأمر الذي جعلها سلاحا أعمى لا قيمة له، ولم تكن طائرات "الميغ" –الموجودة لدى مصر على الأقل- ندا لطائرات "الميراج"، بل إن السلاح الجوي المصري لم تتح له الفرصة لمواجهة الطائرات الإسرائيلية في الجو، وتم تدمير معظم طائراته وهي رابضة في العراء، ولم يكن للطائرات حظائر خرسانية تقيها الغارات المفاجئة. وكانت بمنظومة الرادارات المصرية فجوات اخترقتها المقاتلات الإسرائيلية ما أمكنها من تحقيق مفاجأة استراتيجية مذهلة، كما كانت الذبذبات التي تعمل عليها الرادارات مكشوفة لإسرائيل، مما مكنها من التشويش عليها، وعلى مثل هذا يمكن القياس على جميع مستويات التسلح. كذلك كشفت المعلومات التي توافرت بعد الحرب عن حجم الاختراق الهائل الذي تمكنت المخابرات الإسرائيلية من تحقيقه داخل أعلى مستويات القيادة في مصر و سوريا والأردن، خاصة في داخل قيادات السلاح الجوي المصري[2]، خاصة الجاسوس الإسرائيلي "باروخ نادل" والدور الذي قام به في تزويد إسرائيل بمعلومات جوهرية وحيوية، كما ساهم في شغل القيادات المصرية عن متابعة متطلبات المعركة، وتمكن من أن يكون بمثابة المستشار الذي تستأمنه القيادات المصرية على أسرار منظوماتها الحربية. و كان معروفا -حتى قبل الحرب- مقدار وخطورة التغلغل الإسرائيلي في أوساط الحكم السوري. قصة الجاسوس الإسرائيلي "إيلي كوهين" الذي تسمى باسم "كامل أمين ثابت" والذي تغلغل في أوساط القيادات السورية، وكان صديقا شخصيا للرئيس أمين الحافظ، بل وبلغ الأمر حد ترشيحه لتولي منصب نائب وزير الدفاع السوري. هذا الجاسوس زار الجولان، واطلع على كل خفايا وأسرار تمركز وتوزيع القوات السورية وتسليحها، كما اطلع على المواقع الدفاعية المجهزة بالهضبة، وقدم تقارير تفصيلية حول كل هذه المعلومات الحساسة. وقام أيضا بتقديم اقتراحات نفذتها القيادة السورية، أمكن من خلالها للقوات الإسرائيلية من تحديد مواقع القوات السورية بكل دقة سواء من الجو أو أثناء تقدمها لاحتلال المواقع الحصينة. في عام 1965 اكتشفت السلطات السورية أن كمال ثابت كان جاسوسا إسرائيليا واسمه الحقيقي "إيلي كوهين"، وذلك بمحض الصدفة حين التقطت أجهزة التصنت إشارات لاسلكية، وقامت أجهزة الاستمكان السورية بمتابعتها، وكانت المفاجأة القبض على رجل حظي بثقة كل القيادات السورية. قدم "إيلي كوهين" للمحاكمة وتم إعدامه. لكن السلطات السورية –على ما يبدو- لم تفعل شيئا خلال العامين التاليين لإحداث تغييرات على الأرض تؤدي إلى إلغاء أهمية المعلومات التي قدمها كوهين إلى إسرائيل، مما مكن القوات الإسرائيلية من الاستفادة القصوى من هذه المعلومات، الأمر الذي جعل مهامها ميسرة وفعالة [3]. وبدون شك فقد كانت نتائج الضربة الجوية الإسرائيلية مفاجأة استراتيجية. غامرت إسرائيل بالزج بمعظم طائرات سلاحها الجوي في تنفيذ هذه الضربة، وضاعف من نتائج الضربة الإخفاق العارم في مواجهتها والرد عليها. تمكنت القوات الجوية من تدمير السلاح الجوي المصري وهو رابض على المدارج، وألقت القاذفات حمولاتها من القنابل الموقوتة على مدارج المطارات ما جعلها غير صالحة للاستخدام مع تعذر ترميمها قبل التعامل مع القنابل الموقوتة. كان يمكن استيعاب الضربة نفسها، أو على الأقل تقليل نتائجها ومنع إسرائيل من استثمار الفوز بالطريقة التي تمت، خاصة وأن القيادة المصرية –كما اتضح فيما بعد- كانت قد اتخذت قرارا بعدم الشروع في العمليات وانتظار الضربة الإسرائيلية[4]، وهذا كان يرتب