ابداع في الامتحانات مقابل حوادث مروعة في الطرقات.. «الباك سبور» يثير الجدل    منها 617 م.د بيولوجية...عائدات تصدير التمور ترتفع بنسبة 19،1 ٪    بعد القبض على 3 قيادات في 24 ساعة وحجز أحزمة ناسفة ..«الدواعش» خطّطوا لتفجيرات في تونس    فضيحة في مجلس الأمن بسبب عضوية فلسطين ..الجزائر تفجّر لغما تحت أقدام أمريكا    هل تم إلغاء حج الغريبة هذا العام؟    شهداء وجرحى في غارات للكيان الصهيونى على مدينة رفح جنوب قطاع غزة    كأس تونس .. بنزرت وقفصة يعبران ولقاء جرجيس و«البقلاوة» يلفت الأنظار    أخبار الترجي الرياضي .. أفضلية ترجية وخطة متوازنة    وزير الشباب والرياضة: نحو منح الشباب المُتطوع 'بطاقة المتطوع'    انتخاب يوسف البرقاوي وزكية المعروفي نائبين لرئيس المجلس الوطني للجهات و الاقاليم    رئيس الجمهورية يُشرف على افتتاح معرض الكتاب    القصرين..سيتخصّص في أدوية «السرطان» والأمراض المستعصية.. نحو إحداث مركز لتوزيع الأدوية الخصوصيّة    بكل هدوء …الي السيد عبد العزيز المخلوفي رئيس النادي الصفاقسي    هزيمة تؤكّد المشاكل الفنيّة والنفسيّة التي يعيشها النادي الصفاقسي    تعاون تونسي أمريكي في قطاع النسيج والملابس    عاجل/ محاولة تلميذ الاعتداء على أستاذه: مندوب التربية بالقيروان يكشف تفاصيلا جديدة    حجز أطنان من القمح والشعير والسداري بمخزن عشوائي في هذه الجهة    معرض تونس الدولي للكتاب يعلن عن المتوجين    وزارة الصناعة تفاوض شركة صينية إنجاز مشروع الفسفاط "أم الخشب" بالمتلوي    القيروان: الأستاذ الذي تعرّض للاعتداء من طرف تلميذه لم يصب بأضرار والأخير في الايقاف    قيس سعيد يعين مديرتين جديدتين لمعهد باستور وديوان المياه المعدنية    ارتفاع حصيلة شهداء قطاع غزة إلى أكثر من 34 ألفا    الوضع الصحي للفنان ''الهادي بن عمر'' محل متابعة من القنصلية العامة لتونس بمرسليا    حالة الطقس خلال نهاية الأسبوع    لجنة التشريع العام تستمع الى ممثلين عن وزارة الصحة    حامة الجريد: سرقة قطع أثرية من موقع يرجع إلى الفترة الرومانية    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 5 آخرين في حادث مرور    انتخاب عماد الدربالي رئيسا للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    عاجل/ كشف هوية الرجل الذي هدّد بتفجير القنصلية الايرانية في باريس    انطلاق معرض نابل الدولي في دورته 61    الصالون الدولي للفلاحة البيولوجية: 100 عارض وورشات عمل حول واقع الفلاحة البيولوجية في تونس والعالم    تخصيص 12 مليون م3 من المياه للري التكميلي ل38 ألف هكتار من مساحات الزراعات الكبرى    نقابة الثانوي: وزيرة التربية تعهدت بإنتداب الأساتذة النواب.    برنامج الجلسة العامة الافتتاحية للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    حادثة انفجار مخبر معهد باردو: آخر المستجدات وهذا ما قررته وزارة التربية..    كأس تونس لكرة السلة: البرنامج الكامل لمواجهات الدور ربع النهائي    انزلاق حافلة سياحية في برج السدرية: التفاصيل    تواصل حملات التلقيح ضد الامراض الحيوانية إلى غاية ماي 2024 بغاية تلقيح 70 بالمائة من القطيع الوطني    كلوب : الخروج من الدوري الأوروبي يمكن أن يفيد ليفربول محليا    بطولة برشلونة للتنس: اليوناني تسيتسيباس يتأهل للدور ربع النهائي    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني    عاجل/ بعد تأكيد اسرائيل استهدافها أصفهان: هكذا ردت لايران..    توزر: ضبط مروج مخدرات من ذوي السوابق العدلية    عاجل: زلزال يضرب تركيا    انتشار حالات الإسهال وأوجاع المعدة.. .الإدارة الجهوية للصحة بمدنين توضح    رئيس الدولة يشرف على افتتاح معرض تونس الدّولي للكتاب    تجهيز كلية العلوم بهذه المعدات بدعم من البنك الألماني للتنمية    المنستير: ضبط شخص عمد إلى زراعة '' الماريخوانا '' للاتجار فيها    القيروان: هذا ما جاء في إعترافات التلميذ الذي حاول طعن أستاذه    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    غادة عبد الرازق: شقيقي كان سببا في وفاة والدي    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سلسلة في البناء: الرّسالة السّابعة: البديل الاقتصادي

ليس للمرء أن يكون خبيرا اقتصاديا ليفقهَ هذا الملفّ أو يطرح بدائل، غير أنّ معالجة هذه المسألة تلحّ على كلّ من يريد الإصلاح، دون التفات إلى الذين يتّهموننا أنّنا لا نمتلك بدائل للتّحدّيّات الحقيقيّة للبلاد وللمصاعب الأساسيّة لها، كما ينسبون لنا أنّنا تخصّصنا في المطالبة بالإصلاحات الدّينيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة دون غيرها، ولأبيّن أنّ هذه المبادرة لا تهمل في سعيها للإصلاح هذا الملفّ المهمّ، وأنّنا حين ندعو إلى الإصلاح بالإسلام فإنّنا نستهدف حلّ كلّ ملفّات البلد دون استثناء، وليعلم هؤلاء الذين أدمنوا على تحقير ثوابتنا وهويّتنا أنّهم في وادي والتّاريخ الزّاحف نحو الحلّ الإسلاميّ الذي نبشّر به في واد آخر...
