اذا كانت أغلب وكالات الأنباء العالمية تشير ضمن نصوص قوانينها الأساسية الى موضوع استقلاليتها وعدم انحيازها في التغطية الخبرية فان الأمر يبقى رهين تأمل ونقاش منساب بالنظر الى الجهات الداعمة لهذه الوكالات أو بالتأمل في الدور التاريخي الذي لعبته هذه المؤسسات الاعلامية في علاقتها بنظم الحكم في بلادها أو حتى في المستعمرات التي امتد اليها السلطان العسكري والسياسي والاعلامي للبلدان التي انطلقت منها . يضاف الى قضايا الدعم المالي الحكومي والرسمي أو الدعم السياسي والأدبي الصادر عن البلدان الحاضنة موضوع اخر لايقل أهمية وهو دور مؤسسي هذه الوكالات في تطور عمل مؤسساتهم التي حظيت بالاشعاع والانتشار في الساحات العالمية . بالنظر الى مسيرة أربع أشهر وكالات أنباء عالمية فانه يمكن القول بأن مسألة الاستقلال والحيادية تبقى أمرا عسير المنال بحكم عنصري التمويل أو الدور السياسي المباشر الذي لعبته على سبيل المثال كل من وكالة الأنباء الفرنسية ووكالة رويترز للأنباء أثناء الحقبة الاستعمارية أو طوال الحرب العالمية الثانية , اذ أن الثابت أن كليهما انحاز الى موضوعة المقاومة الوطنية ضد دول المحور أو أنهما ساهما في الانتصار بشكل أو باخر في الترويج للانتصارات العسكرية التي حققتها جيوش فرنسا وبريطانيا في الدول المستعمرة. وبالرجوع الى بعض المعطيات التاريخية فان وكالة الأنباء الفرنسية وضعت عند التأسيس سنة 1944 تحت اشراف وزير الاعلام الفرنسي بحيث يديرها مسؤول يعين بمرسوم حكومي , وهو ماحصل بوضوح حين تولى ادارتها "تولي بورجون" المعروف بنضاله في قيادة الوكالة السرية التي عملت على مقاومة الاحتلال النازي ومناوئة مصالحه أيام حكومة فيشي العميلة . واذا كان القانون الأساسي للوكالة الفرنسية ينص صراحة على الاستقلالية من خلال بند واضح يرد فيه مايلي : " وكالة الأنباء الفرنسية هي مؤسسة عامة مستقلة تعمل على أسس تجارية " فان البنود الواردة في نفس القانون تؤكد ماتحظى به هذه الوكالة من دعم مالي حكومي ورسمي قصد سد العجز المالي في الموازنة بين الايرادات والمصروفات , وهو مايجعل من هذا الدعم المالي الناعم مؤثرا بشكل أو باخر على استقلال التغطية الخبرية وموضوعيتها ,اذ كثيرا ماتدفع الوكالة ثمنا لهذا العون في شكل تبعية يمكن تلمس أثرها في التغطيات الاخبارية المتعلقة بشؤون دول العالم الثالث والدول المنضوية ضمن الدائرة الفرانكوفونية. ان التأمل في تركيبة المجلس الاداري للوكالة الفرنسية يؤكد أيضا الاشراف الحكومي عليها , حيث يتشكل مجلسها من ثمانية أعضاء يترأسهم مستشار للدولة تنتخبه الجمعية العمومية لمستشاري مجلس الدولة بأغلبية الأصوات . أما بالنسبة لرويترز التي اشتهرت بالموضوعية فانها لم تتوان في تلوين الأخبار وتزييفها لمصلحة التاج البريطاني , وهو مالوحظ بشكل مباشر عند احتلال بريطانيا العظمى لكل من مصر والسودان , حيث بررت الوكالة الاستعمار في الصحافة والأخبار , وهو ماانعكس لاحقا على الدعم الحكومي الرسمي لها في اطار مامنحت اياه من امتيازات جعلتها تتفوق على وكالة هافاس الفرنسية انذاك , كما جعلها تحظى بدعم مباشر من الجيش البريطاني في تغطياتها الاعلامية وهو ماانعكس على أدائها من خلال تحقيق السبق الاعلامي وترسيخ أقدامها في أكثر من مستعمرة على اعتبار أنها امتداد للسلطة السياسية والعسكرية لبريطانيا . ولعل أكثر مايلفت الانتباه في مسيرة وكالة رويترز وموضوع غياب الاستقلالية هو أن أحد مراسليها شغل منصب ضابط