كيف يبدو الوضع السياسي في تونس قبل شهرين من حلول الذكرى العشرين لاستلام الرئيس بن علي للسلطة؟ رغم الشكوك القوية التي تسكن الكثيرين، تولي الأوساط السياسية، خاصة منها المنتسبة لصفوف المعارضة، لهذه المناسبة أهمية خاصة. الأوساط السياسية، خاصة المنتسبة لصفوف المعارضة، تولي لهذه المناسبة أهمية خاصة، حيث يتوقع البعض أو يأملون في أن يقدم رئيس الدولة على اتِّخاذ بعض الإجراءات التي قد تساعد على حلحلة الوضع العام والسماح للمجتمع المدني بقدر أعلى من الحريات، فرغم الشكوك القوية التي تسكن الكثيرين، إلا أن هناك من هو مُصر على إشاعة حالة من التفاؤل الحذر. خلافا للتوقعات، شهِدت الأسابيع الأخيرة من هذا الصيف سلسلة من المناوشات، استهدفت وجوها معروفة بمعارضتها للسلطة، وكان أخطرها على الإطلاق تعرّض مكتب المحامي عياشي الهمامي - الذي سبق وأن احتضن إضراب 18 أكتوبر الشهير - لعملية حرق مثيرة، لكنها تبدو متعمدة. وبالرغم من أن التحقيق الذي تعهّدت به الجِهات الأمنية المختَصة، لم يكشف حتى الآن عن هوية الجاني، فقد سارع المعني بالأمر إلى اتِّهام البوليس السياسي بالوقوف وراء الحريق، وهو ما نفته الأوساط الرسمية. وقبل ذلك بفترة وجيزة، تعرّض السيد نجيب الشابِّي إلى مضايقة غريبة من قِبل الشرطة التي منعته من الجلوس في مقهى أو حتى على رِمال الشاطئ صُحبة أفراد من حزبه (الحزب الديمقراطي التقدمي). كما تجدّد الاشتباك بين رجال الأمن وأحد صحفيي قناة "الحوار" المستقلة، التي تبث برامجها من إيطاليا، ويبدو أن تطوّر أداء هذه القناة التي نجحت في تسليط الأضواء على عديد الأحداث والملفات الخاصة بأوضاع الحريات، إلى جانب اتِّساع قاعدة جمهورها خلال الأشهر الأخيرة قد بدأ يُزعج السلطات. وفي محاكمة السيد عمر المستيري، تعرّض الدكتور خليل الزاوية، عضو الهيئة المديرة للرابطة إلى جانب بعض المحامين (من بينهم المحامي رؤوف العيادي) للعنف المادي والمعنوي على يد محام ينتمي للحزب الحاكم، حدث الاعتداء حسبما أوردته مصادر حقوقية، أمام رجال الأمن الذين فضّلوا عدم التدخل. تضارب في المؤشرات ولكن هذه المُعطيات وغيرها لا تزال تحتاج إلى تفسير، لكنها في العموم جاءت خارج سِياق الانفراج المحدود الذي يجري الحديث عنه منذ فترة والذي دلّت عليه وقائع ومؤشرات سبق أن تمّ التعرّض إليها. وتكفي الإشارة في هذا السياق، إلى إطلاق دفعة جديدة من مساجين حركة النهضة وتحريك مِلف رابطة حقوق الإنسان وفتح الحوار بين وزارة العدل وعميد المحامين، الأستاذ بشير الصيد، الذي كان يُعتبر في مرحلة سابقة شخصية غير مرغوب فيها، كما اتخذ قرار بإيقاف التتبعات القضائية ضد السيد عمر المستيري. وآخر هذه الأحداث التي تصب في الاتجاه المعاكس المحاولات الجارية لغلق المقر الرئيسي للحزب الديمقراطي التقدمي بحجة أنه يستعمل لغير الغرض الذي تمت عملية الإيجار على أساسه. وتتوقع قيادة الحزب بأن المحكمة التي تنظر في هذه القضية، ستصدر حكمها بطرد الحزب من المقر، وهو أمر - إذا ما تم - فسيترك حسب اعتقاد الكثيرين آثارا سلبية كثيفة، ويزيد من حجم الشكوك في نوايا السلطة ومدى جدية استعدادها لتحقيق قدر من الانفتاح والإصلاح السياسي. وإذ تعتبر السلطة أن المسألة ليست سوى خلافا عقاريا بين صاحب العمارة والحزب، إلا أنه مع دخول رئيسة الحزب مية الجريبي ومسؤول العلاقات الخارجية نجيب الشابي في إضراب عن الطعام، بدء من يوم الخميس 20 سبتمبر الجاري، فإن مبادرات عديدة قد تتخذها أوساط المعارضة ذات الصلة الجيدة بهذا الحزب من أجل الدفاع عما وصفه البعض ب"آخر مربع للحرية في تونس"، نظرا للموقع المحوري الذي احتله هذا المقر في دعم الحراك