* فوز عبد الله قول بمنصب رئاسة الجمهورية في تركيا بالنظر إلى خلفيته الفكرية الإسلامية له دلالات عديدة لعلّ أبرزها أن تركيا تشهد تحولات بارزة على مختلف الأصعدة السياسية و الثقافية و الاجتماعية و غيرها ، و هذا يعني أن جيلا جديدا من النخبة السياسية و الفكرية في تركيا يتقدّم إلى الصفوف الأولى ليتولى المناصب القيادية في الدولة ، و هو ما يعكس أيضا المستوى المتقدم لحالة النضج السياسي التي يتمتع بها الناخب التركي ، حيث أنّه لم يعد يعطي صوته وفق الاعتبارات الأيديولوجية و إنّما يختار الأصلح و يصوّت للبرنامج الذي يرى فيه إجابة لمتطلّباته . و لعلّ أبرز الدلالات التي عكسها فوز عبد الله قول بالرئاسة أن تركيا تشهد بشكل تدريجي تراجعا في النظرة " القدسية " للمبادئ الكمالية لصالح تيارات وطنية جديدة إسلامية و قومية و علمانية لبرالية ، و هو ما جعل قسما من النخب العلمانية المتشدّدة في تركيا يتحدثون عن سقوط قلعة كمالية جديدة في أنقرة . و من الدلالات البارزة أيضا أن الديمقراطية في تركيا بدأت تتحول إلى ثقافة عامّة سواء على المستوى الشعبي أو في إطار العلاقة بين المؤسسات الدستورية ، فاحترام المؤسسة العسكرية للعملية الانتخابية و نتائجها يشير إلى أن ذهنية الجنرالات الأتراك اليوم أصبحت تتغير شيئا فشيئا و تختلف عن الذهنية التي كانت توجّه الجنرالات الأتراك حتى مرحلة آخر انقلاب عسكري عام 1980 ، كما أن النخب العلمانية و الكمالية مدنية كانت أو عسكرية في تركيا و برغم انزعاجهم من وصول عبد الله قول إلى منصب الرئاسة إلاّ أنهم احترموا خيار الشعب التركي و هو ما سيؤسّس لثقافة سياسية جديدة داخل المدرسة الكمالية و يدفع التيار التجديدي من الكماليين إلى إعادة صياغة الفكر الكمالي ليظهر بثوب جديد يخاطب به الأجيال التركية المقبلة ليضمن لهذا التيار البقاء كحركة سياسية كان لها الدور البارز في تأسيس الدولة الوطنية الحديثة في تركيا. و انفراد حزب العدالة و التنمية بالسلطة في أنقرة من خلال تولّيه رئاسة الجمهورية و الحكومة و البرلمان يشير إلى دلالة بارزة و هو قبول المؤسسات الكمالية والعلمانية في تركيا مدنية أو عسكرية بالتيّار الإسلامي المعتدل كحركة وطنية و شريك سياسي لم يعد بالإمكان الإستغناء عن دوره في الحياة السياسية التركية برغم التباين بين الطرفين في الرؤى الفكرية ، و هو ما يشير أيضا إلى خصوصية كل طرف فالمدرسة الكمالية و العلمانية في تركيا أتاحت خلال هيمنتها على الحياة السياسية لسنوات طويلة أتاحت هامشا كبيرا من الحرية سمح للتيار الإسلامي بالتحرّك المنضبط و النضج التدريجي ، و في المقابل نجح التيار الإسلامي التركي في التعايش الإيجابي مع الكمالية و العلمانية و استطاع تأطير نفسه بشكل سلس الأمر الذي مكّنه من إقناع الأطراف التركية الأخرى بأنّه جزء من النسيج العام في تركيا من خلال قبوله بالقواعد المرسومة.. لكنّ احترام المؤسسات الكمالية و العلمانية لخيار الشعب التركي لا يعني قبولا تامّا بهيمنة حزب العدالة و التنمية على السلطة التشريعية و التنفيذية و رئاسة الجمهورية ، و هو ما قد يرشح تركيا في المرحلة المقبلة إلى حالة من الصراع بين الجبهة الكمالية العلمانية من جهة و الجبهة اللبرالية و المحافظة من جهة أخرى حالما يشعر التيار الكمالي أنه بدأ يخسر امتيازاته من خلال الإصلاحات السياسية التي تنوي حكومة العدالة و التنمية تنفيذها و التي يأتي على رأسها طرح صياغة لدستور مدني جديد يلغي الدستور التركي الحالي الذي فرضته حكومة الإنقلاب العسكري عام 1982 ، كما أن تعاطي حكومة أردوغان مع ملفّات حسّاسة كملفّ الحقوق السياسية و الثقافية للمواطنين الأكراد بالإضافة إلى ملفّ الحجاب و استقلال القضاء و التعليم و حقوق الأقليات الدينية و العرقية ، و متطلّبات العضوية في الاتحاد الأوروبي و ملف قبرص ، كلّ هذه الملفّات و غيرها ستثير بكل تأكيد حفيظة المؤسسات الكمالية و العلمانية بسبب التباين البارز بين الطرفين في وجهات النظر حول هذه الملفات الأمر الذي قد يرشّح تركيا إلى العديد من الأزمات السياسية المحدودة لأن تجذّر مفهوم دولة المؤسسات في تركيا و حالة التوازن القائمة بين مراكز النفوذ تجعل من المؤسسات الدستورية في تركيا قادرة دوما على احتواء الأزمات المحتملة .