عليها إجراءات احترازية للتصدي للهجوم وتوقيه. لكن القيادة المصرية لم تتخذ أية إجراءات لتوقي هذه الضربة واستيعاب نتائجها والرد عليها. وكان الفشل العارم على كل الاتجاهات والجبهات في اكتشاف الطائرات المغيرة والتصدي لها، ثم في منعها -على الأقل- من العودة إلى قواعدها سالمة عن طريف تصدي القوات الجوية وقوات الدفاع الجوي الأردنية والسورية للطائرات الإسرائيلية في طريق عودتها إلى قواعدها، أو القيام بقصف هذه القواعد عندما كان الطيران الإسرائيلي برمته فوق سماء مصر. أدى فشل التنسيق بين الجبهات المصرية والسورية والأردنية، إلى تمكين إسرائيل من أن تحتفظ بسلامة طائراتها، وتعيد تموينها وتسليحها في زمن قياسي، ثم تكرر استخدامها ضد المطارات والقواعد السورية والأردنية، ثم ضد القوات البرية المصرية التي وجدت نفسها فجأة في العراء دون أي غطاء جوي. رشحت معلومات –حين ذاك- وتأكدت بعدئذ أن القيادة المصرية لم يقتصر تضليلها حول حقيقة مجريات المعارك الجوية والبرية على الرأي العام العربي، ولكنها ضللت شركاءها في الحرب (سوريا – الأردن)، وعلى أعلى المستويات[5] كل ذلك أدى إلى تحقق هذه النتائج الكارثية للضربة الجوية التي قررت مصير المعارك على جميع الجبهات. بعد أقل من ساعة من علمنا باندلاع الحرب أنهينا الامتحان الذي كنا نجريه للضباط، واتجهنا جميعا إلى مقر مدرسة المخابرة لمتابعة التطورات. وفي الواقع فلم يمض وقت طويل حتى تلقينا تعليمات تقضي بسرعة عودة كل الضباط المكلفين بمهام إلى وحداتهم، ومنهم الضباط الذين كانوا يتلقون الدورة التدريبية بالمدرسة. كان ضباط الجيش يتابعون المعارك منذ اندلاعها، وكنا في مدرسة المخابرة نتابع البلاغات العسكرية المصرية وهي تعطينا صورة لمقدمة انتصار ساحق، وكنا نتابع الإذاعة الليبية التي هي الأخرى كانت تذيع الأناشيد الحماسية بدون انقطاع، وكانت تنقل أيضا البلاغات العسكرية المصرية حرفيا كما تعلنها الإذاعة المصرية، وكنا نتابع أيضا إذاعة لندن وصوت أمريكا. ومنذ مساء الخامس من يونيو تولد شعور بين الضباط بالشك في البلاغات العسكرية المصرية التي كانت ترد تباعا عن طريق إذاعات القاهرة وصوت العرب والإذاعة الليبية، فقد كانت المبالغة واضحة، علاوة على التناقض بين البلاغات نفسها. وعزز من هذا الشعور ما كان يرد من الإذاعات الغربية والمحايدة من أنباء عن سير المعارك يخالف بطريقة جوهرية ما كان يصدر عن القيادة المصرية. وكان لدينا تساؤل حول دور القيادة العربية المشتركة، ولماذا لم نسمع شيئا عن هذه القيادة. إلى جانب المتابعات والتقييمات، كانت المشاعر متأججة، وكانت الرغبة عارمة لدى الجميع في التعجيل بدخول القوات الليبية إلى المعركة، هذا ولم تمر على بداية المعركة إلا ساعات، وكان بعض الضباط يستعجل أيضا في وضع اللوم في التأخر على الحكومة الليبية ورئاسة الأركان[6]. كانت أخبار المظاهرات في مختلف المدن الليبية خاصة في بنغازي وما صاحبها من عنف قد وصلتنا وزادت في تأجيج مشاعر الجنود والضباط، بل إن إشاعة انتشرت بين الجنود تقول بأن قوات الأمن قد استخدمت الرصاص للتصدي للمظاهرات في بنغازي، وكان لهذه الإشاعة تأثير سيئ جدا، ولكن أمكننا أن نعرف حقائق ما جرى في بنغازي عن طريق اتصالات أجراها بعض الضباط وعرفنا أن قوات الأمن لم تتدخل على الإطلاق. وبالرغم من ضرورة القرار الذي اتخذته الحكومة بإعلان حالة الطوارئ وحظر التجوّل في البلاد ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر، إلا أن هذا القرار كان مثار انتقاد من بعض الضباط[7]. وفي الواقع فإن إجراءات الحكومة ورئاسة أركان الجيش كانت تقابل من قبل بعض الضباط باستخفاف، وكانت تفسر تفسيرات سيئة في أغلب الأحوال. انتشر خبر إصدار القيادة المصرية أوامرها للقوات في سيناء بالانسحاب إلى "خطوط خلفية"، انتشار النار في الهشيم، وكان مثارا لدهشتنا. ففي حين كانت البلاغات العسكرية الصادرة عن القيادة المصرية تدعي تكبيد القوات الإسرائيلية خسائر كبيرة خاصة في الطيران، وتدعي تقدم القوات المصرية على مختلف محاور الجبهة مع إسرائيل، فقد كان صدور أوامر الانسحاب يتناقض مع الصورة التي رسمتها البلاغات العسكرية السابقة. كانت تفسيرات بعض الضباط، أن هذا انسحاب تكتيكي للقيام بهجوم عام[8]، وكنا نعرف أن سيناء كلها لا تتوافر فيها مواقع طبيعية تصلح لتمركز القوات المدافعة إلا عند منطقة الممرات (ممرات متلا والجدي)، ولم يكن هناك ما يفيد أن القوات المصرية قد جهزت مواقع دفاعية في أية منطقة أخرى من سيناء لأن القوات المصرية لم تدخل سيناء إلا بعد رحيل قوات المراقبة الدولية. توقعنا –في ذلك اليوم- أن الانسحاب سيكون إلى خط (ممرات ميتلا والجدي) ولن يتعداه، فهما في الواقع الخط الأخير الصالح للدفاع عن قناة السويس ووادي النيل، وأيضا الخط الأخير الذي يمكن منه شن هجوم مضاد، وهذا يعني أن القوات المصرية تتحول من وضع الهجوم إلى وضع الدفاع بسبب حدوث أمر ما، كذلك فإن الانسحاب إلى الممرات يعني إعطاء مجال كبير من الأراضي للعدو بما في ذلك قطاع غزة الذي كان تحت السيطرة المصرية. ولكن كل هذا كان من قبيل التخمين، ولم يكن يستند على معلومات واضحة، كما أنه لا يفسر لماذا أصدرت القيادة المصرية الأمر بانسحاب قواتها إذا كانت فعلا في الموقف الذي تصوره بلاغاتها العسكرية. زاد من شكوكنا في هذا القرار محاولات الإذاعة المصرية تبريره على أنه انسحاب تكتيكي، وكذلك ما بتنا نسمعه من استخدام القيادة المصرية للإذاعة لتوجيه تعليمات كودية إلى وحدات تطالبها بالعودة إلى قواعدها، هذا كان يعني أن القيادة قد فقدت الاتصال بهذه الوحدات. كان كل معسكر من معسكرات الجيش يديم اتصالاته المباشرة مع رئاسة الأركان وبقية المعسكرات عن طريق أجهزة لاسلكية كانت تدعى "المحطات الثقيلة"، وكانت الأجهزة تستخدم الاتصالات الصوتية فقط، كما كانت رئاسة الأركان والوحدات تستخدم "الشفرة" في رسائلها المكتومة، وكانت دائرة المخابرة المستخدمة بسيطة وغير معقدة. وبالرغم من أن هذه الأجهزة قديمة إلا أنها تتمتع بكفاءة عالية وتعمل على مدار الساعة ونادرا ما يحدث فيها عطل. كان الجهاز التابع لمعسكر المرج ملحقا بمدرسة المخابرة وقريبا من المقر. منذ إعلان حالة الطوارئ في الأسابيع الأخيرة من مايو، حرصت على أن أتفقد –بصورة يومية-موقع الجهاز لأتأكد من عمل "المفرزة" العاملة به. وعندما بدأت الاشتباكات، كثفت من زياراتي للجهاز، وخلال اليوم الأول من الحرب كان حجم الاتصالات كبيرا جدا فقمنا بتخصيص جنود إضافيين للمساعدة. كانت الاتصالات مستمرة بين رئاسة الأركان ومختلف الوحدات. و كان واضحا أن رئاسة الأركان كانت تتوقع أن يسمح للقوات الليبية بالدخول إلى مصر في أي لحظة، لذلك أصدرت رئاسة الأركان –منذ الساعات الأولى للاشتباكات- تعليمات ترفع من جاهزية وحدات اللواء الأول للتحرك، كما تضع اللواء الثاني في وضع التأهب للدفع ببعض وحداته إلى المنطقة الشرقية. بعد