أماطت حادثة إطلاق نار على طائرة عسكرية أميركية خلال معركة صغيرة بين متمردين من الطوارق والقوات النظامية في شمال مالي غير بعيد من الحدود الجزائرية أواسط الشهر الجاري، اللثام عن الوجود العسكري الأميركي الدائم في منطقة كانت تُعتبر تقليدياً ساحة نفوذ حصرية لفرنسا. وأتت الحادثة في أعقاب مناورات واسعة استمرت شهراً أجرتها قوات أميركية وأخرى مغاربية وأفريقية عكست التركيز الأميركي الجديد على الخاصرة الجنوبية للمغرب العربي على اعتبار أنها باتت مجال نشاط لمجموعات مسلحة مرتبطة بتنظيم «القاعدة». والظاهر أن الفرنسيين الذين لم يعودوا يتحملون الكلفة الباهظة لوجودهم في أفريقيا جنوب الصحراء، وبخاصة بعد الخسائر البشرية والسياسية التي تكبدوها في ساحل العاج، انسحبوا من هذا المسرح الممتد على طول الحدود الجنوبية للمغرب العربي واحتفظوا فقط بنقاط ارتكاز رمزية. قيادة عامة لأفريقيا في المقابل بدا الأميركيون مندفعين لتعزيز حضورهم المباشر من خلال قرار تشكيل قيادة عامة خاصة بأفريقيا هي «أفريكوم» والحرص على إجراء مناورات سنوية ضخمة مع جيوش بلدان المنطقة. وينطلق الأميركيون من رؤية مهووسة بملاحقة التنظيمات الإرهابية في أي بقعة من العالم وهم صنفوا شمال أفريقيا في السنوات الأخيرة على أنه مسرح من مسارح «الحرب على الإرهاب» وكثفوا زيارات الوفود العسكرية إليه تمهيداً لتأمين حضور دائم لهم فيه. وسرعان ما طلبوا من العواصم المغاربية قبول استضافة قيادة عسكرية أميركية خاصة بأفريقيا في أراضيها، لكن الحكومات المعنية لم تُبد حماسة للمشروع بدافع الخوف من أن يزيد الأمر من تأجيج المشاعر المناهضة للولايات المتحدة، خصوصاً في ظل الاستياء العام من الاحتلال الأميركي للعراق. وعلى سبيل المثال زار تونس في أيار (مايو) الماضي مساعد رئيس الأركان الأميركي الأدميرال إدموند جام باستيان وأجرى محادثات مع كبار المسؤولين التونسيين تطرقت لمجابهة الأخطار المتنامية التي تشكلها شبكة «القاعدة في بلاد المغرب»، خصوصاً بعد التفجيرات التي هزت الجزائر والدار البيضاء في وقت سابق من العام الجاري. ولم يستبعد مراقبون أن يكون أثار مع محاوريه التونسيين موضوع استضافة مقر القيادة العامة الأميركية لأفريقيا، لكن الظاهر أنه لم يتلق رداً إيجابياً. كذلك عارضت ليبيا في شدة (أقله ظاهرياً) مشروع القيادة الأفريقية التي تسعى واشنطن لاتخاذ مقر لها في أحد البلدان المغاربية. وفي ضوء قلة التجاوب المغاربي مع المبادرة، اضطر الأميركيون لاتخاذ شتوتغارت في ألمانيا مقراً موقتاً لأول قيادة عامة عسكرية أميركية اقليمية خاصة بأفريقيا (أفريكوم). غير أن القيادة لن تتشكل قبل تشرين الأول (أكتوبر) المقبل طبقاً لما أعلنه مسؤولون في وزارة الدفاع الأميركية. وحتى الآن لم يتم اختيار مقر مركز القيادة العامة في أفريقيا والذي لن يكون على الأرجح في تونس ولا في الجزائر ولا في المغرب بعدما اعتذرت العواصم الثلاث عن استضافته، ويُرجح أن يكون في أحد بلدان الساحل والصحراء. وتسعى واشنطن الى ضرب طوق حول التنظيمات المسلحة في القارة وبخاصة في منطقة جنوب الصحراء التي اتخذت منها