فشل التّجربة الاقتصاديّة الغربيّة والمستقبل للاقتصاد الإسلامي البديل:
إنّ الغربيّين المنصفين أعلنوا ما يسرّه السّياسيّون وانتقدوا اقتصاد السّوق وبشّروا بالاقتصاد الإسلاميّ البديل بعد مرارات التّجارب الأخرى المرّة الفاشلة، وإنّ من بين من بشّر بهذا الأستاذ الاقتصادي الكبير الحائز على جائزة نوبل "موريس آليه" الذي وصلت به أبحاث تحقيق التّوازن في الاقتصاد إلى خلاصتين اقترب بهما إلى القيم الإسلاميّة، الأولى أن تكون معدّل الضّرائب في حدود 2 بالمائة وهذا أقرب شيء لنسبة الزّكاة، وثانيهما أن تكون قيمة معدّل الفائدة قريبة للصّفر، وهو ما يفيد إلغاء الرّبا، وهذا ما تعمل به أغلبيّة بنوك اليابان!!!
إنّ النّظام الاقتصادي اللّيبراليّ العالميّ انتهت أغراضه عمليّا كما تبيّن فشل اللّيبراليّة نظريّا وأخلاقيّا وصارت جزءا مظلما من مراحل التّاريخ البشري الشّارد عن ربّه، وما أمدّه بحبال مزيد من الانتعاش إلاّ الوضع العربيّ والإسلاميّ الموبوء بالاستبداد والتّبعيّة والهشاشة والتّمزّق والتّحارب، فغذّوا الاقتصاد الأميركيّ بشرايين الحياة سيطرتها على الاقتصاد العالمي الذي استشرى بعد الحرب العالميّة الثّانية، ثمّ بولاء الأنظمة العربيّة لها والخضوع لكلّ مخطّطاتها وبيع نفطها بأزهد الأسعار منذ سبعين عاما ولو بتصنيع الحروب فيما بينها ابتداء من عام 1990 في حرب الخليج الأولى لتستحوذ على ثرواته الضّخمة وسوقه الاستهلاكيّة الكبير ولتبيع الأطنان الكبيرة من الأسلحة لتلك الدّول ولتتمعّش شركات مشاريع البناء والإعمار الأمريكيّة في الخليج خاصّة وأفغانستان والعراق وغيرها في المنطقة ولتطبّع العلاقة مع "إسرائيل" وتدخلها في الشّراكة الاقتصاديّة....
فالحاصل أنّ النّظام الاقتصادي اللّيبراليّ الرّأسماليّ قد فشل لأنّه لم يكن هو الحلّ بل ما هو إلاّ عامل تدمير لكلّ ما هو جميل بما في ذلك البيئة، فقد ظهر أنّه عبارة عن أهرامات من الدّيون يرتكز بعضها على بعض في توازن هشّ ممّا جعل العالم كأنّه أشبه بمائدة قمار واسعة.
أسجّل ابتداء أنّ الباحث الجادّ في هذا الملفّ المهمّ يجد نفسه في ملعب ملغوم، يكتنفه الغموض ويفتقر إلى الدّقّة لأنّه يشكو من شحّ المعطيات الصّحيحة والدّقيقة الموثّقة، بل يجد معطيات يرشح منها التّعمية والتّوظيف السّياسي، وهذا ممّا يزيد في خطورة الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة أن تحتكر الدّولة للمعلومات وتتصرّف في المعطيات حسب مصالحها إذاعة وحجبا، وهذا يشكّك في مصداقيّة خطاب السّلطة وتوظيفها المعهد الأعلى للإحصاء لتسويق أجندتها السّياسيّة. إنّنا بحاجة أكيدة إلى توفير المعلومة الصّحيحة والصّادقة لبناء إنسان وبلد على أسس سليمة وكريمة. ففي الوقت الذي يعلن فيه رجال الاقتصاد العالميّ أنّ القوى الكبرى المتحكّمة تخفي الأزمة العمليّة والنّظريّة لاقتصاديّاتها، تفاجؤنا السّلطة التّونسيّة بخطاب تحتفل فيه بنجاحاتها الباهرة في المجالين الاقتصاديّ والاجتماعي، وتجعل تلك "الإنجازات والمكاسب" سيفا ترفعه في وجه كلّ من تحدّث عن تدنّي الحرّيّات الذي غرقت فيه البلاد. فإذا كان ما تدّعيه السّلطة حقّا فلماذا لا يرى الشّغّالون فضلا عن المواطنين العاديّين آثار تلك النّجاحات الاقتصاديّة الباهرة؟ وأين أثر ذلك على المقدرة الشّرائيّة للتّونسيّ؟ وأين انعكاس ما تعلنه السّلطة من نسبة النّموّ السّنويّ على شعبنا؟
ولماذا تدهور معدّل الدّخل الفرديّ؟ لماذا هذه الزّيادات المتكرّرة في أسعار موادّ أساسيّة عديدة وخصوصا في الطّاقة؟ أليست الدّولة مكلّفة بكفاية الحاجات الأساسيّة لمواطنيها؟ أليس من حقّنا أن نتعرّف على طريقة إدارة الاقتصاد في بلدنا؟ لماذا يقوم اقتصادنا على الخدمات دون الإنتاج مما جعل كلّ اليد العاملة يعيشون على التّسوّل خاصّة في القطاع السّياحيّ؟ لماذا تبتزّ السّلطة مواطنيها في صندوق 26 26؟ ولماذا طال عمر هذا الصّندوق وصار مؤبّدا؟ لماذا تكبّل التّونسيّ بهذا العمل التّضامني مدى حياته؟ ألم يؤسّس هذا الصّندوق لسدّ أزمة مؤقّتة كما تفعل كلّ دول الدّنيا؟ ألا يعدّ هذا تحيّلا تحت مسمّى الأداء التّضامني؟ وهل مثل هذا العمل التّطوّعي يكون بالإكراه والتّأبيد؟ وما هي ميزانيّة ذلك الصّندوق؟ فأين هي الشّفافيّة التي تسوّق لنا؟ ولماذا تجمع السّلطة القرار السّياسي كما تملك سوق التّجارة؟ هل لدينا مشاريع تنمية؟ لماذا يبنى اقتصاد البلد على الخدمات دون التّصنيع الفلاحيّ أو التّجاريّ أو التّكنولوجي؟ وهل هناك دور إيجابيّ وحقيقي للوزارات المختصّة" التّخطيط و الماليّة والاجتماعيّة.."؟ لماذا تتضخّم ميزانيّتا رئاسة الدّولة والدّاخليّة؟ لماذا يتحمّل كلّ الشّعب تسديد الدّيون الخارجيّة للدّولة؟ لماذا آنعكست تلك الدّيون على شعبنا طول عمره؟ أين نحن من الإصلاح الجبائي " الأداء على القيمة المضافة"؟لماذا لا يثقّف الجمهور بمفاهيم الاقتصاد وحساباته ومؤشّراته ومعانيه قياسا بتثقيفه بالتّهريج الكروي والسّينمائي والغنائي ونجومهم؟ لماذا يهمّش شعبنا في قضايا الإقتصاد؟ لماذا لا تعبّئ السّلطة النّاس لإصلاح هذا القطاع المهمّ والخطير؟لماذا تضرّرت كلّ الفئات الاجتماعيّة وخاصّة الفقيرة منها؟ لماذا ازدادت الهوة اتّساعا بين فئة الفقراء الأكبر عددا وفئة الميسورين الأقلّ؟ لماذا تتراجع الدّولة عن المكاسب الاجتماعيّة في خدمات التّعليم والصّحّة والعلاج؟ لماذا نشهد ارتفاعا مذهلا في نسق تسريح العمّال وغلق المؤسّسات؟لماذا لا توفّر السّلطة مواطن شغل إلاّ في مؤسّسات الشّرطة المختلفة؟ ولماذا استفحل الظّلم الاجتماعيّ وانتشرت البطالة وتوسّعت الرّشوة وتعاظمت ظاهرة التّداين الفردي الخطير وانتشرت ظاهرة اليأس والانسحاب وهجرة الأدمغة والكفاءات والطّاقات؟ لماذا يفرّ النّوابغ إلى الخارج؟ لماذا يستقرّ الطّلبة والعلماء المبعوثون من طرف الدّولة خارج الوطن؟ ولماذا هذه الأمواج الكثيرة من الشّباب الفارّين إلى البحار عبر قوارب الموت؟ ولماذا نرى الطّوابير الطّويلة أمام السّفارات الغربيّة للحصول على التّأشيرات؟ لماذا نشأت فرق الشّذوذ والإجرام كعبادة الشّيطان؟ لماذا نسجّل رقما خياليّا في انتماء شبابنا إلى هؤلاء المرضى الخطرين؟ لماذا يفرّ الكثير من أبناء شعبنا إلى عالم الخرافات والخزعبلات والشّعوذة والسّحر والكحوليّة والمخدّرات؟ لماذا تشهد بلادنا جرائم القتل والذّبح والاغتصاب والسّرقة والسّطو المسلّح والاعتداء على أملاك الغير؟ لماذا انتشرت ظاهرة تشغيل الأولياء الفقراء بناتهم البريئات الطّريّات مقابل أثمان بخسة؟ ولا تسأل عن ظاهرة البغاء التي تفاقمت بشكل لم يسبق له مثيل إلى درجة أنّه مزّق النّسيج الاجتماعي والقيمي؟ لماذا يقع تحويل الفقر والبطالة إلى أداة توظيف سياسيّ وتطويع الشّعب بدلا من أن تكون أداة مشاركة ومتابعة ومحاسبة؟ لماذا تفرض السّلطة نظاما اقتصاديّا ليبراليّا على بلادنا؟ بأيّ وجه حقّ تسمح مجموعة صغيرة في السّلطة بتقرير مصير ما كدّ من أجله أجيال متعاقبة؟ من المسؤول عن الإفلاس؟ ما حقيقة تهريب أموال الشّعب إلى الخارج؟ ...وإلى ما هنالك من أسئلة مشروعة يطرحها كلّ غيور على سيادة شعبه واستقلال وطنه. إنّ كلّ سؤال يحمل ملفّا ضخما يحمّل المسؤوليّة للسّلطة كما يكشف بكلّ وضوح أنّ الأخيرة تعاني فشلا ذريعا وأنّ البلاد تعيش أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة وأخلاقيّة خانقة؟
إنّ الاقتصاد التّونسيّ بعد سنوات التّعاضد العجاف في السّتّينات شهد تلوّنا إلى الانفتاح الاقتصادي خلال السّبعينات، ثمّ ارتماء في أحضان تحرير الاقتصاد في منتصف الثّمانينات بإيعاز من المؤسّسات الماليّة العالميّة الجشعة والمبتزّة والضّاغطة والشّارطة التي استغلّت الوضعيّة التّعيسة في بلدنا إثر سنوات التّحوّل والاضطراب من التّعاضد الاشتراكي إلى اللّيبرالي الاقتصاديّ التي أوصلتنا إلى وضع الحرج والتبعية الكليّة، بما جعل أهل التّخصّص والخبرة يتّفقون على أنّ الاقتصاد التّونسي يعدّ من بين الاقتصادات "الهشّة" لأنّه اقتصاد خدمات: نسيج وسياحة... ومعلوم أنّ الاقتصاد الخدماتي يخضع إلى الإملاءات الخارجيّة و تنفيذ الشّروط الأمريكية خاصّة ومنها التّطبيع مع "إسرائيل" مقابل أن تغدق بالسّماح لقيام تونس بالمؤتمرات العالميّة من مثل مؤتمر المعلومات واللقاءات العالمية.....
