يحاول البعض هذه الأيام وفي غير براءة النفخ مجددا في روح الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة قصد تحويل تراثه الفكري والسياسي الي صنمية تونسية وعربية جديدة،ولعلني لا أظن بأن هؤلاء في محل الغفلة عن خطورة تحويل تجربة بشرية لها مالها وعليها ماعليها الي عقيدة سياسية ودينية شوفينية يصبح مخالفوها من قبيل الزنادقة والمارقين عن الوفاء للوطن وقيمه التاريخية و الحداثية المعاصرة .ولقد سبق لي أن أمطت اللثام عن حساسية التعاطي مع ملف الرجل بعين القداسة والتنزيه ولو أنني نوهت ببعض خصال زعامته السياسية والوطنية وذلك في معرض الوقوف المتجرد والموضوعي علي تجربته في الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي أو في معرض تعليقي علي ذكاء تعاطيه مع بعض الملفات الخارجية. أكثر ما استفز بعض القراء في مقال سابق لي وحمل عنوان "بورقيبة الزعيم: مدرسة وطنية مجددة لابد أن نرفع عنها كل تقديس" هو ترحمي علي الرجل في معرض تعليقي علي موقف ديني وسياسي لافت من الشيخ راشد الغنوشي بعيد وفاة الرجل وفي معرض سؤال توجه له به الزميل الاعلامي محمد كريشان حول مشاعره تجاه الرجل حين كان جثمانه بصدد التسجية الي مقبرته الفاخرة بمدينة المنستيرالتونسية. ولعلني أود التنويه في هذا الموضع بأن موقفي هذا هو من قبيل اذكروا موتاكم بخير حين حضرته ساعة المنية ثم هو من قبيل الاعتراف للزعيم الراحل بفضائل في مجالات التنمية والصحة والتعليم والسياسة الخارجية يوم كانت تونس خارجة لتوها من أغلال الاستعمار العسكري والتخلف المادي ورواسب الفقر والمرض والتجهيل الذي لازم سياسات تلك الحقبة التاريخية من النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ... حسابات التكفير لم أكن يومها حين كتبت ذاك المقال الا متجردا من حسابات التكفير أو التفسيق أو التصنيف العقائدي الخطير الذي يبقي سلطة معنوية وحكمية لابد أن نتركها للعلماء المتخصصين ولانجعلها سلاحا فتاكا بيد القادة السياسيين أو المفكرين وهو ماينعكس سلبا وخطورة علي الشأن العام ويشكل منزلقا حادا وفتاكا في تعاطينا مع قضايانا الوطنية والتاريخية. لم أغفل قط عن وجود خصوم سياسيين أو فكريين أو دينيين أو تاريخيين للرئيس التونسي الراحل بورقيبة، بل انني وكما ذكرت سابقا ودونته في كلمات شاهدة علي العصر بأن للرجل أخطاؤه الدينية والسياسية الفادحة ولعل من أبرزها استخفافه في بعض مراحل حكمه ببعض المقدسات الدينية الهامة للمسلمين والغائه للدور الفاعل للمؤسسة الزيتونية العريقة كما اصراره علي تولي أمر التونسيين حتي في فترات المرض المقعد، وعدم السماح بالتداول علي السلطة والأمر بتزوير الانتخابات التشريعية بداية الثمانينيات من القرن الماضي، هذا علاوة علي تنظيمه لمحاكمات سياسية شملت أبرز العوائل السياسية المعروفة في ساحاتنا العربية. لكن تبقي للتجربة برغم ذلك نقاط ايجابية كثيرة لايمكن التنكر لها في معرض الاختلاف الفكري والسياسي والديني مع الرجل وهو ماأشرت اليه في مقالي السابق حول الموضوع ولعلني أذكر في عجالة ببعض فضائلها: - المساهمة في الكفاح الوطني من أجل تحرير تونس من الاستعمار العسكري