تتعدد مظاهر الرفض والمقاومة، وتتجدد معاقل الصمود والمواجهة، وتدخل البلاد التونسية منذ أيام في مشهد سياسي أكثر اختناقا واحتقانا، بدخول قيادات الحزب التقدمي في إضراب جوع مفتوح من أجل استرجاع مقرات الحزب المقموعة. تتجدد هذه المظاهر المؤسفة والتي تؤكد في أقل مستواها على حالة اليأس والانغلاق المستشرية في المشهد العام، وإلا كيف يمكن فهم التجاء كل من الأستاذ نجيب الشابي والأخت ميا الجريبي إلى المخاطرة بحياتهما من أجل حقوق بديهية ضمنها العقل البشري والإنساني قبل أن تؤكدها مواثيق وبيانات ودساتير؟. لكن مع تعدد مواقف المقاومة والصمود يقابلها ثبات ظاهرتين أساسيتين: · تصلب النظام ولا مبالاته وسعيه الدائم إلى تهميش هذه الحوادث والتصغير من شأنها ومواجهتها بالتعتيم أحيانا، أو بالعصا، أو بكليهما أحيانا أخرى. · أما الظاهرة الثانية وهي التي تعنينا في هذه الورقة وهي التي تقض المضاجع وتجعل الحليم حيران، هو تواصل الغيبة الغريبة والمزعجة والمحيرة للشارع التونسي ولواذه بالسكون والانتظار. الغيبة الكبرى حيرة ودهشة تنتاب المتابع لشؤون السياسة في العالم العربي إجمالا وهو يرى خروج الجماهير في عديد البقاع رفضا ومقاومة للاستبداد، فكانت ثورات أوكرانيا وجورجيا وحتى الطوغو، وغيرها ممن سبق ولحق، وغابت جماهيرنا عن الفعل وبقيت خارج التاريخ ولا تزال بين غيبوبة وغيبة وغياب لا يعلم نهايتهم إلا الله ! وقد تعرضت لهذا بإسهاب في عناوين متفرقة في كتابي " الديمقراطية ورحلة الشتاء والصيف" [1]. الحالة التونسية ليست استثناء في هذا الواقع المرير ولا تخرج من هذا التصنيف، فقد بقيت الجماهير غائبة عن موطن الفعل والتجأت إلى زاوية الانتظار والمتابعة من بعيد، والمشي حذو الحائط كلما تململت المعارضة ودخلت في مواجهات سلمية مع الاستبداد، وفتحت بابا للمقاومة، من أجل تأسيس مشهد عام متحرر ومستقل! السؤال إذا ليس جديدا ولا يحمل أي فرادة ولكنه تكرار وتجديد يصاحبان حيرة متفاقمة وشبه عجز بدأ يطل بأطرافه بكل قوة، ويدفع بثقله عند البعض نحو مواطن اليأس والاستقالة ومغادرة الساحة على عجل!!! لماذا خيار الكهف ؟ الإجابة متعددة ولا شك تتقاسمها أطراف ثلاثة : · سلطة متشددة ألقت بظلال من الرعب على المشهد وأعطت نماذج في معاملاتها القاسية لكل من تحدثه نفسه بالمعاكسة أو بالتغريد خارج السرب بصوت عال أو خفي، وما جرى للحركة الإسلامية وأتباعها ليس ببعيد، فاستوعبت الجماهير الدرس القاسي ولاذت بالصمت حفاظا على ما تبقى، وهي لا تريد دخول معركة منقوصة لا تتساوى فيها رهانات النصر والفشل. · تفشي عقلية الإحباط واليأس من أي تحول أو تغيير خارج دواليب القصر، فهيمنت ثقافة "الدنيا مع الواقف" و"فك رأسي واضرب" و "الي جابتو ساقيه العصا ليه" وهذه الثقافة التي ولّدت هذه العقلية لا يجب استنقاصها من أي رصد لسبب تخلف الجماهير، بل أني أزعم أن البداية تكون من هنا، من هذا الباب النفسي الذي بسقوطه تسقط عقلية