فضّل الله عزّ وجلّ بعض الأيّام واللّيالي والشّهور على بعض ليجدّ العباد في وجوه البرّ ويتنافسوا في نشاطات الخير، ويكثروا فيها من الأعمال الصّالحة، ولا يظلموا فيها أنفسهم بالمعاصي والمظالم والجهالات، قال تعالى:"إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ"1 والأشهر الحرم هي: محرّم ورجب وذو القعدة وذو الحجّة، عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال:"إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّماوات والأرض، السّنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان"2 لماذا سُميت هذه الأشهر حُرما؟: 1 لتحريم القتال فيها إلاّ أن يبدأ العدوّ. لذا يُسمّى رجب الأصمّ لأنّه لا يُنادى فيه يا قوماه أو لأنّه لا يُسمع فيه صوت السّلاح قال ابن فارس:"رجب: الراء والجيم والباء أصلٌ يدلّ على دعم شيء بشيء وتقويته ... ومن هذا الباب: رجبت الشّيء أي عظّمته فسمّي رجبا لأنّهم كانوا يعظّمونه وقد عظّمته الشّريعة أيضا"3 " فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ" لتعظيم تحريم انتهاك المحارم في هذه الأشهر أشدّ من غيرها 2 لماذا سمّي شهر رجب رجبا ولماذا مضرا ؟ وسُمي رجبٌ رجباً لأنه كان يُرجَّب أي يُعظَّم 4. وسمّي رجب مضر لأنّ مضر كانت لا تغيره بل توقعه في وقته بخلاف باقي العرب الذين كانوا يغيّرون ويبدّلون في الشّهور بحسب حالة الحرب عندهم وهو النّسيء المذكور في قوله تعالى:"إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِه الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّه"5 وقيل أن سبب نسبته إلى مضر أنها كانت تزيد في تعظيمه واحترامه فنسب إليهم لذلك دعاء دخول رجب: ولقد تعوّد بعض النّاس باستقبال هذا الشّهر المبارك بهذا الدّعاء الذي ضعّفه كثير من أهل العلم، فعن أنس رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول إذا دخل رجب "اللّهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان"6. بدع شهر رجب: انتشر لدى كثير من المسلمين أمور عديدة يحسبونها طاعات مطلوبة في هذا الشّهر المحرّم وخصّصوه بعبادات زائدة وخاصّة، وإنّما تخصيص رجب بعمل كان من الأمور التي تفعل في الجاهليَّة فأبطلها الإسلام، ومن هذه العبادات البدعيّة التي يأتون بها: 1 تخصيصه بعمرة: ويسمّونها بالعمرة الرّجبيّة، ومعلوم أنّ تخصيص شهر بعبادة معيّنة لم يعيّنها الشّرع من البدعة المنكرة التي تميت السّنّة، و لم يأت نصّ يخصّص رجبا وغيره بعمرة إلاّ رمضان وأشهر الحجّ وأفضلها العمرة في ذي القعدة لأنّ عُمَرَ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كلّها وقعت في ذي القعدة، ولم يثبت أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم اعتمر في رجب وقد أنكرت ذلك أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها على من آدّعى ذلك.7 2 تخصيصه بصلوات معيّنة: أ صلاة الرغائب : وهي اثنتا عشرة ركعة بعد المغرب في أوّل جمعة بستّ تسليمات يقرأ في كلّ ركعة بعد الفاتحة سورة القدر ثلاثا والإخلاص ثنتي عشرة مرّة وبعد الانتهاء من الصّلاة يصلّي على النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم سبعين مرّة ويدعو بما شاء.8 وقال النّووي رحمه الله تعالى:" واحتجّ به العلماء على كراهة هذه الصّلاة المبتدعة التي تسمّى الرّغائب قاتل الله واضعها ومخترعها فإنّها بدعة منكرة من البدع الّتي هي ضلالة وجهالة وفيها منكرات ظاهرة وقد صنّف جماعة من الأئمّة مصنّفات نفيسة في تقبيحها وتضليل مصلّيها ومبتدعها ودلائل قبحها وبطلانها وتضلل فاعلها أكثر من أن تحصر"9. وقال الخطابي رحمه الله تعالى: " حديث صلاة الرّغائب جمع من الكذب والزور غير قليل "10، وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى:" فأمّا الصّلاة فلم يصحّ في شهر رجب صلاة مخصوصة تختصّ به والأحاديث المرويّة في فضل صلاة الرّغائب في أوّل جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا تصحّ وهذه الصّلاة بدعة عند جمهور العلماء ... وأوّل ما ظهرت بعد الأربعمائة فلذلك لم يعرفها المتقدمون ولم يتكلموا فيها "11. ب صلاة النّصف من رجب وهو من الأحاديث الموضوعة12. ج صلاة ليلة المعراج: وهي صلاة تصلّى ليلة السّابع والعشرين من رجب وتسمّى: صلاة ليلة المعراج وهي من الصّلوات المبتدعة التي