الحدث الرئيسي في الذكرى الحادية والعشرين لاستلام الرئيس بن على السلطة في البلاد، كان بدون منازع إطلاق سراح آخر دُفعة من سُجناء حركة النهضة المحظورة. أما الخطاب الذي ألقاه رئيس الدولة بهذه المناسبة، فقد ساد اعتقاد داخل أوساط المعارضة بأنه جاء "خاليا من قرارات جريئة، تثبت وجود إرادة قوية لتطوير الحياة السياسية بشكل جوهري"، لكن أطرافا أخرى، ومن بينها أحزاب وشخصيات تُوصف عادة بأنها قريبة من السلطة، اعتبرت أن الخطاب "تضمّن روحا إيجابية ومطمئنة". شفافية واحترام للقانون.. ولكن! في خطابه الذي استمر زهاء الساعة، وجّه الرئيس بن علي اهتمامه إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية، مؤكِّدا أن السلطة "ستُوفر كل الشروط، حتى تنتظم هذه الانتخابات في كَنف الشفافية واحترام القانون"، لكنه اكتفى بقرار "مراجعة تنظيم حِصص تسجيل وبثّ كلمات المرشحين بمؤسّستي الإذاعة والتلفزيون التونسيتين أثناء الحملة الانتخابية"، وذلك عبر "إسناد صلاحية تقويم التساجيل من حيث عدم تضمّنها لما يمثل خرقا للنّصوص القانونية الجاري بها العمل، إلى رئيس المجلس الأعلى للاتصال أو من يُنيبه". وبالرغم من أن جدلا يتكرّر في كل انتخابات حول التوقيت المحدود الذي يمنح للمرشحين في وسائل الإعلام الرسمية أو الظروف التي تتم فيها عملية تسجيل كلماتهم، إلا أن هذه المسألة اعتبرها بعض المعلِّقين على الخطاب الرئاسي "جزئية"، مقارنة بمطالب أخرى "يعتقدون بأنها أكثر أهمية وإلحاحا"، مثل مراقبة الانتخابات وفيما إذا كانت السلطة ستسمح بوجود مراقبين دوليين من منظمات غير حكومية وعدم وضع عراقيل أمام قائمات المعارضة ودعوة مؤسسة الإذاعة والتلفزيون إلى ملازمة الحِياد الفعلي والقيام بانفتاح حقيقي على المتنافسين والأصوات المخالفة، قبل الحملة الانتخابية وأثناءها. الوضع الاقتصادي والاجتماعي الجانب الآخر اللافت من الخطاب، يتعلّق بالوضع الاقتصادي والاجتماعي. وتدُلّ العبارات المنتقاة وبعض القرارات، التي تم الإعلان عنها على أن السلطة جادة في تعاملها مع هذا الملف، الذي لا توجد كل ورقاته بيدها، وإذا كانت الحكومة قد اختارت أسلوب الطمأنة في الفترة الأخيرة، حتى لا تشيع حالة الخوف في أوساط المستثمرين الأجانب، إلا أن التصريحات الصادرة عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تدعو إلى الاستعداد لدخول اقتصاديات دول المغرب العربي مرحلة صعبة. وخلافا للخطاب السائد، اعتبر السيد الهادي الجيلاني، النائب في البرلمان ورئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة (أرباب العمل)، في تصريحات نُشرت مؤخرا أن القول بأن الاقتصاد التونسي في أمان وسلام، في حاجة إلى تثبيت، مذكِّرا بأن تونس "منخرطة في اقتصاد عالمي ولها صِلة بالاستثمارات الأجنبية، بل تعوّل عليها لرفع نَسق التنمية وإحداث مواطن شغل جديدة أمام عدم قدرة الدولة والمستثمرين المحليين على تلبية طلبات الشغل المتزايدة"، وأكّد أيضا على أن صمود الاقتصاد التونسي وعدم تأثره سلبا، "رهين بقدرة أوروبا على التفاعل مع هذه الأزمة والتوقي من انعكاساتها الخطيرة"، وأبرز الضّرر الكبير الذي "قد يلحق لا قدّر الله مؤسساتنا في حال تواصل تراجُع القدرة الشرائية للمواطن الأوروبي". وقال رئيس اتحاد الأعراف، إن 3 قطاعات في تونس مهدّدة اليوم، في حال تواصل التداعيات السلبية للأزمة، وهي: السياحة الوسطى، التي تُشغّل حوالي 200 ألف عامل وقِطع الغيار لصناعة السيارات، كما دعا الجيلاني أيضا إلى نوع من الهُدنة الاجتماعية. أوضاع السجناء والمغتربين