الجماعات الجزائرية المسلحة قاعدة خلفية لحركتها وجسراً لتموين عناصرها بالسلاح. وعلى هذا الأساس حرصت على تنظيم مناورات سنوية مشتركة مع جيوش البلدان المعنية كانت آخرها المناورات التي انتهت قبل رمضان في منطقة قريبة من باماكو عاصمة مالي، والتي كانت الثالثة من نوعها منذ السنة 2005. وأطلق على المناورات الأخيرة والتي استمرت شهراً كاملاً اسم «فلينتلوك 2007» وشاركت فيها قوات من 13 بلداً أوروبياً وأفريقيا بإشراف الولاياتالمتحدة، هي تونسوالجزائر وتشاد وموريتانيا والمغرب والنيجر ونيجيريا والسنغال وبوركينا فاسو وفرنسا وهولندا وبريطانيا. ورمت هذه المناورات التي تندرج في إطار برنامج لمكافحة الإرهاب يعرف باسم ب «الشراكة عبر الصحراء لمكافحة الإرهاب»، الى مساعدة الدول المشاركة على تعزيز قدراتها العسكرية، وتنفيذ أنظمة القيادة والإشراف والاتصالات، وإدارة العمليات الإنسانية وعمليات حفظ السلام والإغاثة في زمن الكوارث مستقبلاً. شراكة مع «الأطلسي»... إلى جانب الحضور المباشر عبر العلاقات الثنائية، دخلت الولاياتالمتحدة إلى المسرح المغاربي تدريجاً من خلال إطلاق «شراكة» بين أربعة بلدان مغاربية هي تونسوالجزائر والمغرب وموريتانيا والحلف الأطلسي اعتباراً من 1994، أي بعد خمس سنوات من سقوط جدار برلين، في إطار «الحوار» الذي أرساه الحلف مع سبعة بلدان متوسطية هي مصر والأردن واسرائيل، إضافة الى البلدان المغاربية. وتعززت «الشراكة» بإجراء مناورات دورية مشتركة وإشراك وزراء الدفاع ورؤساء الأركان في البلدان السبعة في الاجتماعات الدورية للحلف في مقره في بروكسيل. وكرس الاجتماع المشترك الأول بين وزراء دفاع البلدان الأعضاء في الحلف الأطلسي ونظرائهم في البلدان السبعة المشاركة في مسار «الحوار المتوسطي» في صقلية العام الماضي توسعة المظلة الأمنية الأطلسية لتشمل بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط عدا ليبيا. ويمكن القول إن نهاية الحرب الباردة جعلت الطريق سالكة لإنهاء حال العداء التي كانت قائمة بين بلدان عربية صديقة لحلف وارسو سابقاً وأخرى قريبة من «الأطلسي». وتطورت العلاقات خلال 13 سنة من «الحوار» إلى المناورات المشتركة وصولاً إلى منزلة قريبة من العضوية وُضعت تحت عنوان «الشراكة». ولا ترمي هذه الصيغة الى التنسيق في الحرب الدولية على «الإرهاب» التي تقودها الولاياتالمتحدة وحسب وإنما أيضاً الى توسيع مظلة الحلف بغية إدماج البلدان الشريكة السبعة فيها، مع ما يترتب على ذلك من تطبيع للعلاقات العسكرية العربية – الإسرائيلية. وسبق للحلف أن اعتمد الصيغة نفسها مع بلدان أخرى في مناطق مختلفة من العالم في مقدمها أوروبا الشرقية والبلطيق إذ أعلن بعضها انضمامه رسمياً للحلف، ما جعل جناحيه يمتدان إلى أوسع دائرة عرفها في تاريخه فهو يكاد يصبح الإمبراطورية الجديدة التي لا تغرب عنها الشمس. وكان لافتاً أن تونس استضافت في حزيران (يونيو) الماضي أول ندوة من نوعها منذ انطلاق التعاون بين الحلف والبلدان المتوسطية رمت للتعريف بأهداف الشراكة مع بلدان جنوب المتوسط في حضور الأمين العام المفوض للحلف اليساندرو