ويؤكّد أهل الذّكر أنّه يصعب إجراء إصلاحات جوهريّة على اقتصاد البلد لأنّ سياساته تتعرّض إلى معضلات هيكليّة مزمنة ومصاعب حقيقية وتحدّيات كبيرة وفراغات خطيرة نخرت هيكله، أضف إلى ذلك التّوجّه المبرمج و الممنهج لما يسمّى "الحداثة" الذي أغرق المجتمع في نمط الضّمإ الجارف للاستهلاك المرعب والمخيف الذي ولدته عقود من الوقوع تحت ربقة الإيديولوجيا الإعلانيّة. وعلى كلّ حال، يمكن أن نجمل معالم أزمة الاقتصاد التّونسيّ المزمنة واختناقاته زيادة على تلك التّساؤلات المشار إليها أعلاه في مظاهر عديدة منها:
قابليّته للتّأثّر بأيّ متغيّرات إقليميّة ودوليّة، فما أن تأخذ أسعار النّفط مثلا في الارتفاع الجنونيّ حتّى تترك تداعياتها السّلبيّة على توازناتها الماليّة ومضاعفتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
أنّه لا يلبّي حاجات التّونسيّ، ومن ثمّ فهو لا يقوم على الخدمات الفلاحيّة أو الخدمات التّجاريّة أو الصّناعيّة أو الاستثماريّة الوطنيّة، بل هو اقتصاد يلبّي حاجات خارجيّة بالأساس، فهو جاهز للانكسار في كلّ لحظة، فما إن يتغيّر المناخ الطّبيعيّ أو الوضع الأمني في البلد أو خارجه حتّى يترك أثره العظيم في ذلك الخيار الهشّ لأنّ الاقتصاد يعتمد على الخدمات السّياحيّة أو قل لأنّه غير مستقلّ لأنّه يلبّي حاجات خارجيّة.
معالجة الحكومة لهذا الملفّ على رهانات الصّعيد الدّولي وحسب شروط مفروضة من الصّناديق والبنوك الدّوليّة، التي اغتنمت أزمة السّبعينات التي أوصلت الدّولة إلى حافة الإفلاس فتدخّلت لا لوضع إجراءات وقتيّة أو تقنيّة للخروج من الأزمة بل كبّلتها في إستراتيجية اقتصاديّة واجتماعيّة لتؤبّد تبعيّة البلد ضمن محيط المتوسّط وفق مصالحها الخاصّة عبر خطّة سمّتها برامج"التّكييف الهيكليّ"لتؤمّن حفاظ هيمنة المراكز الرّأسماليّة على بلدنا وترحيل الثّروات منها، فتبنّت الحكومة سياسة التّكييف الهيكلي سنة 1986 ثمّ وقّعت على اتّفاقيات الغات وانخرطت في المنظّمة العالميّة للتّجارة، ووقّغت على اتّفاقيّة الشّراكة مع الاتّحاد الأوروبي لتعيد هذه المؤسّسات الأوروبيّة صياغة هيكلة الاقتصاد التّونسيّ وفق آليّات الهيمنة والتبعيّة تحقيقا لارتهان حاضر البلاد ومستقبلها إلى الغرب.
كوارث القطاع الموازي في ظلّ تنصّل الدّولة وعجزها عن إصلاح القطاع العامّ من مسؤوليّتها بخوصصة مؤسّسات الدّولة التي عدّت202 مؤسّسة عموميّة، نزولا تحت الإجراءات الرّئيسيّة التي أكّد عليها برنامج التّكييف واتّفاق الشّراكة المتناغم مع قواعد المنظّمة العالميّة للتّجارة.
تفرّد الحزب الحاكم والحاشية المرتبطة به باتّخاذ القرار عبر ممارسة دكترة التّقرير وتغييب المساءلة و تشريك الشّعب في التّثقيف الماليّ والوعي بالأخطار وعدم أعلامه بالأسباب الحقيقيّة للأزمات الاقتصاديّة التي جعلت الحكومة تفوّت في مؤسّسات الشّعب وتخصخصها! أفليس من حقّ الشّعب أن يعرف من الذي يقرّر في هذه المسائل الخطيرة والمصيريّة؟
تخلّف البحث العلميّ والتّقني الذي يتعاظم في ظلّ تراجع القيم الدّافعة لطلبه في بيئة اجتماعيّة يتزايد فيها نفوذ الاتّجاهات الاستهلاكيّة الهلاّكة والتّرفيهيّة "البرّاكة"، بالرّغم من اقتناع الجميع بالأهمّية الجوهريّة والحاسمة للبحث والتّطوير العلميّين في تحقيق التّقدّم العلمي والتّقني والاقتصادي.
الفجوة الكبيرة بين مؤسّسات البحث العلمي الهشّة ومؤسّسات الإنتاج، بما يحول بين المؤسّسات البحثيّة وتحويل إنجازاتها العلميّة إلى قوّة تقنية فعّالة ومنتجة في الواقع.
الاستهانة بقطاعات الفلاحة و الزّراعة وصناعة الألبان ممّا يُهدّد أمننا الغذائي.