الحملة الاستعمارية على السودان وهو "ريجنالد وينجت" الذي أنعم عليه بلقب سير وأصبح حاكما عاما للسودان فيما بعد ! هذا ولايفوتنا أيضا التذكير بتولي "رودريك جونس" مسؤول رويترز لمهمة مدير الدعاية في وزارة الاستعلامات البريطانية ابتداء من سنة 1915 ليتحول دور الوكالة أثناء الحرب الكونية الأولى وما بعدها الى موثق للصلات بين أجزاء الامبراطورية البريطانية والى مستحث للروح المعنوية لجنود الحلفاء . أما بالنسبة لوكالتي الأسوشيتد براس واليونايتدبرس انترناشيونال فانهما وان تظاهرا في البداية بمناوئة هذا الاستغلال الحكومي القادح في الاستقلالية ومن ثمة رغبة رويترز والفرنسية في ترويج وجهة النظر الأوروبية في القارة الأمريكية, فانهما لم يكونا أفضل في موضوع الاحتكار الاعلامي والرغبة في الترويج للنفوذ السياسي والعسكري الصاعد للولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى , لتنجح بذلك وكالة الأسوشيتد برس في غزو اليابان بمعاونة صحفيين يابانيين وهو مااعترفت به رويترز ابتداء من سنة 1932 . والحقيقة أيضا أن الوكالتين الكبيرتين على مستوى أمريكا والعالم , كانتا تعملان متحدتين الى جانب رويترز والانترناشيونال نيوز سرفيس من أجل دحر دول المحور ودعم الموقف السياسي والعسكري للولايات المتحدةالأمريكية . يمكن القول بأن مؤسسي وكالات الأنباء لعبوا دورا رئيسا في التأثير على التوجهات العامة لهذه الوكالات كما دورا بارزا في تطويرها والنهوض بها من واقع المكاتب الاخبارية المتواضعة الى واقع الوكالات العالمية التي تمتد رقعة تأثيرها الاعلامي والسياسي الى خارطة جغرافية واسعة تتوزع بين القارات ومناطق النفوذ السياسي للبلدان الحاضنة لها . ولعلنا لانخطئ التقدير اذا قلنا بأن أبرز مثالين على هذا الدور الفاعل للمؤسسين يمكن رصده بشكل واضح في مسيرة وكالة رويترز ووكالة الأنباء الفرنسية المنبثقة عن وكالة هافاس التي سبقتها هيكلة ونشأة ومهدت لها الطريق عبر ماورثته عنها من وثائق ومنشات وتقنيات ورصيد واسع من العلاقات مع الصحف والاذاعات والمؤسسات الحكومية والاقتصادية وحتى الديبلوماسية . وبالنظر الى تاريخ الوكالات الاخبارية وظهورها على المشهد الاعلامي الدولي فانه لايمكن الحديث عن دور بارز للأشخاص والمؤسسين دون الوقوف على تجربة هافاس بصفته أول مؤسس لوكالة انباء على مستوى العالم . فلقد فطن شارل لوى هافاس اليهودي البرتغالي الى أهمية الأخبار في ميدان السياسة والاقتصاد والحرب والى حاجة المسؤولين عنها الى المعلومة والخبر ,فحول مكتبه الخاص من مكتب اتصالات ومراسلة الى وكالة للانباء حملت اسمه الشخصي وانتقلت بالمادة الخبرية من اطار الاشاعة والتلاعب بالأفكار الى اطار التقرير الواقعي الصحيح والسريع عن الحوادث والوقائع . كان الحدث سنة 1835 حين انطلقت هافاس من مكتب متواضع بالعاصمة باريس , لتنافس ثم تتفوق على مكاتب الأخبار التقليدية , وقد استطاع صاحبها رسم طريق النجاح بفضل قدرته على ربط شبكة واسعة من العلاقات وبفضل الاعتماد على معاونين ذكيين أصيلي انتماء يهودي . فبضل الاعتماد على مصادرخبرية متعددة وبفضل احسان اختيار المعاونين من أمثال رويترز وفولف استطاع هافاس صناعة اعلام جديد التقى مع تطلعات الصحافة المستقلة عن الأحزاب والحكومات وهو ماجعله يكتسح السوق الاعلامية بقوة . ولقد لعبت شخصية هافاس دورا مركزيا في نجاح مهامه الاعلامية وتألق وكالته التي انبثقت عنها لاحقا الوكالة الفرنسية , حيث يذكر المؤرخون