: 16 سنة تمر على قصة منفى جماعي فرض علي وعلى أبنائي وعلى الالاف من أبناء تونس وبناتها الذين لم يعرفوا طعم الوطن والأعياد منذ أن أقحمت البلاد في مشوار الاخصاء الحقوقي والسياسي ... كدت أفقد قدرتي على الكلام وقدرتي على تحرير المادة الاعلامية وأنا أتأمل منذ أسابيع في مشوار ألم حرمنا دفئ الأهل والوطن وذكريات طفولة مسلوبة أراها اليوم في عيون اثنين من فلذات أكبادي ... كيف سأحدث أبنائي عن معنى أعياد الرحمة والخير والتازر وصلة الرحم وعيونهم لم ترقب تراب الوطن منذ أن جائت بهم الأقدار الالهية الى هذا الوجود ؟ كيف سأحدثهم عن زيارة الأهل وصلة الأرحام وقد قطعت السياسة الجائرة أرحامنا وأبعدتنا عن الاستمتاع بأجمل الأعياد وأكثرها قداسة في قلوب أكثر من مليار ونصف من سكان هذه المعمورة ؟ يمر الصيف تلو الصيف وأسأل في كل مرة عن تونس التي يعرف ابني موقعها على الخارطة العالمية ولوني علمها الوطني دون أن يلمحا لها وجودا جغرافيا ماديا منذ ان فتحا عينيهما على هذه الدنيا ... , أشعر بعدها بالخجل لعجزي عن تفسير قصة جور بشري لا أريد اقحام براءة الطفولة في تفاصيل مشهدها المؤلم ... تأملت منذ أسابيع في صورة القيادي الطلابي عبد الكريم الهاروني قبل دخوله المعتقل السياسي وقارنتها باخر صورة له بعد أن خرج من هذا المعتقل , فلم أجد غير جواب واحد حول هوية من يرتضي للتونسيين والتونسيات كل هذه القصص من الألم والعذاب ..., انهم ببساطة بشر ولكن بدون قلوب ادمية ...! انهم مشهد اخر من السادية التي تتوزع بين واجهات فكرية واعلامية وأخرى سياسية تحتمي وتتخفى وراء أجهزة تحتكر منطق وأدوات الاكراه والعنف ... بعد أن احتفلت السلطة بمرور عشرين سنة على اقتطاف ثمرة الاحتكار القيادي عبر اقصاء وتهميش الطيف الواسع والعريض من فعاليات مجتمعنا المدني , ثم ممارسة ألوان من الخرق الحقوقي غير المسبوق في تاريخ جمهورية الاستقلال , كنت أظن بأن ماكينة الحرب الأمنية الصامتة ستضع أوزارها مفسحة المجال أمام أدوات الحل السياسي ..., غير أنني أصبت بحالة من الفجيعة أمام هول تواصل أخبار الاعتقال والمحاكمة على خلفية المغايرة الفكرية والسياسية ومنطق الاشتباه الذي تحركه ماكينة "الحزب السري" كاستثمار احتكاري من أجل التمديد في حالة الانغلاق العام والانحراف بالمسار الأصيل الذي انبعث له مشروع 7 نوفمبر حين انطلاقته الأولى ... انها باختصار شديد الصورة الصادقة لحقيقة الأوضاع التونسية مع اطلالة فجر كل عيد وطني أو ديني : بلد جميل , ونخبة فنية ورياضية وحقوقية واعلامية وعلمية مبدعة ,وتاريخ حضاري وديني ووطني عريق , ومنجز اقتصادي واجتماعي معتبر على الساحة العربية والافريقية , في مقابل مأساة حقوقية وتراجع سياسي نشعر تجاههما بكثير من الخجل والألم وخاصة عندما نقارن المشهد بواقع أقطار عربية أخرى من مثل موريتانيا والمغرب الأقصى وجمهورية مصر العربية ودولة الامارات العربية المتحدة وقطر والبحرين والكويت وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية ... حالة تونسية استعصت على الفهم والتحليل لدى أبرع المراقبين والمحللين , حتى عاد علم المستقبليات والاستشراف في عجز عن فهم ماأصاب البيت التونسي من اختلال في واجهات شروط أي تنمية بشرية مستديمة ... ماذا بقي لنا أن نفعل غير المقاومة المدنية السلمية المثابرة وتحصين بلدنا من مغريات العنف المضاد الذي تزرع بذوره أنظمة غير حداثوية الا على مستوى الديكور والشعار ؟! انها مسيرة سلمية شاقة ومضنية ولكنها ستنتهي حتما ببزوغ فجر أعياد وطنية ودينية جديدة تعيد الاعتبار لابتسامة التونسي والتونسية وتضع قدما لأبنائنا وبناتنا فوق تراب وطني لن تحجبه عنهم مظالم سادية حان لأصحابها أن يخجلوا حين ينظروا بصدق الى مافعلوه في شباب هذا الوطن ونخبته النابضة ... كل عام وأنتم وتونس والأمة والانسانية جمعاء بألف خير , والى لقاء قريب يجمعني بكم على بساط الكلمة الطيبة بمشيئة الله . مرسل الكسيبي* في 8 ذي الحجة 1428 ه- 17 ديسمبر 2007 *كاتب واعلامي تونسي : [email protected]