تحدّي الموارد المائيّة ومدى كفايتها لمتطلّبات الحياة والتّطوّر.
قضايا سوء الإدارة ووجود معوقات بيروقراطية وعلاقات العصبوية والمحسوبية وتفشّي ظواهر الذين أثروا عبر اقتصاد الدّولة كمصدر للثّراء، و استفحال الفساد المالي داخل مؤسّسات الدّولة منها ما نشر حول الشّركة الوطنيّة للسّكك الحديديّة مثلا .
الانخفاض الملحوظ في نسب النّموّ و ارتفاع العجز التّجاري وتضخّمه كلّ سنة وتفاقم حجم المديونيّة الخارجيّة المشكوك في استخلاصها والتي مازالت تمثّل ثقلا وعبئا كبيرا على الدّولة.
غياب الشّفافيّة حيث تظهر الدّراسات غياب مصداقيّة المعلومات الماليّة لدى المؤسّسات التّونسيّة ممّا جعل البنوك الدّوليّة تدعوها إلى تبنّي الشّفافيّة لتحسين مناخ الاستثمار في البلاد لتكون ملائمة للمواصفات العالميّة على مستوى الشّفافيّة الماليّة، كما دعتها إلى الابتعاد عن التّكتّم على أوضاعها الماليّة والتّلاعب بنتائج أعمالها للتّهرّب من الضّرائب خاصّة بما أعلن أنّ 50% من مؤسّسات البلاد تتهرّب من الضّرائب.
ارتهان الاستثمار التّونسيّ بالرّأسمال الأجنبي حيث منحت الحكومة للاستثمار الأجنبيّ العديد من الضّمانات الماليّة من منح وحوافز اقتصاديّة واجتماعيّة وحماية قانونيّة وجبائيّة، ممّا شجّع الرّأسمال الأجنبي أن يتغلغل في اقتصاد بلادنا بنسق ما فتئ يرتفع متخيّرا الأنشطة التي تدرّ أرباحا عالية كفي القطاع الفلاحي والنّسيج الصّناعيّ خاصّة حتّى صار هذا القطاع مرتهنا بالرّأسمال الأجنبي.
تهميش المناطق الداخليّة وعدم تمتّعها بتنمية متوازنة.
انتشار البطالة التي لامست خرّيجي الجامعات وأصحاب الشّهادات العليا، حيث تشهد الجامعات التّونسية سنويّا تخرّج قرابة 60 ألف صاحب شهادة وهو ما يمثّل ضغطا حقيقيّا على سوق الشّغل رغم ضعف نسبة التّأطير في المؤسّسات، حتّى أنّ بعض الدّراسات المختصّة تؤكّد أنّ تزايد معدّلات البطالة في تونس فاق معدّلات الزّيادة السّكانيّة فيها.
ولأنّ العجز هيكليّ والمشكل جوهري وأساسيّ فهو يتفاقم باطّراد، ولأنّ الحكومة تعالج أزماتها الهيكليّة الكبرى بوصفات تسكينيّة مملاة من قبل الرّأسمال الدّوليّ المتنافس المرابي وبحلول ترقيعيّة تعويضيّة تحاول تجميل المظهر الخارجي لبلادنا، فيتّفق أهل التّخصّص بما فيها مؤسّسات صناديق النّقد الدّوليّ على عدم القدرة على الإصلاح الاقتصاديّ في ظلّ التّبعيّة المذلّة وسيطرة تلك البنوك الدّوليّة المتوحّشة وفي غياب توحّد اقتصاد عربيّ عجزت أنظمته عن توظيف عوائد تصدير "فائض" مواردها النّفطيّة الضّخمة في تحويل بناء إقتصادات صناعيّة وزراعيّة وخدميّة قادرة على التّطوّر الذّاتي في بلدانها، بدلاً من إخراج الأموال للخارج وتكديسها أو استخدامها في المضاربة على الأراضي والعقارات والأسهم ممّا يوجد إقتصادات بالونيّة مهدّدة بالانفجار والتّدهور. ولا ندري ما هو مستقبل تلك البلدان أمام نضوب الموارد التي ستحصل بعد نصف قرن حسب بعض الدّراسات، دع عنك تطبيع اقتصاديّاتها بالاقتصاد "الإسرائيلي" الذي اخترق الأسواق العربيّة عبر منطقة التّجارة الحرّة فيما يسمّى "الشّرق الأوسط" التي شكّلتها الإدارة الأميركيّة لتوفير التّكامل الاقتصادي لمدلّلتها "إسرائيل" مع دول المنطقة.
كما تؤكّد التّقارير أنّ البلاد لن تخرج من التّخلّف والتّبعيّة اللّذين يعاني منهما اقتصادنا وستتعمّق أكثر مظاهر البؤس والفقر والاحتياج وسيتضاعف عدد العاطلين عن العمل الذي بلغ سنة 2000 حسب إحصائيّات البنك الدّولي حوالي 1.048.000 نسمة وستتدهور أكثر ممّا عليه الآن الخدمات الاجتماعية كالصّحّة والتّعليم والنّقل والسّكن وسيتفاقم الاختلال بين الجهات وبين الأحياء الفقيرة والأحياء الغنيّة ولا ندري إلى أين ستتّجه الأمور وما هو المخرج للهروب من هذا الواقع المتردّي والمرشح في الأشهر القادمة إلى مزيد التّعفّن والتّدهور.....