الديمقراطي. أما بالنسبة للتحوير الوزاري الجزئي الذي أدخله الرئيس بن علي قبل أكثر من أسبوع فقد أجمعت التعليقات على كونه تقنيا ولا يستشف منه أي بعد سياسي. ورغم هذا التضارب في المؤشرات، فإن المراقبين يستبعدون أن تحُل الذكرى العشرون للسابع من نوفمبر، دون إجراءات ذات مدلول سياسي. .. وتابع التونسيون الانتخابات المغربية إذا كانت التجارب السابقة قد أثبتت بأن النظام الحاكم في تونس يظهر باستمرار عدم تأثره بما يجري في محيطه الإقليمي، غير أن ذلك لا يمنع تفاعل التونسيين بما يحدث، خاصة في دول الجوار. فالشفافية التي تمّت بها الانتخابات البرلمانية في المغرب، بعد التجربة الموريتانية وما صاحب ذلك من أجواء ديمقراطية لافتة للنظر، قد تركت أثرها بوضوح على الشارع التونسي المتلهِّف للتعبير والمشاركة، وإذ تجنّبت السلطة في تونس وصُحفها التعليق على ما جرى في المغرب، إلا أن المعلِّق السياسي القريب من مصادر القرار (برهان بسيس) قد شكّك في الديمقراطية المغربية لمجرد اعتقاد أصحابها بأن هناك إسلاميون معتدلون وأن من حقِّهم المشاركة في الشأن العام. الأكيد، أن أصحاب الشأن في المغرب لهم وِجهة نظر مختلفة، وفي مقدمتهم الملك محمد السادس، الحريص على استقرار بلاده وعرشه والذي أدرك، مثلما فعل والده في آخر عهده، بأن ترويض جُزء من ساحة الإسلاميين، هو أفضل للسلطة من رَمي الجميع في سلّة واحدة والرِّهان على تعزيز صفوف الراديكاليين. لقد توقّفت السلطات المغربية منذ فترة طويلة عن سياسة خلط الأوراق واختارت عن وعي أسلوب التمييز بين الفرقاء السياسيين، حتى وإن بدت أطروحاتهم مُتقاربة في بعض الجوانب. ورغم التحريض المتواصل من قبل أوساط سياسية وأيديولوجية، عرفت بنزعتها الاستئصالية، فقد رفض الملك الخلط بين هواة العمليات الانتحارية وبين المتمسِّكين بالأساليب السلمية. ويتَّفق المراقبون حول الاعتقاد بأن الحالة السياسية في المغرب هي اليوم أفضل مما كانت عليه خلال سنوات الرصاص، والغريب أن بعض الصحف والمجلات التونسية اعتبرت في تعاليقها أن حزب العدالة والتنمية قد فشِل في هذه الانتخابات، دون أن تُحلل ما الذي يعنيه حصوله على المرتبة الثانية وإطاحته بأحزاب الكتلة، وفي طليعتها الاتحاد الاشتراكي، الذي كان يمثل أهم حزب يساري في كامل المنطقة العربية. مخاوف مما يحدث في الجزائر خلافا للحالة المغربية، فإن ما يحدث في الجزائر يثير قلقا فِعليا لدى عموم التونسيين. فعودة العنف المنظم ونجاح تنظيم القاعدة في أن يكون له قَدم في الجزائر، مسألة لا يمكن الاستخفاف بها، خاصة بعد الذي حدث في تونس خلال شهر ديسمبر الماضي. فالسلطة في تونس تتابع باهتمام شديد استئناف الجماعات الإرهابية لعملياتها في الجزائر، هذه العمليات التي تميّزت في الأشهر الأخيرة بقسْوة ضرباتها والدقة التي اكتسبتها وقُدراتها المتزايدة على استهداف المؤسسات الرسمية، لكن المؤكد أن ما يُسمى بتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي يشكِّل حاليا ظاهرة معزولة على الصعيد الشعبي. لكن الملاحظ، أن الذين نزلوا إلى الشوارع للتَّعبير عن رفضهم لهذه الجماعات، بدعم من السلطة والأحزاب السياسية، رفعوا شعار الدفاع عن المصالحة التي شكّلت المبادرة الأساسية التي ميّزت عهد الرئيس بوتفليقة، فعلوا ذلك لأنهم لا يريدون العودة إلى جحيم الحرب الأهلية، لهذا، اعتبر البعض أن مِنطقة المغرب العربي تجِد نفسها في هذا النِّصف الثاني من العشرية الأولى للقرن الجديد بين سيناريو الانفتاح السياسي، الهادف إلى امتصاص الاحتقان، وذلك على الطريقة المغربية والموريتانية أو سيناريو التفجيرات والتبشير بالحروب الأهلية. معارضة ضعيفة