منتصف الليل بساعات توجهت إلى غرفتي للنوم بعد يوم طويل عصيب، تقلبنا فيه بين التبشير بنصر كاسح وبوادر هزيمة كانت تلوح. استمر عدد من الضباط في متابعة الأخبار، ومتابعة تقييمها، وقد جرى إعداد "خارطة موقف" مؤسسة على المعلومات التي نستخلصها من الإذاعات. كانت المشاعر في قمة التأجج، وكانت تقييمات ما نسمع متناقضة تناقض ما نسمعه من الإذاعات المختلفة. في طريقي إلى غرفتي، قررت أن أمر على غرفة الجهاز اللاسلكي، فأخبرني الجنود أنهم قد تلقوا لتوهم برقية من رئاسة الأركان موجهة إلى حامية المرج بالاستعداد الفوري لاستقبال المتطوعين وإعداد مراكز لتدريبهم، وكانت البرقية تشير إلى أن علينا أن نتوقع مئات المتطوعين. كان الجنود يكتبون البرقية على النموذج الخاص تمهيدا لإرسالها إلى مقر الحامية. وللحديث بقية إن شاء الله -------------------------------------------------------------------------------- [1] كان هذا الرأي مؤسسا على أن تشكيلات كبيرة من القوات المصرية موجودة في اليمن، من ناحية، مما يضعف الجهد العسكري المصري. وكان الحشد المصري في سيناء قد تم بطريقة إعلامية دعائية غابت عنها الحرفية العسكرية. علاوة على ذلك فقد كلن لبعض الضباط من معسكر المرج تجارب شخصية في الاحتكاك ببعض الضباط المصريين، كونوا من خلالها انطباعات سلبية حول الروح المعنوية للجيش المصري، وقدراته القتالية، وكذلك حول مستوى الانضباط والتدريب وغيرها من الأمور المؤثرة. [2] صدرت مؤلفات عديدة حول هذا الاختراق، ولا شك أن بعضها من قبيل الحرب النفسية، لكن هناك مؤلفات كثيرة قدمت معلومات وحقائق تدل على صحة المزاعم القائلة بهذه الاختراقات. يمكن الاطلاع على كتاب "وتحطمت الطائرات عند الفجر" الذي كتبه "باروخ نادل" عميل "الموساد" الذي كان يعمل في مصر لمدة 14 سنة، وتمكن من الوصول إلى أعلى مستويات القيادة المصرية، خاصة في الطيران. ويروي كيف تمكن من تزويد إسرائيل بمعلومات استراتيجية عن القوات المصرية، خاصة الطيران والمطارات الحربية، ويروي أيضا قصة السهرة العجيبة التي رتبها هو و حضرها عدد كبير جدا من ضباط سلاح الطيران المصري في الليلة التي سبقت الضربة الجوية الإسرائيلية واستمرت السهرة حتى الرابعة فجرا، وكيف تمكن هو من مغادرة مصر على متن الخطوط التركية صبيحة الخامس من يونيو، واصفا المنظر الذي رآه من الجو بعيد إقلاع الطائرة للدخان وهو يغطي سماء القاهرة من المطارات المحترقة -خاصة مطار ألماظه الحربي- نتيجة للغارة الجوية الإسرائيلية التي تمت الساعة الخامسة فجرا. هذا العميل الإسرائيلي يروي تفاصيل تدل على استهتار القيادات المصرية بأبجديات الأمن القومي، وبالرغم من إمكانية تصنيف بعض ما جاء في كتابه على أنها مبالغات تقع في دائرة الحرب النفسية، لكن لا يمكن تجاهل معظم ما جاء في كتابه، خاصة وأن هناك ما يسندها مما كشفت عنه الأوساط المصرية في أوقات لاحقة. [3] قصة الجاسوس الإسرائيلي "إيلي كوهين" بدأت من الأرجنتين حين تغلغل في أوساط الجالية السورية هناك على أنه رجل أعمال سوري اسمه "كامل أمين ثابت"، وتمكن من أن يقيم علاقات وثيقة مع "أمين الحافظ" الذي كان يشغل منصب الملحق العسكري السوري في السفارة السورية في بوينيس آيريس،. وتمكن من الذهاب إلى سوريا وإدامة وتجديد علاقاته مع صديقه "اللواء أمين الحافظ" وغيره من قيادات حزب البعث، وبعد تولى أمين الحافظ الرئاسة في سوريا تعززت مكانة " كمال ثابت" وغدا