مينوتو ريزو. وينطلق التركيز المتزايد للحلف على منطقة شمال أفريقيا والصحراء الكبرى من الشعور بأن الخطر الإرهابي تحرك من شرق أفريقيا، حيث تعرضت السفارتان الأميركيتان في نيروبي ودار السلام لتفجيرين ضخمين في أواخر التسعينات، إلى غرب القارة وتحديداً الى جنوب الصحراء. وفي السنوات الأخيرة أثمر التعاون بين الحلف من جهة والبلدان المغاربية والأفريقية من جهة ثانية عمليات استخباراتية وعسكرية ناجحة أبرزها تفكيك شبكة كانت تخطط، طبقاً لمصادر أميركية، لعمليات في مضيق جبل طارق في 2002، وضبط الرجل الثاني في «الجماعة الإسلامية للدعوة والقتال» الجزائرية عبدالرزاق البارا الذي اعتُقل في تشاد السنة 2004 وهو ما زال مسجوناً في الجزائر. وجدّد وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد، خلال جولة قام بها على بلدان مغاربية قبل استقالته، التعبير عن مخاوف واشنطن من احتمال وجود نشاط لجماعات مسلحة في الصحراء وإن عبّر رسمياً عن ثقته بأن المنطقة المغاربية «في مأمن من الإرهاب». وباتت تقارير أميركية تصنف منطقة جنوب الصحراء على أنها «بؤرة رئيسية للجماعات الإرهابية في أفريقيا» في الفترة الأخيرة. كذلك استند تطوير التنسيق بين الحلف وبلدان المنطقة في السنوات الأخيرة إلى تواتر تقارير استخباراتية أفادت أن المغرب العربي بات أحد المعابر الرئيسية لعناصر تلك الجماعات نحو أوروبا تحت ستار الهجرة السرية. ... اعتراضات فرنسية غير أن فرنسا لم تفقد دورها العسكري في المنطقة، وطبقاً لمصادر عليمة فإن تعاونها مع البلدان المغاربية تكثف ولم يتراجع في السنوات الأخيرة، خصوصاً مع الجزائر التي اعتمدت على سلاح وعتاد فرنسيين متطورين لمجابهة الجماعات المسلحة. كذلك أشارت مصادر إعلامية إلى أن المسائل الأمنية طغت على محادثات الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لمناسبة الجولة الأولى التي قام بها على كل من الجزائروتونس في تموز (يوليو) الماضي. إلا أن الفرنسيين يُقللون من حجم الخطر الإرهابي في المنطقة ويؤكدون أن الأميركيين يبالغون به ويُضخمونه لتبرير دخولهم العسكري القوي إلى المنطقة. وتزامن مسار إدماج العرب في مظلة الحلف مع تواتر الحديث عن وضع خطة تخص دوره المستقبلي في الشرق الأوسط بعد استكمال الانسحاب الإسرائيلي من غزة. واكتملت ملامح الخطة في الاجتماع غير الرسمي لوزراء خارجية البلدان الأعضاء في الحلف في العاصمة الليتوانية فيلنيوس في نيسان (أبريل) 2005، لكنها جوبهت بمعارضة فرنسية لأي دور للحلف في الشرق الأوسط أو في دارفور. وساندت ألمانيا في أيام الثنائي شرودر – فيشر الموقف الفرنسي معتبرة أنه من السابق لأوانه الحديث عن دور للحلف في إحلال الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط أو السودان، بمعنى أنها اعترضت على الوجود العسكري المباشر للحلف في المنطقة، إلا أن هذا الموقف بدأ يتغير في ظل حكومة انغيلا مركل المتصالحة مع واشنطن. وعلى رغم المشاركة الفرنسية البارزة في اجتماعات الحلف، فإن لدى باريس شعوراً بأن الريح تجري ضدها لأن موقعها، الأقلي أصلاً، تضعضع بفعل إدماج بلدان البلطيق