المباشر . - المساهمة بدور فاعل في بناء دولة الاستقلال الحديثة . - الاهتمام البارز بقطاع التعليم وانشاء مؤسسات تعليمية وعلمية حظيت بالاعتراف الدولي والعالمي البارز . - اعطاء الأولوية لقطاع الصحة وتخريج نخبة طبية وخدمية يشهد لها بالاحتراف والمهنية . - تسخير القسط الأكبر من ميزانية الدولة لقطاعي التعليم والصحة في مقابل ميزانية محدودة بالمقارنة للمؤسسة الأمنية . - ارتكاز الرجل في سياساته التنفيذية غالبا علي نخبة سياسية مثقفة ذات اقتدار ملحوظ ويمكن التأمل في شخصيات محمد المصمودي والشاذلي القليبي والشاذلي العياري وأحمد بن صالح والهادي نويرة والطاهر بلخوجة ومحمد مزالي وأحمد القديدي وفتحية مزالي . - الاعتماد علي سياسة دولية مرنة جنبت تونس الكثير من الأزمات والكوارث الاقليمية. - القدرة علي الاستقراء السياسي في موضوعات القضية الفلسطينية - خطاب أريحا - وفي موضوعات دولية سابقة ومنها التكهن باندحار وهزيمة المشروع النازي. وعلي العموم لسنا اليوم في معرض الانتصار للرجل أو ادانته بقدر ماأردنا التذكير بأهمية النظر بعين نسبية لشخصية زعيم تونسي انتقل الي جوار ربه تعالي، ومن ثم فانه من المهم بمكان عدم تقديس شخصه أو تنزيهه عن الأخطاء والزلات وبالتالي عدم تحويل ميراثه الي عقيدة دينية وسياسية نحاول عبثا وحيلة ودهاء تحويلها الي أمر دستوري ملزم في حياة التونسيين والتونسيات أو في حياة سكان المنطقة العربية علي اعتبار الترويج المقصود والمغري لرياديتها، والحال أن التونسيين والتونسيات مازالوا اليوم يدفعون ثمنا باهضا لأخطائها حين عزف الزعيم الراحل عن افساح المجال أمام التداول السلمي والطبيعي للسلطة أو حين استخف في أكثر من مناسبة بالميراث المقدس للمسلمين والمسلمات،لتجني تونس من جراء ذلك نموذجا تحديثيا صداميا مع تراث البلد وحضارته العربية الاسلامية العريقة. لاشك بأن منطقتنا في حاجة الي النهوض والتحديث والعصرنة،غير أن هذا المراد لايكون بملئ السجون بالمعارضين أو بقمع تيارات الاسلام الوسطي المعتدل أو بفرض نموذج حياتي شخصي علي الناس بالحديد والنار أو بمصادرة الحريات وتقويض حقوق المواطنة من أجل التغني بالعقيدة البورقيبية كنموذج لابد أن نسير عليه خطوة بخطوة أو شبرا بشبر وذراعا بذراع حتي بعد مرور عشرين سنة علي ازاحة الرجل من سدة الحكم وبعد مرور مايناهز العقد علي رحيله. "انك ميت وانهم ميتون، بمثل هذا القول الرباني لابد أن نكون من المتعظين،ولنعلم أن التونسيين ومعاشر العرب في غني عن احياء أتاتوركية نكون عليها من النادمين في الدارين، حيث أن تقديس الموات في الدنيا مما اتضح بواره السياسي والتاريخي في أكثر الامبراطوريات قوة واثارا في الأرض،أما من زاوية دينية فلست أظن بأن ثمة عالما واحدا قال بفضل تأليه قول بشر أو إعلاء مقام الراحلين الي درجات العبادة والتنزيه والتقديس وشد الرحال، وان حصل هذا اليوم في بلاد العرب والمسلمين أو في بلاد أخري من العالم فليس هذا الا علامة علي الانحدار والتخلف الذي أصاب بعض بني البشر في ظل افتقاد موجهات البوصلة الحضارية والنظر الثاقب . *رئيس تحرير صحيفة الوسط التونسية : [email protected]