منزله مكانا يؤمه كبار رجال الدولة مما مكنه من أن يتغلغل في أوساط القيادات السورية ويصبح مستودع أسرار عدد كبير من الأسماء الهامة والحساسة في المجتمع السوري. وتمكن من خلال موقعه وصلاته من الحصول على معلومات دقيقة تفصيلية، نقل جزءا كبيرا منها، ويا للسخرية، من خلال برنامج كان يقدمه من الإذاعة السورية، ونقل الباقي باستخدام أجهزة لاسلكية. ومما نقله معلومات سرية تفصيلية عن القناة التي تشقها الحكومة السورية بطول مرتفعات الجولان بهدف استقبال المياه المحولة من نهر بنياس «أحد أهم مصادر المياه في الأردن». الأمر الذي مكن القوات الجوية الإسرائيلية من ضرب كافة المعدات المستخدمة في شق القناة وإنهاء المشروع. وقد تمكن –بمرافقة قيادات سوورية- من زيارة هضبة الجولان التي كانت أخطر المواقع الاستراتيجية السورية التي تحاط بسرية بالغة ولا يدخلها سوى كبار القادة العسكريين وتحصل على أهم الأسرار عن مواقع القوات والتحصينات والتسليح، بل إنه اقترح على القيادة السورية زراعة مناطق تمركز القوات السورية بالأشجار لإخفاء هذه المواقع ولتضليل الإسرائيليين وإظهار الهضبة كما ولو كانت غير محصنة ، وأعجبت القيادة السورية بالفكرة ونفذتها، فشكلت هذه المواقع المشجرة أفضل تحديد لمواقع القوات والتحصينات السورية، ولم تنتبه القيادة السورية لهذه الخدعة إلا بعدما رأت كيف كان استهداف إسرائيل المباشر لهذه المواقع. [4] بل إن مقال محمد حسنين هيكل الأسبوعي في الأهرام "بصراحة" يوم الجمعة التي سبقت اندلاع المعارك، كان يكشف بكل صراحة عن نوايا القيادة المصرية بأن لا تكون البادئة في الهجوم. بعض ضباط الجيش الليبي اعتبر ذلك –في حينه- مناورة من القيادة المصرية، أو خبطة من خبطات هيكل الصحفية. لكن اتضح فيما بعد أن قرارا اتخذ على أعلى المستويات بالخصوص، وهو القرار الذي حاول الرئيس عبد الناصر التملص منه حين ادعى أنه أخبر القيادة العامة للقوات المصرية أنه يتوقع أن تهاجم إسرائيل في الرابع أو الخامس من يونيو، كما قال –في وقت لاحق- بأن السفيرين الأمريكي والسوفيتي طلبا منه ألا يكون البادئ بالهجوم، وأنه تلقى هذا الطلب عدة مرات، كان آخرها من السفير الأمريكي في مساء الرابع من يونيو، ومن السفير السوفيتي الساعة الثالثة صباح الخامس من يونيو أي قبل الضربة الإسرائيلية بساعتين، ما يعني أن الاستعدادات الإسرائيلية كانت في مراحلها النهائية، الأمر الذي ما كان ليغيب عن مخابرات دولتين عظميين. فهل كانت القيادتان السوفيتية والأمريكية تمارسان تضليلا مشتركا، أم أن كلا منهما كان يعمل بطريقة منفردة. ؟ !!!. ثم هل استغلت القيادة المصرية تدخلات السفيرين وطالبت بضمانات؟ أعتقد أنها لم تطلب شيئا، وأنها قد تصرفت بغباء وإهمال يقترب إلى الخيانة. [5] من ذلك برقية الرئيس عبد الناصر إلى الملك حسين التي يخبره فيها بأن القوات المصرية قد قضت على ثلثي الطائرات الإسرائيلية، وهي برقية التقطتها الإذاعة الإسرائيلية، وكررت إذاعتها عدة مرات. [6] اتضح فيما بعد أن السلطات المصرية لم تسمح بدخول القوات الليبية، كما سنبين لاحقا. [7] فقد كان قرارا له ما يبرره، وكان يجب أن يحظى بتفهم على الأخص من ضباط الجيش، الذين هم أكثر من يدرك أهمية أمن البلاد في حالات الحرب، ولكن هذا يكشف حالة الانفصام السائدة بين الجيش والحكومة. [8] هذه التفسيرات كانت لا تستند على شئ إلا العاطفة، وكانت في الواقع من قبل ضباط معروفين بميولهم الناصرية.