واحد وعشرون، هو عدد المساجين الذين تم تسريحهم بصيغة "السراح الشرطي" في الذكرى الحادية والعشرين من عهد الرئيس بن علي. رقمان قد يحملان رمزِية تعكِس صراعا دامَ فترة طويلة، تعزّزت خلاله مكانة وقوة النظام، في حين انهارت قوة الطرف الثاني، ممثلا في حركة النهضة وتراجع أداؤها السياسي إلى أضعف الحدود، وبهذا السّراح، يمكن القول بأن ملف مساجين حركة النهضة قد أغلِق بعد معاناة قاسية جدا دامت 18 عاما. وجاء القرار، تتويجا لصبر المعتقلين من جهة، وتحوّل قضيتهم إلى مشكلة مُزمنة، أصبحت تحتل أولوية في مطالب كل المنظمات الدولية والوطنية المهتمة بقضايا حقوق الإنسان في تونس، لكن الذي ساعد أيضا على توفير ظروف مواتية لاتخاذ مثل هذا القرار، ارتفاع أصوات من خارج حركة النهضة ومن داخلها، تطرح بإلحاح ووضوح مسألة مُراجعة العلاقة مع النظام في اتِّجاه تجنّب لغة التصعيد والقطيعة. في هذا السياق، تتنزل الرسالة التي وجّهها مؤخرا رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي إلى الرئيس بن علي، وذلك حسب مصدر مطّلع. وبالرغم من أن الغنوشي يوصف لدى الكثيرين بأنه "متشدد"، إلا أنها ليست المرة الأولى التي يقبل فيها أن يطرق أبواب رئاسة الجمهورية، إذ سبق - وفق وساطة وتنسيق مُسبق - أن رفَع سمّاعة الهاتف وطلب الإذن بمخاطبة الرئيس بن علي شخصيا، لكن أمرا ما قد حال دون إتمام الاتِّصال. بعد ذلك، لم تتجدد المحاولة، ولهذا، جاء بيان قيادة الحركة الخاص بالتعليق على عملية الإفراج، هادئا وبنّاءً ومختلفا عن تصريحات بعض المُفرج عنهم. بعد الانتهاء من ملف المُعتقلين السياسيين، تجد حركة النهضة نفسها أمام قضيّتين ستزدادان إلحاحا خلال المرحلة القادمة. القضية الأولى، تخص تسوية أوضاع السجناء السابقين، حيث لا يزال يواجه أغلبيتهم ظروفا صعبة أو غير طبيعية لتأمين حاجيات أسَرهم وأبنائهم، إذ خلافا لدول عربية كثيرة، توضع أمام السّجين السياسي السابق في تونس، عراقيل شتى تحُول دون اندماجه بشكل طبيعي في الحياة العامة وفي الدورة الاجتماعية والاقتصادية. فكثير منهم يبقى محروما لفترة طويلة من الشغل والعلاج، وحتى من امتلاك بطاقة هوية وطنية في بعض الأحيان، أما حصوله على جواز سفر، فهذا يُعتبر حُلما بعيد المنال عن الكثيرين، حتى الذين قطعوا صِلتهم بحركة النهضة وتميزوا بأفكارهم ومواقفهم الجريئة، مثلما هو الشأن بالنسبة للباحث سامي براهم، لا يزالون ممنوعين من السفر بعد أن غادروا السِّجن لسنوات طويلة. أما الملف الثاني، فيتعلّق بالمُغتربين الموزّعين على عديد العواصمالغربية، ومنهم عشرات الكوادر والمسؤولين عن حركة النهضة في المهجر. هؤلاء الذين تحمّلوا مسؤولية الحفاظ على الحدّ الأدنى من الوجود الرمزي والسياسي للحركة في ظروف الشدّة، قبل أن توجّه لهم الانتقادات من داخل الحركة وحولها بعد أن طالت الأزمة، ولم يكن الحصاد متوازِيا مع حجم التضحيات، وهو ما فتح الباب أمام أسلوب "التسوية الفردية"، وهي الظاهرة التي تفاقمت في الفترة الأخيرة وتسبّبت في تفجير جدل عاصِف بين رفقاء الدرب. ارتباك المعارضة المشكلة الأخرى، التي اعترضت الحركة في السابق ولا تزال، تتمثل في كيفية التوفيق بين ما يسمى بقيادة الداخل وبين قيادة الخارج، أي وضع حد لنمط من ازدواجية القيادة فَرضته الظروف المستجدّة بعد أن شمل العفو عددا من الكوادِر القيادية في المرحلة السابقة، والتي تشكّل ذخيرة هامّة على إثر تراجع أداء الكثيرين، لكن ظروف الداخل مختلفة عن ظروف الخارج، وهو ما قد يترتّب عنه اختلاف في مقاربة المسائل والأوضاع