للاعلام تميزه بالذكاء واتقان عدة لغات أجنبية كما سعة ثقافته واطلاعه وكثرة سفراته وتعلقه بالأفكار الجديدة وتأييده للاراء الحرة . كل هذه الصفات جلبت له النجاح الباهر وحولت مكتب وكالته المتواضع بشارع جون جاك روسو الى قبلة لانظار الساسة والتجار وكبار الصحفيين . وقد طبعت نظرة شارل هافاس في الجمع بين مسيرة الاعلام والاعلان تطور مسار الوكالة سنة 1857 حين ضم اليها الشركة العامة للاعلانات , وهو ماعابه عليه النقاد لاحقا عبر تسليط الضوء على خلطه بين وظاتف وكالة الأنباء ووكالة الاعلان . الا أنه بالنظر الى الظروف الموضوعية التي عايشها , يمكن تفهم هذا الاختيار في الجمع بين وظيفة وكالة الأنباء ووكالة الاعلان , اذ لم يكن من السهل عليه ولاعلى ابنه أوجست الذي خلفه التخلص من الأعباء الاقتصادية المكلفة دون الاعتماد بشكل أو باخر على المهمة الاعلانية في الصحف الشعبية . ولقد أتاحت ايرادات هافاس من الاعلانات تعيين المراسلين في عواصم أوروبا المختلفة وهو ماخوله لاحقا تقديم مادة اعلامية ثرية للسياسيين والتجار والحصول على شراكة اخبارية مع أكثر من مائتي صحيفة تعاقد معها سنة 1860 . وكنتيجة مباشرة لقوة هافاس الاعلامية والاقتصادية استطاع هافاس احتكار صناعة الصحافة في جميع انحاء فرنسا والاقليم الأوروبي ليس فقط على مستوى الموضوعات السياسية بل حتى في اطار المواد القصصية والترفيهية , لتبلغ بذلك كوكالة ذروة قوتها الاقتصادية حين تجاوز رأسمالها خمسمائة مليون فرنك فرنسي , بل انها استطاعت بفضل ماتملكته من نفوذ سياسي ومالي طبعها به مؤسسها أن تنافس الوكالات العالمية الأخرى وبالخصوص رويترز البريطانية وفولف الألمانية . وبوجه عام فانه اذا نظرنا أيضا الى وكالة فولف الألمانية التي أسسها احد معاوني هافاس في وقت لاحق أو الى وكالة رويترز التي أسسها أيضا أحد أشهر معاونيه , فاننا نتيقن بأن وكالات الأنباء ترتسم معالمها من خلال شخصية المؤسس الاعلامية والمعرفية وعلاقاته السياسية والاقتصادية كما مواقفه من قضايا الحرب والسلم والاحتلال , وهو ماينطبق فعلا على تجارب اشهر وكالات الأنباء العالمية من مثل رويترز التي تطبعت نشأة وتطورا بشخصية مؤسسها اليهودي بول جوليوس رويتر أو وكالة فولف الألمانية التي التصق مصيرها وتطورها بشخصية برنهارت فولف . وبالتأمل في شخصية هذين الأخيرين فانه يمكن القول بأن ماتميزا به من ذكاء وموهبة في استقاء الأخبار بالاضافة الى شبكة علاقات اكتسباها من خلال خبرتهما بهافاس هذا بالاضافة الى قرب مكاتب وكالاتهما من مواقع البنوك والأعمال ...كل هذا ساهم في وضع بصمات واضحة على مسيرة اعلامية اتسمت بها اثنتان من اشهر الوكالات الأنباء العالمية التي عرفها العالم في وقت اتسم بكثرة الحروب والصراعات والتقلبات السياسية . هذه التقلبات السياسية يضاف اليها مالهؤلاء المؤسسين من طموح اعلامي جعلهم يغادرون باتجاه عواصم جديدة انطلقوا منها في مسيرة اعلامية مستقلة متواضعة في البداية ولكنها كانت ذات أثر عالمي منذ أن شقوا طريقهم الى التعامل مع الصحف الانجليزية أو الألمانية , هذه الصحف التي اكتشفت قيمة مايقدمونه من خدمات اخبارية اتصفت بالمجانية في البداية وبالقيمة المالية والسياسية والاقتصادية الكبرى حين عرفوا مسارهم الناجح الى جمهور الساسة وقادة الحروب وكبار التجار وأصحاب المال والأعمال ومن هناك شقوا طريقهم المعبد نحو الفعل الاعلامي العالمي الموازي للفعل السياسي والعسكري على الساحة الدولية .