إنّ الأزمة الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة التي تعاني منها البلاد صارت الشّغل الشّاغل لجميع الغيورين بل حتّى البنوك الدّولية المرابية، فقد جاء في وثيقة استراتيجيّة أعدّها خبراء من البنك الإفريقيّ للتّنمية الذي يعدّ ثالث أهمّ مؤسّسة ماليّة عالميّة شريكة لتونس بعد البنك العالميّ وصندوق النّقد الدّوليّ هذه الخلاصات التي لا تخفي حدّة التّحدّيات الضّخمة التي تترقّب الاقتصاد التّونسيّ خلال فترة المخطّط الحادي عشر للتّنمية 2007 2011 أهمّها:
1 تتمثّل في انفتاح السّوق التّونسيّة الكامل على بلدان الاتّحاد الأوروبيّ المتوسّع ابتداء من غرّة جانفي المقبل 2008 وهو ما سينعكس على القدرة التّنافسيّة للاقتصاد وهو ما يتطلّب الرّفع من نسق الإصلاحات إضافة إلى المنافسة التي سيجدها من بلدان الاتّحاد الأوروبي وبعض الدّول الآسيويّة وخاصّة في قطاع الملابس والأحذية.
2 التّشغيل الذي لا يزال معدّل البطالة مرتفعا ولا يقلّ عن قرابة 14 بالمائة وهو مؤشّر محيّر خاصّة في ما يخصّ أصحاب الشّهادات العليا و النّساء في ظل ضعف الاستثمارات الخاصّة وارتباط عديد القطاعات بالتّغيّرات المناخيّة.
وأوصى ذلك البنك بضرورة تسريع نسق الإصلاحات خاصّة على مستوى تحسين مناخ الأعمال وتعصير البنية الأساسيّة ودعم القطاع الإنتاجي وتعزيز الموارد البشرية ودعا إلى مزيد تكريس الشّفافيّة والسّلامة في القطاع البنكي وضمان استقرار أنظمته وإيجاد حلول لحجم الدّيون المشكوك في استخلاصها والتي مازالت تمثل ثقلا وعبئا كبيرا تحدّ من قدرته التّنافسيّة.
كما أوصى بالاهتمام بالمناطق الحدوديّة التي تشكو من بقاء جيوب فقر وخاصة في الشّمال الغربيّ وتعرف نسق نموّ أقلّ بكثير على كلّ المؤشّرات وهو ما قد يحدّ من النّجاحات التي تحقّقها البلاد والتي تؤهّلها إلى تحقيق أهداف الألفيّة للتّنمية".
لا بدّ من تعجيل بالإصلاح:
بعيدا عن الزّيادة في توصيف الواقع الذي قد نتّهم أنّنا صوّرناه شديد القتامة، فإنّه حسب المنشور الصّادر عن الأمم المتّحدة في مارس 1999 فإنّ تونس يمكن إدراجها ضمن الدّول الفقيرة لآنسحاب المعايير عليها، الذي حدّدها ذلك المنشور وعدّدها فكان ممّا جاء فيه"،.... والعيش في بيئة غير آمنة، بالإضافة إلى انعدام المشاركة في صنع القرارات في الحياة المدنيّة والاجتماعيّة"، وعلى كلّ حال إنّ الأوضاع السّيّئة في تونس مرشّحة أن تزداد سوءا. وأنّ السّنوات القليلة القادمة سوف تشهد مزيدا من الانسداد بمعطى فشل الهيكل الاقتصادي العالمي الذي نرى انعكاساته السّلبيّة على بلادنا بالرّغم من مختلف المساعدات العالميّة الضّخمة وسياسات الدّعم الماليّة والسّياسيّة والإعلاميّة الهائلة.
وفي ظلّ غياب حركات اجتماعية مقاومة وسياسيّة مسؤولة وطلاّبيّة قويّة واستئساد الأمن فقد تخلّى الشّعب التّونسيّ عن مشاركة السّلطة في مقدرات الشّعب وتركت للرّأسمال الأجنبيّ أن يعمّق التّبعيّة ويؤبّدها.
إنّ الإصلاح والتّغيير قد باتا ضرورة ملحّة تمليها حاجات شعبنا ومسارات تطوّره، لأنّ طريقه إلى النّجاح لا يمرّ إلاّ عبر تبنّي إصلاح جوهريّ و شامل يتصالح مع هويّتنا أوّلا وهو ما يمكنه أن يختصر دورة الآلام ويعالج جدّياً أمراض مجتمعنا العديدة وأزماته العميقة والمختلفة والمتشابكة والمترابطة، إنّه لا إصلاح اقتصاديّ إلاّ ضمن توافق مع هويّة شعبنا، هذه خلاصة إصلاحيّة عبّر عنها الكثير من علماء الغرب ومثقّفيهم وسياسيّيهم منهم العالم الاقتصادي الألمانيّ الكبير"شاخت"! فلا خيار أفضل للإصلاح إلاّ أن يكون أكثر انسجاماً مع خصوصيّة مجتمعنا المسلم، فلا بدّ أن نبني أوّلاً على ثوابت متجذّرة أصلها ثابت وفرعها في السّماء.
معالم في طريق الإصلاح الإقتصادي:
إنّ أوّل معلم في طريق الإصلاح أن نقتنع جميعا بضرورة الإنجاز الإصلاحي لتفادي تهديدات اقتصادية واجتماعيّة جدّية وخطيرة حقيقة صارت تهدّد بمزيد من المتاعب والأزمات، وإنّ هذا يدفع بالضّرورة إلى أمور أهمّها:
لا بدّ من قراءة علميّة ودقيقة لحقيقة أمراض الاقتصاد التّونسيّ وتمليك كلّ من يريد الإصلاح المعطيات والمعلومات.
الإقرار بعجز الدّولة بمفردها عن حلّها حلاًّ عادلاً ومرضياً.
وضع الرّجل الأمين في المكان الأمين.
تجسيد آية الكتاب: "أنّى لك هذا"؟ وضرورة المساءلة لمنع ظاهرة الفساد والنّهب المنهجي لثروات البلاد الماليّة والعقاريّة، والسّطو على المناقصات العموميّة والاستحواذ على الوساطة في كلّ الشّراءات الخارجيّة للدّولة وللمؤسّسات العمومية.