ونقاط استفهام حول الرئاسيات لن يتِّضح المشهد السياسي في تونس، إلا بعد انقضاء شهر رمضان، الذي ينشغل فيه التونسيون عادة عن شؤون السياسة، لكن أجواء الصيف لم تمنع الأحزاب، ذات العلاقة الجيدة بالسلطة، من رفع اقتراحات إلى الرئيس بن علي، استجابة لدعوة وجّهها للجميع في سياق الاستعدادات الجارية للذكرى العشرين لاستلامه السلطة. كما شهدت الأسابيع السابقة إنجاز حركة التجديد لمؤتمرها الثاني، هذا المؤتمر الذي تأخّر موعده كثيرا، أراده أصحابه أن يجعلوا منه مناسبة لتطعيم الحركة برافد قوي من قاعدة واسعة لمستقلين ينحدر أغلبهم من اليسار الماركسي، لكن ما حدث خلال فعاليات المؤتمر والاستقالات التي سجّلت في أعقابه، تركت عديد التساؤلات حول مدى نجاح الحركة في تجاوز العوائق التي كانت تحدّ من نموها وتحُول دون أن تتمكّن من بناء "القطب اليساري الديمقراطي والتقدمي"، القادر – حسب تطلعات الحركة - على الوقوف في وجه الإسلاميين من جهة، وتوفير ما يصفونه ب "الخيار الثالث" من جهة أخرى، فالإجماع المنشود داخل الحركة لم يتحقق، مما أعاد أجواء الشك والاختلاف والتنازع، رغم الخطوة الهامة التي حققتها، والتي تمثلت في تعزيز صفوفها بكوادر جديدة وذات خبرات سياسية. أما حركة 18 أكتوبر، فقد استمرت في تعميق حواراتها من أجل بلورة خطة تحرك للفترة القادمة. لكن ذلك لم يمنع بقاء نقاط ظل كثيرة، لا تزال تنتظر اتفاقا واضحا بين مختلف الأطراف لتحديد الخطوات المقبلة. الجديد في هذا السياق هو التصريح الذي أدلى به السيد أحمد نجيب الشابي (الأمين العام السابق للحزب الديمقراطي التقدمي المعارض) لصحيفة "الشرق" القطرية، دعا فيه الرئيس بن علي إلى جمع كل الفرقاء السياسيين لكي "يطرح معهم أجندة الإصلاح السياسي باتجاه الحريات والديمقراطية". كما أعلن عن عدم نيته في الترشح من جديد للانتخابات الرئاسية القادمة التي ستجري عام 2009 "إلا إذا توفرت حدود دنيا". وخلافا لما قام به عام 2004، قال الشابي "إما أن يكون ترشحي محض صورة من صور الاحتجاج كالتي مارستها في السابق، فأعتبر أن تونس تجاوزت هذه المرحلة". البعض رأى في هذه التصريحات نزوعا نحو التعامل بواقعية مع المرحلة السياسية الراهنة، لكن الشابي لا يزال يعتقد بأن المدخل الوحيد لتفعيل دور المعارضة الذي أقر بضعفها، هو دعوتها للتفكير من الآن في اختيار مرشح لها لكي ينافس الرئيس بن علي في الانتخابات الرئاسية القادمة. وهو مقترح ليس فقط محل خلاف عميق بين مكونات حركة 18 أكتوبر، ولكن أيضا يجري حوله جدل ساخن داخل صفوف الحزب الذي ينتمي له الشابي. المؤكد أن ما قد يتخذ من قرارات خلال الأسابيع القادمة ستكون له صلة وثيقة بمحطة 2009، لكن ما يخشاه البعض هو أن تتورط المعارضة من جديد في حسابات وهمية وتتعمق خلافاتها في الأثناء، مما يزيدها ضعفا على ضعف وعجزا على عجز. لا شك في أن ما سيعلن عنه الرئيس بن علي في الذكرى العشرين لاستلامه السلطة، سيشكل أرضية تنطلق منها الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني لتحديد موقفها من الرئاسيات ووضع خططها للمرحلة القادمة. أما ما هو ثابت الآن، هو أن رئيس الدولة، الذي لا يزال صاحب المبادرة ويمسك بجميع الخيوط، خلافا لما يذهب إليه البعض، هو بصدد التفكير في اختيار ما يراه مناسبا من قرارات جديدة قد تشمل إطلاق سراح من تبقى من مساجين حركة النهضة والاعتراف بأحزاب وجمعيات جديدة، لكن من الثابت أيضا، أن هذه القرارات ستكون محكومة بسقف الحفاظ على استمرارية تحكم النظام في مفاصل الحياة العامة وحماية موازين القوى الراهنة، أي أنه من المستبعد حدوث منعرج كبير أو جذري في الحياة السياسية كما يأمل الكثيرون.