لم يرحمنا قدوم فصل الصيف من وطأة الأحداث العربية المتلاحقة، فتواصلت معضلاتنا بإصرار وتلاحقت مآسينا بعناد، حتى إن الملجأ الوحيد لأعصاب الكاتب والقارىء أصبح هو الكتاب الذي صمد في مواجهة كل الاختراعات العجيبة منذ قرن، بدءا من الاذاعة ومرورا بالتلفزيون الى عصر الكمبيوتر، كأنه المجاهد الصابر الذي لم تلن له قناة ولم يشأ الاستسلام ولم يهرب من معركة المزاحمة الى ركن مهمل من أركان التاريخ. وفي الحقيقة للكتاب رجال ونساء وقفوا الى جانبه في مواجهاته وتمسكوا بالورق والقرطاس حتى تحول الكتاب الى ملهم لكل مناهج الابلاغ الأخرى، وظل الصديق الوفي والأنيس الحميم في لحظات التجلي ونهل المعرفة. وبهذه الروح آثرت خلال الاجازة الصيفية الانزواء الى كتب أهدانيها مؤلفوها مشكورين خلال السنة ومنعتني الشواغل المهنية واليومية من مطالعتها، فاذا بي أكتشفها أمامي تطالبني برد الجميل لهؤلاء الزملاء الكرام الذين خطّوا على صفحاتها الأولى عبارات الاهداء السخية واذا بي أمام البحر الأبيض المتوسط ألتهم فصولها بشغف وأضع يدي على كنوز من الحقائق التاريخية لم أكن أعرفها في مجالات مختلفة من الحضارة. هذه الكتب ثلاثة أولها كتاب للزميل الفاضل د.محمد حرب بعنوان: العثمانيون في التاريخ والحضارة، تابعت فيه نشأة الخلافة العثمانية وفتوحاتها المدوية منذ القسطنطينية الى حصار (فيينا) مرورا بحماية دار الاسلام من الاستلاب والنهب على مدى القرون الستة والنصف التي عاشتها الأمبراطورية الاسلامية الى حين انهيارها في العشرينيات من القرن العشرين، لتفتح صفحة القوميات والهيمنة الاستعمارية ثم حروب التحرير وضياع القدس الشريف وفلسطين. وما لفت نظري هو المواقف الجليلة البطولية للسلطان عبدالحميد ضد المؤامرات الصهيونية لانشاء كيان في فلسطين، فكان السلطان صارما وحازما في هذه القضية المصيرية، مما أدى بالتأكيد الى الاطاحة بعرشه وهز أركان الخلافة تمهيدا لابتلاع المشرق العربي تماما بدون مقاومة. وقد تجرأ السلطان على طرد مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل مما جعل مجلة بيوك طوغو التركية تنشر مقالا تقول فيه: ان تصرف السلطان تجاه الحركة اليهودية بهذا الشكل المعادي تسبب في هدم تاجه ودك عرشه وبالتالي هدم الدولة العثمانية كلها. أما الكتاب الثاني فهو للدكتور سمير البكوش أستاذ التاريخ بكلية الانسانيات بمنوبة التونسية وهو بعنوان: القيروان من 1881 الى 1939 تاريخ المقاومة والصمود للاستعمار لدى أهالي ه1ه المدينة التي تعتبر أول قلعة اسلامية في إفريقية والتي أسسها المجاهد عقبة بن نافع عام 50 هجري، ثم كانت المحطة الأولى لفتح الأندلس وجنوب أوروبا. لكن المؤرخ المتميز الزميل سمير البكوش اختار قراءة الوثائق واستنطاق الأرشيف لدى الادارة الاستعمارية ليكشف لنا عن ملحمة مقاومة مسلحة وبطولية خاضها سكان جهة القيروان منذ حلول الجيش الفرنسي المستعمر، فكان المجاهد علي بن خليفة قائد قبيلة نفات، منسق ثورة القبائل انطلاقا من قبيلة جلاص التي تسكن القيروان وضواحيها في ذلك العهد. ونتابع مع المؤرخ بعض أسرار انتفاضة التجنيس عام 1933 حين بدأ الزعيم بورقيبة يعي خطر تجنس التونسيين بالجنسية الفرنسية تمهيدا لصهرهم في فرنسا، تماما كما وقع لسكان جزر ما وراء البحار حين كانت مستعمرات فرنسية- وظلت كذلك الى اليوم- فدعا بورقيبة الى العصيان المدني برفض دفن المجنسين في المقابر الاسلامية اعتمادا على فتوى الشيخ ادريس الشريف مفتي بنزرت، مع أن المجلس الشرعي الذي كان يرأسه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أجاز التجنيس قائلا بأنه لا يناقض الدين. وأدركت مرة أخرى بعد نظر الزعيم بورقيبة آنذاك الذي أنقذ شعبه من الذوبان المهين في هوية أوروبية مسيحية في حين لم يدرك شيوخنا الأفاضل ذلك الخطر القائم في حينه. أما الكتاب الثالث فهو بعنوان: القضايا الكبرى وهو يجمع أهم محاضرات المفكر المسلم الجزائري مالك بن نبي رحمة الله عليه وقد نقلها الى العربية ابن مدينتي القيروان وأستاذي للغة العربية المرحوم الطيب الشريف حين كنا طلابا في المدرسة الثانوية بالقيروان في الستينيات، وكان الطيب الشريف من مريدي وأنصار مالك بن نبي ومعرِّب جل أعماله الى أن توفاه الله في الجزائر في ظروف لم تتوضح لنا، وهو أيضا من أصدق الشعراء المبدعين كان الدكتور سهيل ادريس ينشر له قصائده في مجلة (الآداب) البيروتية في مطلع الستينيات. والكتاب ذو أهمية معاصرة لأن الاشكاليات التي يعالجها مالك بن نبي ما تزال قائمة الى يوم الناس هذا في العالم العربي والاسلامي، مثل قضايا الهوية، وتقبل الاستعمار، ومعاني الاستقلال الحقيقي وحدود الحريات والمسؤوليات. لقائل أن يقول إن محاور هذه الكتب الثلاثة متباعدة ولكن الحقيقة غير ذلك لأن الجسور الحضارية الممتدة ما بين انهيار خلافة آل عثمان، وشن المقاومة التونسية ضد الاستعمار وحيرة مجتمعاتنا العربية اليوم وحتى صيف 2007 هي جسور قوية، ويحسن بالقارئ أن يربط بين معاني وحقائق هذه الكتب القيمة الثلاثة ليخرج برؤية متكاملة عن أزمة العالم العربي الراهنة من خلال وثائق التاريخ. نشر على الوسط التونسية بتاريخ 16 أغسطس 2007