الاستفادة من تجارب المسلمين وغيرهم الذين شهدوا قفزة نهضويّة مشهودة ونقلها كما هو حال تجارب ماليزيا وأندونسيا واليابان مثلا...
التّحرّر الاقتصادي و التّطوّر الذّاتي والتّخلّص من الارتباط بهيمنة الرّأسمال الغربي الامبرطوري الطّفيلي الذي يحيى على إماتتنا وامتصاص دمائنا وافتكاك خيراتنا منذ زمن الرّومان، فإذا تمكّنّا من ذلك قطعنا السّبب الأعظم للأزمة. وجعلنا نهاية للعبوديّة والاستعمار الجديد. فلا يمكن أن يرتهن الحلّ على الخارج، كما لا يصحّ أن نرتهن بالاقتصاديّ لمعالجة الملفّ السّياسيّ والأمني، بحيث لا بدّ من النّفاذ إلى عمق الأزمة الاقتصاديّة وحدها ومعالجتها بصورة جذريّة وعميقة.
جعل التّوجّه العلميّ الفلاحيّ الأولويّة المركزيّة في العمل الاقتصادي وتشجيع الدّراسات العليا لتحقيق الأمني الغذائي والاستقلال السّياسي.
التّصنيع الفلاحيّ وتقديم كلّ الدّعم للبحث العلميّ، ودفع الشّباب الصّغار والنّاشئين إلى القطاع عبر مساندة الشّركات الصّغيرة والمتوسّطة بالدّراسات المجانيّة والتّوجيه وتقديم القروض الميسّرة والتّسهيلات الإضافيّة المجانيّة وإلغاء الضّرائب والرّسوم وتحمّل الدّولة إنقاذ المؤسّسات التي تتعرّض لجوائح جماعيّة أو قاهرة.
تحرير المبادرة ودفع الطّاقات المعطّلة إلى التّوجّه الفلاحيّ والتّصنيع.
تشجيع الاستثمار الوطنيّ وحمايته من كلّ تهديد خارجيّ.
تشريك الشّعب في عمليّة الإصلاح والتّنمية وعدم تغييب المحور الحقوقي الحاسم في هذه العمليّة وعدم إهمال الدّور الكبير المحتمل أن يلعبه القطاع المدني الذي تمثّله المنظّمات الدّينيّة والثّقافيّة والسّياسيّة والشّعبيّة والمهنيّة من خلال إلغاء كافة المحاكم السّياسيّة المفتعلة، والإفراج عن كافة معتقلي الرّأي، وإصدار عفو تشريعي عام وجبر المتضرّرين، والاستفادة من جميع قدرات طاقاتنا وتحرير الإعلام وإصلاح القوانين واللّوائح الجائرة التي تستهدف استثناء شرائح كبيرة اختارت التّصالح مع هويّة شعبها وبلدها. إنّه لا يمكن بأيّ حال أن نصلح وضعنا الاقتصادي في ظلّ وصاية سياسيّة عليه، كما لا يمكن أن يصلح تحت قمع بوليسيّ وإقصاء سياسيّ وظلم اجتماعيّ يكبّل شعبنا ويقضي على روح المبادرة والعطاء ويخنق فاعليّته ودوره في الرّقابة والمحاسبة، فلا تنمية إلاّ بتنمية إطلاق الحرّيّات فهو المناخ الصّحّي الذي يوفّر الأمن ويحقّق الانطلاق ويعالج الرّكود والكلالة نحو الحركة والفعل والنّشاط والنّماء والاعمار. وإنّ من العبث الرّهان على نجاح أيّة خطط إصلاحيّة إذا لم تكن مسبوقة بإجراءات سياسيّة تطلق دور الإنسان وتحرّره من القهر والوصاية لأنّ بسط الحرّيّة الحقيقيّة والأمن الصّحّي ليست مطالب سياسيّة وحسب، وإنّما هي مطلب وجود وحياة بالأساس. وإنّ الملاحظ أنّ التّوجّهات الاقتصاديّة التي اتّخذتها السّلطة منذ السّتّينات لم تتلاءم مع التّوجّهات السّياسيّة، فلئن شهدت الحياة الاقتصاديّة تلوّنا واضطرابا من التّعاضد الاشتراكي إلى اللّيبرالي الاقتصاديّ إلاّ أنّ سيطرة الحزب الواحد وتكميم أفواه المخالفين هو الذي هيمن طيلة تلك المراحل كلّها.... إنّه من غير المجدي تطبيق نظام اقتصادي تكون فيه الدّولة اللاّعب الأساسيّ في ظلّ نظام سياسيّ منغلق، أو منفتح وداعم للجمعيّات الهامشيّة المتّهمة بالاستقواء بالأجنبيّ مثل جماعات "الدّفاع عن اللاّئكيّة في تونس" ما يسمّى ب"النّساء الدّيمقراطيّات"المموّلة من الخارج و التي دعّمتها رئاسة الدّولة لا للمساهمة في الحلّ الاقتصادي بل لمزيد تعقيد الوضع الثّقافي والاجتماعي من خلال برامجها المشبوهة التي تستهدف الإطاحة بثوابتنا الإسلاميّة والتّاريخيّة والوطنيّة.
