هل اطلعتم مثلي على الملف الصحي للسجناء السياسيين التونسيين؟ هل بقيتم مكانكم ولم تغادروا الإطار؟ هل استطعتم إنهاء قراءته ولم تشعروا بالدوار؟ هل استطعتم أن يغمض لكم جفن في تلك الليلة؟ هل تسليتم مع صغاركم وملأتم البطون واستطعتم نسيان الحدث؟؟؟ أسئلة ألقيها بكل مرارة على نفسي قبل غيري وأمام الجميع، أسئلة ليست للتعجيز ولا للإحراج، ولكن للإخراج كما يقول الفقهاء... مشاهد يشيب لها الولدان، صور تصيب العقول بالهذيان، وتترك الحليم حيران، حقائق تقشعر منها الأبدان... مشاهد لا تبقي للحرف معنى ولا للكلمة صوت ولا للحديث أوقية من جياء... مشاهد تعجز اللسان وينحبس القلم ويتوقف الزمان، ويجثو التاريخ على ركبتيه يبحث عن سند... وتبقى الصورة ثابتة حيث لا صوت ولا ظلال، سوى كلمات تصعد إلى السماء تقطع الأنفاس والأوصال، ولا تترك للحياة معنى...لولا الصبر... ليتردد صداها في الآفاق عاليا مدويا حزينا : لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟؟؟ اقرؤوا معي إن شئتم هذه الفقرات واثبتوا في أماكنكم إن استطعتم يرحمكم الله [1]: " فقد خلالها 3/5 من حجم الرئتين... أجريت له عملية يوم 12 نوفمبر 2005 واستؤصل نصف كبده... وقعت له جلطتان في السجن سنة 2005... تعرض لجلطتين بسبب مضايقته و مضايقة عائلته وأبناءه... اختل عقليا بسبب التعذيب... سل في المخ وفقدان الذاكرة... وجد مشنوقا في منزله... ألقى بنفسه من على سور القصبة فمات... وجد مشنوقا في شجرة زيتون... اختلوا ذهنيا بسبب التعذيب او الاهمال الصحي او كثرة الضغوطات... أوجاع حادة على مستوى الرأس أدت في عديد الأحيان إلى غياب الوعي... اضطرابات في النفس أثناء النوم تصل إلى حد التوقف على التنفس... تلف على مستوى أعصاب المخ أدى في الأخير إلى الوفاة... مرض الربو (الفدة )... التهاب فيروسي للكبد من نوع ب... سكري مرتبط بحقن الأنسولين مع ظهور مخلفات تلف متقدم على شبكة العين يهدد بفقدان البصر و كذالك تلف على مستوى العروق والأعصاب... ظهور تقرحات عميقة على مستوى باطن القدم يهدد بالبتر... كمية من الماء بين القلب والغشاء ... سل الغدد والرئتين... عمى كامل ضرير لا يعمل فقد بصره من جراء الأمراض التي ألمت به ولم يعالج منها... فقد بصره كليا من جراء التعذيب وهو كفيف الآن لا يعمل و يستحق الرعاية... قصور كلوي كامل يقوم بحصص لتصفية الدم 3 مرات في الأسبوع....." وقفت منذهلا لهذه الحالات، لهذه الأهوال، وزاد ذهولي وكاد ينفجر حول هؤلاء الذين أصابهم الجنون أو الذين انتحروا... سألت الأرض لماذا؟، سألت السماء لماذا؟، سألت الوطن لماذا؟ أغلقت مفاتيح عقلي وبواباته الشرقية والغربية حتى لا أجن وطوّعت عاطفتي على مضض، ورأيت أن أجمع كلماتي أو ما بقي في حنجرتي من حروف ملقاة على الأطراف، أصففها بصعوبة لهول الموقف وأنطلق في صحراء قاحلة جدباء لا زرع فيها ولا نبات... سوى الأمل! الأمل في القلوب الكبيرة الصابرة، الأمل في أن للعطاشى يوما للسقاية، وحوضا من كوثر... الأمل أن بيت أبي سفيان مازال مفتوحا، ومن دخله كان آمنا... لا أريد أن يبقى حديثي نواحا وألما ودعوة للصبر وكأن هؤلاء الأشراف فقدوه، ولكني أريد أن أخط طريقا فاعلا يبني على التفاؤل والأمل... دعوتي إلى أصحاب الشأن في تونس الحبيبة إلى وقفة قصيرة للتأمل... دعونا من السياسة والسياسيين، هدنة صغيرة نعود معكم فيها إلى حكومة الضمير إلى ميدان المشاعر والوجدان... هل قرأتم يا سادتي هذا الملف الصحي، هذا الملف الفضيحة، هذا الملف المأساة؟ هل استمعتم إلى صوت الحيارى، إلى صوت المجانين وصياح المنتحرين، هل يستطيع الضمير أن يرتاح بعدما سمع ورأى؟ هلاّ فكرتم في باب التعويض لهؤلاء المواطنين العزّل، رغم أنه يستحيل تعويض سنوات وليال حمراء وفقدان الأهل والعشيرة؟ هلاّ فتحتم نافذة من قلوبكم إلى هؤلاء : فأعنتم المرضى على الاستشفاء مجانيا ما بقوا على قيد الحياة... وأعطيتم المعوزين منهم نفقة تلبي حاجاتهم... وأدركتم أسر وأبناء الشهداء والمنتحرين وجمعتهم تحت كفالتكم... لعل البعض سوف ينبهني إلى غفلتي، لعل البعض سوف يوقظني من حلمي، لعل البعض سوف يحدثني عن مثاليتي! لكن زاوية طرحي تختلف، ونافذتي فعلي تتميز... وهو يبقى اجتهادا بشريا قائما : إرضاء الله أولا، والمساهمة بالقدر الذي نستطيع أن نخض واقعا ظالما، أن نبحث عن مناطق الخير في كل ذات ولو كانت كلها سواد في سواد... أن نخلّق السياسة وندفع بها إلى مواطن القيم، حتى إن رفضها غيرنا، فإنا نمسك عليها بالنواجذ وإن كان الماسك عليها في هذا الزمان الرديء كالماسك على الجمر... من هذا الباب أتفاءل ومن هذه النافذة الضيقة أرنو إلى طلوع الفجر، فلعل النداء يصل ولعل الباب يفتح ولعل القلوب تلين، ومن لم يطرق الباب لن يحصل الجواب، وقلوب الناس بين إصبعين من أصابع الرحمان...فإليكم جميعا أيها السادة من ساهم أو قاد أو أعان على هذه المأساة أو عذب وشرد، هذه فرصتكم للتوبة والبقية عند الله وعند أصحابها، فتعجلوا قبل انسداد الآفاق وأسرعوا فإن الأيام دول، والديان لا يموت وكما تدين تدان، وما ضاع حق وراءه طالب! اللهم قد بلّغت اللهم فاشهد... هوامش [1] التقرير الصحي، المساجين السياسيون التونسيون والملف الصحي، زهير مخلوف، 12/12/2007. 13 ديسمبر 2007/ 4 ذو الحجة 1428