لقد قطعت التجربة الديمقراطية في تونس شوطا محترما وبلغ التحول الديمقراطي نقطة اللاعودة وأضحت أيّ محاولة لتعطيل التحول الديمقراطي أو ترحيله ضربا من العبث الذي لا طائل تحته. إنّ الديمقراطية باعتبارها أسلوب حل الشعب لمشكلاته وتطوير واقعه والتقدم به كأفضل ما يكون مطلب ملح فرضته التوجهات الفكرية العصرية المنادية بالحرية ودعمته الثقافة العالمية ووسائل الاتصال المختلفة ولا سيما الإعلام والانترنيت وما بلغته الشعوب والأفراد من مستوى حضاري بات لا يستغني عن السعي إلى المشاركة في تدبير الشأن العام وبنائه وفق المعارف المتقدمة والذوق الرفيع. بل إن الشعوب اليوم لا يعنيها من يحكم وإنما يعنيها كيف ينظم الحكم وبقدر عنايتها بتحسين أحوالها المادية والمعنوية تهتم بمشاركتها في ما تصبو إليه. لقد مضى عصر الوصاية بكل أشكاله وألوانه وسيطر عصر الشراكة والتبادل والتداول والتفاعل الحقيقي والخلاق. وإنّ تحقيق هذا الهدف يتوقف على إرادة الشعوب ونٌخَبها وعلى درجة وعي هذه الشعوب وتقدم تلك النٌّخبِ من جهة وعلى طبيعة المرحلة السياسية التي تعيشها تلك الشعوب من جهة أخرى. ولما كانت تونس اليوم تعيش مرحلة التعددية الحزبية وشعبها بلغ درجة محترمة من النضج والرقي الاجتماعي والحضاري فقد بات محتما أن تنتقل إلى مرحلة متقدمة لائقة بها اصطلح عليها بمرحلة التحول الديمقراطي. إنّ هذا المصطلح حديث ودقيق في آن واحد لأنّه قد يلتبس بالتعددية الحزبية ليتماهى معها. هذه مناسبة لنميز بين التعددية الحزبية والتي تعترف للشعب بحق الاختلاف والانتظام في أحزاب وجمعيات ومنظمات حقيقية لأنها ممثلة لمختلف الآراء والتصورات الاجتماعية الفاعلة والمؤثرة في الواقع من جهة والتحول الديمقراطي من جهة أخرى. بيد أن الاكتفاء بالتعددية أي حق الاختلاف لا يحقق التحول الديمقراطي ولا الديمقراطية لأنه يحصر الديمقراطية في مظهرها الشكلي الديكوري ويحرمها جوهرها المتمثل في تشريك الآراء المختلفة في بلورة البرامج والبدائل المجتمعية والتشاور حول أفضلها وأنجعها وأجداها في الممارسة. إنّ التحول الديمقراطي مرحلة تتساوى فيها الأحزاب كافة بما فيها الحزب الحاكم أمام القانون وتلتزم الإدارة بالحياد أمام الجميع ويٌمكن الجميع من إمكانات متساوية ومتناسبة مع الحجم والقوة والتأثير في الواقع. إنها مرحلة حاسمة تنقل المجتمع من مرحلة الحزب الحاكم والرأي الأوحد واللون الأوحد إلى تعدد الآراء والألوان والأحزاب ولا تتوقف عند تلك النقطة وإنما تتجاوزها إلى إشاعة الشراكة في الرأي والفعل في التصور والتنفيذ ومأسسة تلك الحقوق والواجبات قولا وفعلا بما يقطع مع مرحلة الشعارات الديمقراطية الآسرة تنظيرا والمأسورة تطبيقا ونعبر معه من مرحلة ضمانات الأشخاص إلى مرحلة ضمانات القانون وعلويته ثم تشيع ثقافة الشراكة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتغيب ثقافة العبودية والإقطاع والهيمنة والتطاول على القانون واختراقه دون محاسبة أو ردع. إننا في مرحلة خطيرة يتوقف عليها المستقبل الديمقراطي لشعبنا فإذا نحن جميعا شعبا ونٌخبا وأحزابا ومنظمات عقدنا العزم على تكريس التحول الديمقراطي وتحقيق أهدافه نجحنا سريعا في طيّ صفحة الاستبداد والاستعباد وكنّا على مشارف الديمقراطية أمّا إذا نحن اكتفينا بالجلوس على الربوة أو لعن الاستبداد دون السعي إلى هزمه كنا بعيدين عن الهدف وعن الديمقراطية.... بقي سؤال لا بدّ من طرحه وإن كنّا سنؤجل الإجابة عنه لاحقا : ما الفرق حينئذ بين التحول الديمقراطي والديمقراطية ؟ ذلك هو السؤال.