إعادة إحياء دور المنظّمات العريقة التي أنشئت بالأساس لتكون شريكا فعليّا ومسئولا في بلورة السّياسة الاقتصاديّة للبلاد والتّي شلّها الحزب الحاكم سواء بافتكاكها أو تهميشها وتغييبها أو إخضاعها تحت السّيطرة وإفقاد دورها المناط بعهدتها، والتي من بينها منظّمة اتّحاد الفلاّحين والاتّحاد التّونسيّ للصّناعة والتّجارة، والاتّحاد العام التّونسي للشّغل وهو المنظّمة الأكبر على الإطلاق بين المنظّمات الأهليّة، وقد لعب دورا مهمّا في خوض معركة تحرير البلاد كما خاض بعد الاستقلال نضالات عديدة من أجل الدّفاع عن اقتصاد وطنيّ، واستقلاليّة قرار المنظّمة وتحمّل دور المعارضة الرّئيسيّة للدّفاع عن حقوق الشّغّالين في غياب معارضة سياسيّة قويّة ومسؤولة.
إنّ هذه المنظّمات المدنيّة مدعوّة لأن تصحّح مسيرتها وتستعيد دورها المتميّز في إدارة معركة التّنمية، والمساهمة في القرار وهي مطالبة قبل ذلك بإصلاح بيوتها والكفّ عن الصّراع السّياسيّّ والتّحرّر من الوصاية الحزبيّة من كافّة الأطراف وأن تلتفّ وتتوحّد من أجل النّضال لنيل استقلاليّتها لتكون مشاركة ومسؤولة وفاعلة.
ترشيد الاستهلاك: لقد أفسدت علينا الحداثة كلّ شيء، فزهّدت النّاس في ثقافتهم الإسلاميّة التي تدعو إلى حسن التّدبير في المعيشة والتّوسّط في الإنفاق والتّقشّف وعدم إتباع النّفس شهواتها. لقد كان من نتائج اتباع فوضى الحداثة أن قطّعت شعبنا التّونسيّ عن بعض عاداته الجيّدة التي رضعها من ثقافتنا الإسلاميّة العظيمة منها ذلك الادّخار الأهليّ العظيم الذي كان يشغل صيفنا في حركة اجتماعيّة مبهرة واقتصاديّة نشطة فإذا به يمضي تلك العطلة الطّويلة في عمليّة تخزين أهليّ بديع يستعين به كامل فصول السّنة بادّخار غذاء صحّي متكامل وغير مكلف يطال الموادّ الأساسيّة والثّانويّة بما يحقّق التّأمين السّنويّ، وهو ما نسمّيه في تونس "العُولَة"، وقد انخرط شعبنا اليوم مع الأسف ضمن تعمّد الدّولة ترسيخ مفهوم المجتمع الاستهلاكي المدمّر فصار ينفق كلّ ما يدخله لأسباب متعدّدة أهمّها التّخلّي عن تقاليدنا المنتجة، وإفقاده مناعة مقاومة الشّهوة في خضمّ سيطرة المتموّلين الكبار على الإعلام الذين أتقنوا فنون تسويق ثقافة الاستهلاك...
خلاصة:
انتقد علماء الاقتصاد النّظام الماليّ العالميّ في ظلّ اقتصاد السّوق، وبشّروا بسقوطه، إلاّ أنّ دهاقنة السّياسة يخفون ذلك، وكان من بين أولئك المنتقدين موريس آليه الذي أظهر الدّور السّلبيّ لآليّة الإقراض في النّشاط المصرفيّ الرّأسماليّ وأكّد على أنّ الحلّ يتقارب مع منهج البديل الاقتصادي الإسلاميّ واقترح فرض ضريبة على رأس المال بمعدّل يجعلها قريبة من الزّكاة وأن تكون قيمة معدّل الفائدة في عمل البنوك قريبة من الصّفر أي دون ربا.
وإنّ تجارب التّنمية في تونس سواء بنسختها البورقيبية الأولى القائمة على الاستعاضة عن التّوريد بالتّصنيع المحلّي و بوجهها التّصديري القائم على زيادة موارد العملات الأجنبيّة أو في حلقتها الجديدة القائمة على الإصلاح الهيكليّ و الخصخصة و الاندماج في السّوق العالمية انتهت إلى الفشل، وفي ظلّ العجز الاقتصادي الدّولي وفي ظلّ فشل الاختيارات الاقتصاديّة المحلّيّة فإنّ الحلّ يصفو خالصا للّه ربّ العالمين. ولذا نقرّر أنّ النّموّ مرهون بالمصالحة مع ركنين عظيمين: الهويّة والحرّيّة. فهذه هي الكلمة السّواء التي لا بدّ أن يجتمع عليها التّونسيّون: أن يكفّ المنهزمون عن أمرين:
1 جاء دور البديل الإسلامي الذي شهد له التّاريخ أنّ سلفنا لمّا عملوا بالإسلام أغنوا كلّ النّاس حتّى أنّهم لم يجدوا فقيرا يعطوه الزّكاة، كما تواترت النّصوص المبشّرة بالخلافة الرّاشدة الموعودة أنّها ستغني النّاس. إنّ منزل هذا الدّين وعد المسلمين أنّ الإيمان والعمل الصّالح كفيلان بالتّنمية فقال:"...وَمَن يَّتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا 2 وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا 3 "1. وقال: " وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا"2. وقال: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُون"3.
2 حان وقت ردّ الكرامة لمواطننا المكرّم من لدن خالقه، وأن نتوقّف عن إذلال التّونسيّ خليفة الله تعالى وأداة الإصلاح والتّنمية. فكيف نريد أن نشيد حضارة ونبني بلدا وإنسانها يذلّ ويهان ويختنق أينما يتوجّه يجد أمامه حصارا. يا أهل بلدي تعالوا نبني بلادنا بكلّ ما نملك من طاقات وإمكانيّات ومن أعظمها شحنة الإيمان والقيم، لأنّه لا تنمية اقتصاديّة دون تنمية إيمانيّة. "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"4.
يتبع إن شاء الله تعالى....
1 الطّلاق.
2 الجنّ 16.
3 الأعراف96.
4 النّور55


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.