لا أصل لها صحيح لا من كتاب ولا سنّة.13 ودعوى أن المعراج كان في رجب لا يعضده دليل قال أبو شامة رحمه الله تعالى: " ذكر بعض القصّاص أنّ الإسراء كان في رجب وذلك عند أهل التّعديل والتّجريح عين الكذب"14 . وقال أبو إسحاق إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى" أُسري برسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الأول"15 أمّا الذين يصلّونها فيحتجّون بقول النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم"في رجب ليلة كُتب للعامل فيها حسنات مائة سنة وذلك لثلاث بقين من رجب"16. ومن بدع تلك الليلة: الاجتماع وزيادة الوقيد والطعام قال الشّيخ علي القاري:" لا شك أنها بدعة سيئة وفعلة منكرة لما فيها من إسراف الأموال والتشبه بعبدة النار في إظهار الأحوال "17 3 تخصيص صوم صيام رجب إنّ رجب كغيره من الأشهر، ومن ثمّ لم يرد تخصيص شرعيّ في صيامه نصّ ثابت صحيح وإنّما يشرع فيه من الصّيام ما يشرع في غيره من الشّهور كصيام الاثنين والخميس والأيّام الثّلاثة البيض وصيام يوم وإفطار يوم، لمن تعوّد ذلك، أما إفراده بذلك فلا يباح إلاّ بدليل قويّ خاصّ وهو ما نفتقده، قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى: "وأمّا صوم رجب بخصوصه: فأحاديثه كلّها ضعيفة، بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضّعيف الذي يروى في الفضائل، بل عامّتها من الموضوعات المكذوبات... وقد روى ابن ماجة في سننه، عن ابن عباس، عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: أنه نهى عن صوم رجب، وفي إسناده نظر، لكن صحّ أنّ عمر بن الخطّاب كان يضرب أيدي النّاس؛ ليضعوا أيديهم في الطّعام في رجب، ويقول: لا تشبّهوه برمضان... وأمّا تخصيصها بالاعتكاف الثّلاثة الأشهر: رجب، وشعبان، ورمضان فلا أعلم فيه أمراً، بل كلّ من صام صوماً مشروعاً وأراد أن يعتكف من صيامه، كان ذلك جائزاً بلا ريب، وإن اعتكف بدون الصّيام ففيه قولان مشهوران لأهل العلم"18، وقال ابن القيّم رحمه الله تعالى " كلّ حديث في ذكر صوم رجب وصلاة بعض اللّيالي فيه فهو كذب مفترى "19. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى " لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا صيام شيء منه معيَّن ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة "20 وقال ابن حجر رحمه الله تعالى:"لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه ، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجّة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ، رويناه عنه بإسناد صحيح، وكذلك رويناه عن غيره"21 وقال أيضاً: "وأمّا الأحاديث الواردة في فضل رجب، أو في فضل صيامه، أو صيام شيء منه صريحة: فهي على قسمين: ضعيفة، وموضوعة"22. أتى هذا المقال من تونس المسلمة عنوان الرابط http://www.tunisalmoslima.com/modules.php?name=News&file=article&sid=240 1 التوبة:36 2 رواه البخاري 4662 ومسلم 1679 3 معجم مقاييس اللّغة ص445 4 لطائف المعارف ص 225 5 سورة التوبة:37 6 رواه أحمد 1/259 والبزار (616 زوائد والطبراني في الأوسط 3939 والبيهقي في الشعب 3815 وهو من رواية زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري قال البخاري منكر الحديث ا.ه شعب الإيمان 3/375 وضعفه الحافظان ابن رجب وابن حجر رحمهما الله تعالى، وانظر لطائف المعارف234 7 انظر ما رواه البخاري 1775 8 حديثها موضوع ذكره ابن الجوزي في الموضوعات 2/124. 9 شرح مسلم 8/20 الأدب في رجب للقاري /43 نيل الأوطار 4/337. 10 الباعث لأبي شامة ص 143 11 لطائف المعارف ص228. 12 الموضوعات لابن الجوزي 2/126. 13 انظر: خاتمة سفر السعادة للفيروز أبادي 150 التنكيت لابن همات 97 14 الباعث /232 مواهب الجليل 2/408 15 انظر:الباعث ص232 شرح مسلم للنووي 2/209 تبيين العجب ص21 مواهب الجليل 2 /408. 16 رواه البيهقي في الشّعب 3/374 وضعّفه كما ضعّفه الحافظ ابن حجر في تبيين العجب ص 25 وقال القاري " ضعيف جدا " الأدب في رجب ص 48. 17 الأدب في رجب ص46. 18 الفتاوى: 25/290 292. 19 المنار المنيف ص96. 20 تبيين العجب ص 11 و لطائف المعارف ص228. 21 تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب ، لابن حجر ، ص6 ، وانظر: السّنن والمبتدعات للشقيري ، ص125. 22 المصدر السّابق ص8.