والتحدِّيات. وهذه أيضا مشكِلة لا تخُصّ حركة النهضة فقط، وإنما تُواجِه كل حركة سياسية تتعرّض للملاحقة، فتنقسم كوادرها إلى قِسمين، أحدهما ينشط، ولو في حالة كُمون وسرية في الداخل، وقسم عَلني في خارج البلاد يتمتّع بحرية المُبادرة والتنظيم، لكنه يتحرّك بعيدا عن نبْض الشارع وخصوصيات الواقع المحلي، وهو ما يقتضي تصحيح وضعية الجِسم التنظيمي وتوحيد بَوصلته، لإنهاء حالة الانفِصام المُرهق، الحركي والسياسي. هذه أبرز الملفّات الداخلية المرشحة لتشغل حركة النهضة خلال الفترة القادمة. وفي خطٍّ مُوازٍ لهذه التطورات الهامة، تبدو المعارضة مُرتبكة وغير مُطمئِنة، لا للسلطة ولا لبعضها البعض. ولعل بعض المُعطيات المتفرقة، من شأنها أن تُبرّر حيرة الأوساط السياسية في تونس. فالأحكام القاسية الأخيرة، التي صدرت ضدّ مجموعة من شباب منطقة الحوض المنجمي، جاءت مناقضة في روحها للعفو الذي شمل مؤخّرا عددا من زملائهم الذين صدرتهم في شأنهم أحكام نهائية، وهو ما أثار الاستغراب والتساؤل. كما أن إيقاف المحامي والبرلماني السابق مختار الجلالي على إثر حادث مرور عادي، خلّف وراءه أسئلة كثيرة، خاصة وأنه تزامن مع استنطاق زوجته السيدة أم زياد من قِبل أحد حكّام التحقيق بسبب مقال نشر في صحيفة كلمة الإلكترونية ونقلتها صحيفة "مواطنون"، حيث تمّت دعوة الدكتور مصطفى بن جعفر من قِبل القضاء بنفس التّهمة التي وُجِّهت لصاحبة نفس المقال. ولعل أهم ما يُمكن تسجيله في سياق تتبّع أوضاع المعارضة، الاجتماع الذي عقدته اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي التقدمي يوم السبت 8 نوفمبر الجاري، وذلك في أجواء اتّسمت بالانقسام الداخلي الحاد، مع حالة من الغموض لا تزال تكتنف مستقبل هذا الحزب، الذي نجح في السنوات القليلة الماضية في أن يفرض نفسه على الساحة السياسية ويُلفت اهتمام المراقبين للوضع السياسي التونسي، قبل أن ينخفِض أداؤه ويصبح مثار تساؤل جِهات متعدّدة، داخلية وخارجية. انتخابات قادمة . ومعارضة مقسمة اللجنة المركزية التي عُقدت في غِياب عدد من الكوادر القيادية الفاعلة، قرّرت بعد جدل لم يخلُ من تبادُل الاتهامات والشكوك، تمسّك الأغلبية بترشيح السيد نجيب الشابي لخوض الانتخابات الرئاسية، خارج مقتضيات الدّستور والقانون الانتخابي، والهدف من ذلك - حسب اعتقاد المتمسّكين بهذا الاختيار - هو عدم الخُضوع لإرادةِ النظام، الذي يتّهمونه بأنه تعمّد إقصاء الأمين العام السابق للحزب الديمقراطي من عملية الترشح. وبذلك، فشلت محاولة ترشيح الأمينة العامة الحالية للحزب الآنسة مية الجريبي من قِبل الأقلية. ونظرا لأجواء التوتر التي أصبحت تسود الحياة الداخلية لهذا الحزب، فقد نقلت بعض المصادر عن السيد نجيب الشابي اعتزامه بذل مزيد من الجهد لتحسين الأجواء حفاظا على وحدة الحزب واستمرار تماسكه. وبتجديد ترشيح الشابي، يجد الحزب نفسه مرّة أخرى مدعُوّا لخوض معركة سياسية بمفرده، حيث من المُستبعد أن يسانده في ذلك أي طرف آخر، بما في ذلك حركة النهضة، التي لها أولويات أخرى في المرحلة القادمة. كما يتوقّع أيضا أن يُعاد نفس سيناريو انتخابات 2004، حيث سيضطر الشابي إلى الانسحاب في آخر لحظة، وستتوالى الدّعوات إلى الالتفاف حول مرشح حركة التجديد، ممثلا هذه المرة في أمينها العام السيد أحمد بن إبراهيم، باعتباره مرشح الخيار الوحيد المتبقّي أمام الأطراف السياسية المقابلة للنظام. وهو ما يعني - كما توقّعنا في مقال سابق - اتجاه المعارضة مرّة أخرى نحو الاستحقاق الرئاسي والبرلماني في أكتوبر 2009، مقسّمة وضعيفة.