وثقافة عوّل عليها الاستبداد ووظفها، ثم ُيبنَى من بعدها على بياض. · نصيب المعارضة وهو المهم في هذه الورقة والذي يفك أسرنا من منهجية المؤامرة ويدفعنا إلى الوقوف على سلبياتنا ومراجعة جدية وسليمة لمواقفنا ومنهجياتنا، وهو ما سنسعى إلى تبيانه في الفقرات اللاحقة. لقد كسب النظام ولاشك أحد عناصر معادلة الانتصار والهيمنة بتحييد موقف جانب كبير من النخبة أو إدماجها داخل أجهزته، ولقد كان لليسار باع في هذا التقارب والقبول، كما سعت السلطة ونجحت في تكبيل الجماهير بمديونية عالية حتى أنه لا يكاد يخلو بيت في تونس من نصيبه من همّ بالليل وذلّ بالنهار من ديون أصبحت عصا مرفوعة على رأسه لا تتركه بدون أغلال! لكن نصيب المعارضة وافر الظلال في أسباب هذا الانسحاب ونخاله أساسي في كسر طوق هذه السلاسل والعودة بالجماهير إلى ميادين الفعل. نخبوية العمل المعارض، المقتل والنهاية! سؤال ننطلق به في تحليلنا المتواضع، هل أصبح العنصر الجماهيري مبعدا ومحسوما فيه، والاعتماد الأولي والأساسي على عمل معارض يستند إلى النخبة ويستبعد الشعب، تحمله الصفوة كما تحمل نعوشا على أعناق واهية؟ هذه الحقيقة المرة تؤكدها اختيارا أو اضطرارا الأحداث الأخيرة لإضراب الجوع حيث انطلق المسار نخبويا بدخول قيادة الحزب التقدمي، وتواصل نخبويا في مستوى المساندة، وبقي الهدف نخبويا متمثلا في إعادة المقار المغتصبة إلى أهلها. وهنا مربط الفرس وهنا يكمن إحدى نقاط ضعف العمل المعارض في تونس وخيباته المتواصلة. فمع تواجد عوامل أخرى تُحسَب سلبيتها على المعارضة من مثل عملها المرتبط أساسا بعامل الانتظار، ونضال المناسبات والمستند إلى ردات الفعل أكثر من صنع الحدث، ومع هامشية وحدة نضالية ضعيفة وغير ممنهجة [انظر في هذا الباب مقالنا حول وحدة المعارضة] [2]، فإن عامل النخبوية في العمل المعارض يشكل إحدى الثنايا الملتوية والتضاريس الصعبة لبلورة عمل معارض ناجع وسليم. إن الفعل المعارض في تونس كثيرا ما ينطلق ويتضخم ويتواصل كاستجابة لمشكل أو حدث نالا طرفا من المعارضة الحزبية أو الجمعياتية، ثم يكاد يغيب هذا العمل المعارض المتميز من إضراب جوع واعتصام لقيادات ومنتمين، ويصبح من النوافل الميدانية، لما يقع الحدث خارج إطار البناء الحزبي وأروقة الجمعيات الحقوقية. هل سمعنا بعمل معارض متميز ومباشر يتجاوز البيان والتنديد ونحن نسمع بالجور الذي طال أصحاب الشهادات، أو الأساتذة المرفوتين، أو طرد عمالي في جهة من البلاد أو في مؤسسة عامة أو خاصة؟ هل سمعنا بموقف معارض ينزل إلى الساحة في رموزه وقياداته لما يقع سطو مقنع أو مباشر أو اعتداء وجور على ممتلكات أشخاص وأفراد عاديين، ونكرة في المستوى الحزبي أو الجمعياتي المعارض؟ هل سمعنا بممارسة ميدانية معارضة متقدمة لما يحدث من انتهاكات لحقوق أفراد وأسر، كان ذنبهم أنهم اعتقدوا أن أبواب السجن الجائر تركوها وراء ظهورهم لما غادروها، وإذا بهم يرون أن السجان اصطحبهم داخل بيوتهم وفي وسط أحيائهم وقراهم؟ هل سمعتم بانتفاضة ميدانية لرموز وقيادات من أجل هذا الجور البواح، فيدخل الجميع في إضرابات واعتصامات لرفع هذا الكرب وتجنب إطالة هذه المأساة؟ سأتوقف وجعبتي لا تزال ملآنة ولكنه احترام للجميع وترك الباب مفتوحا للفعل الحازم! إن هذه المنهجية الخاطئة التي لا تلامس مباشرة هموم هؤلاء الأفراد والجماعات ولا تتبنى قضاياهم بفعل معارض سلمي متقدم يحمله الرموز قبل القاعدة، تمثل إحدى الأسباب التي جعلت الجماهير التونسية لا تكون في الموعد حين ينادي منادي المقاومة والصمود والسند. إن اليوم الذي يرى فيه المواطن البسيط أن همومه اليومية من كراء مرتفع، وديون ساحقة وغلاء معيشة، ورشوة مستفحلة، وفيضانات تهلك الحرث والنسل، تستنفر المعارضة في أعلى بنيانها وفي أعظم ممارساتها السلمية، فإنه سيلتحق بالركب وسيعيد إرسال المصعد كما يقول المثل الفرنسي [il renvoie l'ascenseur] ولن يتقاعس لحظة في ذلك، فالمروءة جزء من تراثنا و"الرجولة" فعل ميّزنا على غيرنا، والتاريخ يشهد لنا ولا علينا. إن اليوم الذي يعتقد فيه التونسي أن هناك أحزابا وجمعيات ممثلة في رؤسائها وقياداتها وهي تعطي النموذج في التضحية من أجله، فإنه لن يتأخر عن إتباع القدوة والمثال الحيّ في دعم مطالبنا من أجل الحرية والعدل للجميع، ومن أجل استرجاع المقار والمكاتب، وسوف يدخل في إضرابات جوع، أو في مقاومة سلمية، كثيرا ما راودتنا وفشلنا في إحداثها. ختاما لقد ظلت الجماهير التونسية غائبة عن ميدان الفعل، وشكلت الحلقة المفقودة في سلسلة العمل الناجع من أجل إحداث التغيير السلمي في البلاد، وكان غيابها هذه المرة أكثر بروزا، ولن نبرر هذا الغياب بالتعتيم والمحاصرة أو عدم معرفتها بشوارع العاصمة حيث مقراتنا ومكاتبنا وإضراباتنا، فالكل على علم بالحدث والفضائيات مرت من هنا ودخلت كل بيت وغرفة، ولكنها مع ذلك لم تستجب وخيرت الجماهير الاعتصام بالزوايا، وقاطعت الاستجابة، ولاذت باللامبالاة و فضلت مغادرة ساحة الفعل... إن ذلك اليوم الذي تلتقي فيه مطالبنا بمطالب الجماهير هو اليوم الذي يخط لما بعده، وهو يوم الحسم، حين ذلك فإن ندائنا لن يكون نداء في الصحراء ولا صراخا قي جوف بئر معطلة... عند ذلك، وعند ذلك فقط نكون قد وعينا دورنا كمعارضة تريد النجاح وتعمل على توفير سبله، معارضة تلتصق بهموم الجماهير مباشرة وتستعد قولا وفعلا على التضحية بالغالي والنفيس من أجل إسعادها وإسعاد الوطن. هوامش [1] انظر خالد الطراولي "الديمقراطية ورحلة الشتاء والصيف" مركز الحضارة العربية القاهرة، 2006، ص 45/ 66. * الجماهير العربية وعقود الغيبة * جماهيرنا والمحنة بين فقدان الزعيم وارتجاج الثقة وغياب السند * الجماهير العربية بين الغفلة والاستخفاف * الجماهير العربية وإرهاصات الخروج [2] خالد الطراولي "حول الوحدة النضالية..كلمات إلى المعارضة" موقع اللقاء الإصلاحي الديمقراطي: www.liqaa.net ركن اللقاء السياسي. Octobre 2007