تونس - في حي قرطاج التاريخي الهادئ شمالي العاصمة تونس يقع مسجد العابدين الذي تم افتتاحه في صيف 2004، ويعتبره الكثير من التونسيين مسجدًا استثنائيًّا. ويعتبر هذا المسجد هو الأبرز في الحي الذي يُعَدّ مقرًّا لمهرجان قرطاج، أحد أهم المهرجانات السينمائية والفنية في العالم العربي، كما أنه أكثر أحياء العاصمة جذبًا للجاليات والسفارات الأجنبية، باعتباره الأكثر رقيًّا وتحصينًا جراء قربه من مقر رئاسة الجمهورية. فالمسجد يبعد أمتارًا من قصر الرئاسة الذي شيده أول رئيس عقب الاستقلال، الحبيب بورقيبة عام 1957، وبعد تنحيته وسيطرة الرئيس زين العابدين بن علي على السلطة، فيما عرف بتغير 7-11-1987، أبقاه مقرًّا للحكم. ولهذا القرب بين قصر الرئاسة والمسجد فالصلاة في "العابدين" غير متاحة بسهولة أمام عامة المواطنين أو عابري السبيل كبقية المساجد في سائر أرجاء المعمورة؛ وهو ما دفع الكثير من التونسيين إلى تسميته ب"مسجد السلطة"، باعتباره مسجد المناسبات الرسمية. فالمصلون فيه هم جزء من السلطة بدءًا من رئيس الجمهورية، وانتهاء برؤساء الهيئات والمصالح الحكومية. الزائر لتونس، وبالتحديد لقرطاج، يلفت نظره فخامة مباني المسجد ذات الطراز الحديث، ونظافة البقعة المحيطة به، وقلة كثافتها السكانية. فالمسجد مشيد فوق هضبة مرتفعة خالية من المباني، وتحيطه الخضرة، خاصة أزهار البنفسج، ذات الألوان المفضلة لدى زين العابدين. لكن المشهد اللافت أكثر للزائر الغريب هو إغلاق المسجد في أغلب الأيام أمام المواطنين، باستثناء مسئولي إقامة الشعائر؛ إذ يدخلون بانتظام إلى مواقعهم، ويرفعون الأذان، ويقيمون الصلاة، ثم يغادرون المسجد في هدوء. وكأن هناك أوامر غير معلنة بعدم السماح للمارة أو العامة بالصلاة في المسجد أو حتى الاقتراب منه. ودون عناء يلاحظ الزائر لقرطاج خضوع "العابدين" بشكل دائم لحراسة مسلحة من الداخل، أما محيطه الخارجي فيخضع لنفس الإجراءات الأمنية المشددة التي تفرضها قوات الحرس الوطني التي تحرس قصر الرئاسة. حاولت التوجه للمسجد بصحبة مرافقي التونسي، وما إن اقتربت سيارتنا من محيط "العابدين" حتى ظهر رجل أمن مسلح أشار من بعيد بعدم التوقف عند المسجد، ثم بدأ في الاقتراب منا تمهيدًا للاطلاع على هويات من تجرأ على الاقتراب من المسجد. بسرعة قرر مرافقي التحرك مبتعدًا عن المسجد، معتذرًا لرجل الأمن؛ فالمعروف عن هذه المنطقة خلوّها من دور العبادة بشكل عام، وإن كان بها هذا المسجد. مهمة رسمية قصور وفيلات سكان قرطاج عدم فتح المسجد أمام العامة للصلاة علَّق عليه أحد العلماء التونسيين بأن "هذا المسجد له مهمة سياسية تنشط في المناسبات الدينية المعروفة، منها صلاة الجمعة والاحتفال بحلول شهر رمضان والمولد النبوي الشريف والاحتفال برأس السنة الهجرية، حيث تحرص القيادة السياسية على الظهور عبر وسائل الإعلام المحلية من داخل هذا المسجد؛ لإضفاء لمسة دينية وصبغة إسلامية على نظام الحكم". وأردف العالم الذي فضل عدم ذكره اسمه لدواع أمنية، يقول: "إنه في أحيان كثيرة يظهر رئيس الجمهورية وهو يؤدي الصلاة وسط أعضاء حكومته من داخل مسجد العابدين، ويتم نشر هذه الصور بالصحف المحلية؛ لتهدئة الرأي العام التونسي الذي يتضاعف غضبه من محاربة الحكومة لكافة مظاهر التدين في المجتمع التونسي المسلم". وأوضح أن "الشعب التونسي هو من بنى هذا المسجد بأمواله من خلال نشر الحكومة العشرات من رجالها لجمع التبرعات من المواطنين عقب صلاة الجمعة من كل أسبوع، حيث تبرع المواطنون بأموال ضخمة على مدار الأعوام الماضية، ثم فوجئوا بأن العابدين ربما يكون المسجد الوحيد الذي بُنِي في الأعوام الأربعة الأخيرة". وحول القيود الصارمة المفروضة على بناء المساجد بتونس يقول العالم: "لا يوجد تشريع يمنع بناء المساجد، لكن الحكومة لا تشجع على ذلك، فلا تمنح أراضي الدولة مجانًا لهذا الغرض، ولا تمول بناء المساجد؛ لذلك فالمساجد لا يتزايد عددها منذ عهد بورقيبة إلا بنسب محدودة للغاية، رغم استعداد المواطنين للتبرع لبنائها في أي وقت". وحول تسمية المسجد بالعابدين أوضح أن "المسئولين الحكوميين، أصحاب فكرة بناء هذا المسجد، هم من أطلقوا عليه اسم العابدين، وهو لقب رئيس الجمهورية؛ ليضربوا بذلك عصفورين بحجر واحد، فمن ناحية يتقربون من الرئيس، ومن ناحية أخرى يحقق بن علي نوعًا من التقرب إلى الشعب التونسي".