وأوروبا الشرقية المصطفة وراء واشنطن في هياكل «الأطلسي». وشكل إدماج بلدان شمال أفريقيا في مظلة الحلف ضربة واضحة لفرنسا التي كانت تحتكر تقريباً التعاون العسكري مع تلك البلدان، كما أنها ضربة للمشاريع الأوروبية لإنشاء نظام دفاعي إقليمي وأشهرها تشكيل قوات «يوروفورس» في أواخر التسعينات. جولة شيفر المغاربية وتتوزع علاقات التعاون بين البلدان المغاربية والحلف على عشرين مجالاً من ضمنها تأهيل القوات المسلحة وإصلاح المنظومات الدفاعية ومعاودة هيكلة أجهزة المخابرات العسكرية والقيام بمناورات مشتركة ومكافحة الكوارث الطبيعية. إلا أن قطب الرحى فيها هو التنسيق «للوقاية من وقوع هجمات إرهابية وإحباطها في حال حصولها». كذلك تقوم بوارج الحلف منذ فترة بتفتيش السفن التجارية التي تعبر المتوسط للتأكد مما إذا كانت تحمل على متنها أسلحة محظورة أو مهاجرين غير شرعيين. وفي هذا السياق أيضاً ساهمت قوات خاصة من البلدان المغاربية الأربعة المشاركة في «الحوار المتوسطي» في عمليتين كبيرتين للحلف هما «أكتيف أنديفور» (Active Endeavour) في المتوسط و «فلينتلوك» (Flintlock) في منطقة الصحراء. وعلى هذا الأساس زاد الأميركيون من حجم دعمهم المالي لبرامج التدريب المشترك مع وزارات الدفاع المغاربية وعززوا من حضور قواتهم في المنطقة. وكان لافتاً أن زيارات قطع من الأسطول الأطلسي إلى موانئ جنوب المتوسط تكثفت في السنوات الأخيرة خارج فترات المناورات الجماعية، وبات «مألوفاً» أن تقوم مدمرات وبوارج من البلدان الأعضاء في الحلف زيارات إلى الموانئ المغاربية مرات عدة في السنة لتعميق تبادل الخبرات والمعلومات. ويُرجح أن تشكل العلاقات الجديدة مع الحلف عنصراً مهماً في تحديث جيوش البلدان المغاربية الشريكة على صعيد التسليح والتجهيز وعلى صعيد تحسين مستوى تأهيل القوات وتطوير أدائها. ويشكل هذا الجانب مظهراً من مظاهر الإدماج التدريجي للبلدان المغاربية في المنظومة الأطلسية والذي يعتبر الأميركيون المغرب أنموذجاً ناجحاً في سياقه، إذ أنه يُصنف باعتباره «الحليف الأكبر خارج دائرة البلدان الأعضاء». وتتجسد تلك العلاقة الخاصة من خلال منح تسهيلات واسعة للقوات البحرية والجوية للحلف في الموانئ والمطارات العسكرية المغربية. وأفيد السنة الماضية أن الحلف يدرس مشروعاً لتحديث المطارات المغاربية الجنوبية المتاخمة للصحراء بغية تطوير مهابط الطائرات كي تكون قادرة على استقبال الناقلات العملاقة، تحسباً لعمليات كبيرة محتملة، لكن لم يُكشف عن مصير تلك الخطط. قُصارى القول إن المغرب العربي بات ساحة لمنافسة عسكرية أميركية - أوروبية تحت ستار الحرب على الإرهاب وأن «الأطلسي» وضع قدماً ثابتة في المنطقة من خلال العلاقات المتعددة التي نسجها مع أربعة بلدان مغاربية، والتي يُرجح مُحللون أن تنضم إليها ليبيا بعدما استكملت تطبيع علاقاتها مع الولاياتالمتحدة وإطلاقها دعوات لإقامة تعاون عسكري وأمني مع واشنطن. ومن غير المستبعد أن تكون هذه المسألة مُدرجة على جدول أعمال الزيارة المرتقبة لوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إلى ليبيا أواخر العام.