صناعة الصور الألكترونية وتسويقها لأغراض دعائية وسياسية، في القرن الأخير من تاريخ البشرية، فرضت صياغة جديدة للعقل الإنساني ومن ثم غيرت الكثير من مظاهر السلوك الإجتماعي والسياسي، فالصور في حياة البشر ترتبط بالرؤية، تلك الموهبة الذهنية التي منحها الباري عز وجل الكثير من الكائنات الحية، وفي مقدمتها بالطبع الانسان،الكائن العاقل المفكر المبدع، فالبصر نافذة العقل، إذ أقترنت، منذ الازل، الحكمة بالبصيرة، وقد استخدم القدماء الصورة للدعاية للملوك و الاديان، كما هو موضح في حضارات وادي الرافدين والفراعنة والاغريق والرومان، كما استخدمت الصور في العصور الوسطى للغرض نفسه، في داخل المعابد و الكنائس. وكان الإنسان يلجا الى الرسم و النحت لإبداع الصور الحقيقية و الخيالية، حتى اخترعت آلة التصوير (الفوتغرافي) التي قربت الصورة من الواقع، وجعلتها تبدو اكثر مصداقية، بيد انها ظلت صورة جامدة بلا حياة، ثم ظهرت السينما في اواخر القرن التاسع عشر، فزادت من تاثير الصورة، واضافت اليها الصوت والحركة واللون، فيما بعد، واصبح متاحا تصوير الحوادث والقصص ونقل مشاهد من الحياة الانسانية ومن الطبيعة، بطريقة مؤثرة جذابة، وعند اختراع المذياع الصوتي (الراديو) في بداية القرن العشرين استطاع الإنسان، لأول مرة، نقل الصوت الى مسافات بعيدة جدا بسرعة الضوء، عن طريق الموجات الكهرومغناطيسية. ثم جاء التلفزيون، مثل المصباح السحري، لتندمج في شاشته الوسائل السمعية والبصرية، ويستطيع نقل الاحداث، عبر الاثير، في لحظة وقوعها وكأنها نافذة يطل من خلالها الانسان على صور الحياة البشرية والطبيعية الواسعة والكون اللامتناهي وهو جالس بين جدران غرفته، منعزلا ومتواصلا مع الاخرين في الوقت ذاته. التلفزيون، ذلك الابتكار الانساني المدهش، مر منذ منتصف القرن العشرين بمراحل من التطور التقني ابرزها استخدام الصورة غير الملونة (الاسود والابيض) ثم اخترعت انظمة البث الملون،ولم يكتف التلفزيون بتسجيل الاحداث وعرضها، بل استطاع نقلها فورا بصورة حية فتفوق على كل وسيلة اتصالية اخرى من حيث السرعة والحيوية في نقل الصور والاحداث، بيد آن البث التلفزيوني ظل محدود المسافة لان موجاته الدقيقة لم تكن تمتد الى أبعد من مائة كيلو متر إلا باستخدام محطات إعادة البث والتقوية، وعندما استخدمت الاقمار الاصطناعية في تقوية واعادة البث عبر الفضاء، الى مساحات شاسعة من الكرة الارضية أصبح العالم يعيش عصر البث الفضائي الذي كان استلامه يتم عن طريق المحطات الارضية ذات الاطباق الضخمة، ثم سرعان ما تحول الى البث المباشر منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، واستطاع المشاهد أن يلتقط عن طريق طبق لايزيد قطره عن مترين مئات المحطات التلفزيونية. ذلك هو الموضوع الرئيسي الذي يطرحه الباحث العراقي الدكتور محمد فلحي في كتابه الموسوم (صناعة العقل في عصر الشاشة) موضحا دور وسائل الإتصال الألكتروني في المجتمع المعاصر. ويشير المؤلف الى أن من أبرز التطورات في اجهزة الاستقبال المرئي هي التفاعل والمشاركة بين المرسل والمتلقي، فضلا عن التحسن المستمر في نوعية الصورة ودقتها والتحكم في مواصفات الشاشة، وقبل ذلك كله القدرة على الاختيار والتنقل (ان لم نقل الابحار) ما بين موجات الاف المحطات ومواقع البث الرقمي، وقد كان المشاهد التلفزيون في اغلب دول العالم حتى وقت قريب اسير عدد محدود من محطات البث الوطنية او المحلية وفي بعض الدول الفقيرة لا تتوفر حتى محطة بث واحدة لكن البث الفضائي المباشر ادى الى انهيار الحواجز الجغرافية والسياسية وتوفرت للمشاهد فرصة استقبال عدد كبير من المحطات التلفزيونية في اللحظة نفسها، وفي احدث انواع اجهزةالاستقبال الفضائي (الستلايت) الرقمي يمكن استلام نحو500 محطة تلفزيونية مجانية مفتوحة ويمكن زيادة العدد الى 1000 محطة من خلال الاشتراك في محطات اخرى (مشفرة) عن طريق اقتناء (بطاقات ممغنطة) توضع في جهاز الاستقبال. ان اقتناء اجهزة الاستقبال الفضائي اصبح مسموحا به في الغالبية من دول العالم، رغم المحاذير السياسية والاخلاقية التي ما تزال تبديها دول اخرى، لكنها قليلة، كما ان اسعار تلك الاجهزة انخفضت بشكل ملحوظ بحيث لم تعد شحة المال لدى محدودي الدخل في الدول النامية تمثل مانعا امام مشاهدة البث التلفزيوني الفضائي، الذي كان من الكماليات والامنيات البعيدة،فأصبح من الضروريات المطلوبة. البث المرئي يمثل اليوم صناعة توظف فيها مليارات الدولارات عبر العالم، سواء في مجال التنفس في تصنيع أجهزة البث أو الإستقبال أو صناعة البرامج والصور التي يمتزج فيها الواقع بالخيال، وليس لدى هؤلاء الذين يصنعون اليوم عقولنا وأفكارنا واحلامنا سوى هاجس الربح المالي، إذ أن الرأسماليين والتجار يديرون المحطات والمصانع، ويوظفون تلك الماكنة افعلامية الضخمة لتمجيد الحكام وغضفاء البريق الزائف على وجوههم من أجل الإحتفاظ بكرسي السلطة أطول مدة ممكنة، على حساب آلام الفقراء والمحرومين، الذين يتطلعون بحسرة الى الشاشة الملونة، فتسري الصور البراقة كالمخدرات في أذهانهم المرهقة. لا بد لهذه المزايا والتطورات التقنية التي يشهدها البث التلفزيوني أن تثير الكثير من التساؤلات في عقول الباحثين بشان تأثيرات التلفزيون ودوره في حياة الإنسان المعاصر، وانعكاساته على سلوكه الإجتماعي وطباعه النفسية، ومن بينها بالطبع السلوك السياسي، ولعل من أبرز ألأسئلة المطروحة في هذا الصدد، ما علاقة التلفزيون بالسلطة، وكيف ينبغي أن تكون هذه العلاقة، وما الوظائف والأدوار السياسية التي يمكن أن يؤديها، وكيف يعمل التلفزيون على صياغة رسالته الإعلامية والسياسية وما التأثيرات الناجمة عنها ؟! واذا كان احد الباحثين قد وصف وسائل الاتصال ب (الجهاز العصبي) للحكومة والسلطة في المجتمع، فان باحثا اخر نجده يصف محطات التلفزيون بأنها (قنوات السلطة)، وقد جاءت هذه التسمية من ادراك حقيقة الدور الذي بات يلعبه التلفزيون في الحياة بعامة،وفي المجال السياسي بخاصة، ويقول المؤلف :(إن هذا الموضوع قد اخذ حيزا واسعا في تفكيري، منذ سنوات عدة، وراح يمتزج مع اهتماماتي وتخصصي الإعلامي، وخبرتي في الكتابة للإذاعة والتلفزيون،وكان من ثمرة ذلك الإهتمام أن حصلت على شهادة الدكتوراه عن الأطروحة الموسومة (الوظيفة السياسية للتلفزيون)، ولابد أن أوكد هنا إن هذا الكتاب يستند في اغلب فصوله الى تلك الأطروحة التي أعيدت صياغتها، ثم أضيفت إليها أفكار ومعلومات وفصول جديدة، وبخاصة الفصلين الرابع والخامس اللذين يتعلقان بالاستخدامات الإعلامية لشبكة الانترنيت). ويؤكد المؤلف على أن أهم الخصائص التي منحت التلفزيون قدرته الهائلة على التأثير النفسي هي الترابط بين الصوت والصورة المتحركة، ثم أضيفت اليها تأثيرات اللون والسرعة (أوالفورية) في نقل الأحداث، عبر النقل الحي لها، مما جعل التلفزيون يبدو كأنه نافذة يطل من خلالها الإنسان لرؤية العالم. ومن الواضح أن التلفزيون باتن يفرض علينا طريقة لإدراك المرئيات، فيجعل اللقطات المأخوذة عن قرب، أو المناظر الشاملة المصغرة تتوالى، فهو يكبر أو يصغر، ولكنه لايترك لنا مطلقا حرية أن نختار بأنفسنا بين ما هو أفضل أو ما هو أساسي وغيره. ويمكن أن نطلق على هذه العملية (خلق الواقع التلفزيوني) المصنوع بدلا من الواقع الحقيقي الذي يمكن إدراكه من قبل الإنسان بحواسه مباشرة، وأن هذه القدرة العجيبة على التمويه أو على الإبراز، وعلى تقديم الاشياء عن قرب، أو عن بعد، تحول دون الموضوعية، فالحيز الذي تعكسه الشاشة الصغيرة تقوم (الكاميرا)بتجزئته أو تشويهه أو إبرازه بطريقة متحيزة، ونجد ةالعيب نفسه فيما يتعلق بزمن الحدث الذي يستغرق مدة طويلة، فالتلفزيون لايحتفظ الابلحظات ينتقيها يقوم بربطها بعد ذلك حسب مايريد فالتقرير التلفزيوني ليس إلا منتخبا من واقع الحدث لا الحدث كله، ويرى بعض علماء الاجتماع، عن حق، أن تقطيع الشريط التلفزيوني وتركيبه (عملية المونتاج) التي تجعل الواقع أكثر جاذبية، تؤدي بلا شك الى تشويهه. وعلى الرغم من أن النقل التلفزيوني المباشر (الحي)للأحداث، في لحظة وقوعها قد أضفى على التلفزيون (مصداقية)لا يمكن أن تنافسه فيها وسائل ألإعلام الأخرى، غير أن الحقيقة لايمكن أن توجد دائما في كل ما نشاهده عبر التلفزيون، فعملية إنتقاء الحدث الذي يستحق التغطية التلففزيونية المباشرة تضعف من المصداقية، لأنها تعبر عن إنحياز مسبق من جانب المسؤولين في التلفزيون، كما أن ما يشاهد من خلال عدسات التصوير التلفزيونية لا يمثل إلا جزءا من الصورة الحقيقية، التي يمكن أن يراها المرء في موقع الحدث، ومن جانب آخر فإن التلفزيون يمكن أن يقدم الصور بطريقة أكثر وضوحا وقربا للمشاهدين من الواقع الحقيقي، وتظهر هذه الصفة في الأحداث السياسية والإحتفالات والمهرجانات والحروب والمباريات الرياضية، فالذين يحضرون موقع الحدث، على الرغم من أنهم يتابعون المشهد بأكمله، إلا أن بصرهم قد لا يستطيع الوصول الى أماكن وزوايا معينة، ولا يمكن أن يتفحصواعن قرب تفاصيل وملامح المشاركين في الحدث، لكن التلفزيون بعدسات(كاميراته) التي تقرب وتبعد وتوقف الصورة، وإنارته المبهرة، والتعليق الذي يصاحب الصورة، يستطيع أن يقدم (حقيقة تلفزيونية) تبدو أكثر إثارة من الحدث الحقيقي نفسه، وهو ما يسمى ب(مسرحة الحدث)من خلال إقتناص الصور الخلابة وإضفاء طابع درامي على بعض الأحداث البسيطة،وجذب إنتباه المشاهد من خلال التعليق الذي يقدمه المذيع للربط بين اللقطات، بيد أن هذا الفارق بين (الحدث المتلفز) والواقع الملموس يتضاعف، حين يلجأ، عن قصد، الى (الحيل التلفزيونية)، فالشاشة الصغيرة تتحول حينئذ الى أداة للكذب، لذا يمكن القول إن العالم الذي يأتي الى منازلنا عبر الموجات التلفزيونية (الكهرو مغناطيسية) ليس إلا شبح الواقع أو ظله. ومع ذلك، فإن المبالغة في مسرحة الأحداث، من خلال التلفزيون، تعد عنصرا من العناصر الأساسية لتجريد الحياة من واقعها، ولكنها لا تخلو من النواحي الايجابية، في، أحيان كثيرة، فالبرامج التعليمية التي تجعل من المعارف الصعبة سهلة الفهم بتقديمها على شكل مشاهد حية تتميز بجذبها للانتباه، وذلك بخلق جو إنفعالي جديد، مع أن هذه الميزة قد تؤدي أحيانا الى تشويه الواقع واحداث إختلال عاطفي. وعندما يتعمد التلفزيون التلاعب بالحقائق من خلال عدم التوازن والابتعاد عن الموضوعية والحياد في نقل الاخبار، فإن الأمر يبدو أكثر خطورة بدون شك! ولا ريب في أن إمكانية التلفزيون في مزج الواقع بالخيال، قد أتاحت في أيدي المسيطرين عليه إستخدامه لأغراض دعائية أو سياسية من خلال تشويه الحقائق أو التلاعب بالمنطق وتقديم صورة زائفة عن الواقع الحقيقي. وفي ضوء ذلك، يمكن القول إن التلفزيون أصبح يلعب دورا واضحا في تكوين ( الصورة الذهنية ) عند الأفراد عن الدول والمواقف والأحداث، بل يمكن القول أيضا إنه يؤثر في الطريقة التي يدرك فيها الناس الأمور، والطريقة التي يفكرون بها، وفي سلوكهم نحو عالمهم الذي يعيشون فيه. ويتناول المؤلف علاقة التلفزيون بالسلطة مؤكدا أن التلفزيون ينظر إليه في أغلب دول العالم على أنه أداة بيد السلطة، تستخدمها لتحقيق أغراضها السياسية والإقتصادية، وتفرض عليها سيطرة مباشرة وغير مباشرة وبالطبع، فإن سيطرة الحكومات أو تدخلها في عمل المحطات التلفزيونية لا يمكن أن يأخذ شكلا واحدا، إذ فرضت الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية صيغا متنوعة من العلاقات بين المؤسسا ت السياسية والإعلامية، في مختلف دول العالم. تآليف: *الدكتور محمد فلحي (كاتب عراقي مقيم في ليبيا/جامعة عمر المختار) اصدار: دار الثقافةللنشر و التوزيع/ عمان2003 عدد الصفحات: 175 قطع متوسط