هام/ بشرى سارة للراغبين في السفر..    أخيرا: الطفل ''أحمد'' يعود إلى منزل والديه    التونسيون يتساءلون ...هل تصل أَضحية العيد ل'' زوز ملايين'' هذه السنة ؟    زلزال بقوة 4.6 درجات يضرب هذه المنطقة..    دورة مدريد: أنس جابر تواجه اليوم المصنفة العاشرة عالميا    كأس الكاف: حمزة المثلوثي يقود الزمالك المصري للدور النهائي    الرابطة الأولى: برنامج مباريات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    عاجل/ ستشمل هذه المناطق: تقلبات جوية منتظرة..وهذا موعدها..    جائزة مهرجان ''مالمو'' للسينما العربية للفيلم المغربي كذب أبيض    بعد مظلمة فرنكفورت العنصرية: سمّامة يحتفي بالروائية الفسطينية عدنية شبلي    انتشار ''الإسهال'' في تونس: مديرة اليقظة الصحّية تُوضح    تقلبات جوية في الساعات القادمة ..التفاصيل    مفزع: 17 حالة وفاة خلال 24 ساعة في حوادث مختلفة..    يوميا : التونسيون يهدرون 100 مليار سنويا    الكشف عن توقيت نهائي رابطة الأبطال الإفريقية بين الترجي و الأهلي و برنامج النقل التلفزي    زيارة ماسك تُعزز آمال طرح سيارات تسلا ذاتية القيادة في الصين    دكتور مختصّ: ربع التونسيين يُعانون من ''السمنة''    معز السوسي: "تونس ضمن القائمة السوداء لصندوق النقد الدولي.."    تونس / السعودية: توقيع اتفاقية اطارية جديدة مع المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة    خط جديد يربط تونس البحرية بمطار تونس قرطاج    عاجل/ تفكيك شبكة مُختصة في الإتجار بالبشر واصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن في حق أعضائها    قرار جديد من العاهل السعودي يخص زي الموظفين الحكوميين    بطولة ايطاليا : رأسية أبراهام تمنح روما التعادل 2-2 مع نابولي    غوارديولا : سيتي لا يزال أمامه الكثير في سباق اللقب    سان جيرمان يحرز لقب البطولة للمرة 12 بعد هزيمة موناكو في ليون    حزب الله يرد على القصف الإسرائيلي ويطلق 35 صاروخا تجاه المستوطنات..#خبر_عاجل    طقس الاثنين: تقلبات جوية خلال الساعات القادمة    دولة الاحتلال تلوح بإمكانية الانسحاب من الأمم المتحدة    السعودية: انحراف طائرة عن المدرج الرئيسي ولا وجود لإصابات    سينعقد بالرياض: وزيرة الأسرة تشارك في أشغال الدورة 24 لمجلس أمناء مركز'كوثر'    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    أسير الفلسطيني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية    غار الدماء: قتيلان في انقلاب دراجة نارية في المنحدرات الجبلية    افتتاح الدورة السابعة للأيام الرومانية بالجم تيسدروس    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    50 % نسبة مساهمة زيت الزيتون بالصادرات الغذائية وهذه مرتبة تونس عالميا    وزير السياحة: عودة للسياحة البحرية وبرمجة 80 رحلة نحو تونس    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    البطولة الوطنية: النقل التلفزي لمباريات الجولتين الخامسة و السادسة من مرحلة التتويج على قناة الكأس القطرية    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    طقس اللّيلة: الحرارة تصل 20 درجة مع ظهور ضباب محلي بهذه المناطق    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدكتور منصف ونّاس في حوار عن الإخفاق الديمقراطي في الوطن العربي
نشر في السياسية يوم 25 - 07 - 2010

الدكتور المنصف ونّاس/التقاء الزبونية والدولنة أبّد شخوص الحكم ومنع تغيير النخب
تونس - خاص - "أقلام أون لاين"- حاوره عادل الثابتي
في الوقت الذي شهدت فيه أغلب البلدان التي كانت تعيش تحت أعتا الديكتاتوريات تحوّلا نحو الديمقراطية، فتجاوزت أسبانيا الحقبة الفرانكية المظلمة، وتخلّصت الشيلي من حكم بينوشي الدموي، بل تمّت ملاحقته قضائيا، وانهار الستار الحديدي عن دول المنظومة الاشتراكية، بقيت المنطقة العربية عصيّة عن كل تحوّل نحو الديمقراطية. بل تجرّأ بعض الحكام العرب على الشعوب بالاتجاه نحو توريث الحكم إلى أبنائه. وَوُجِد البعض من داخل النخبة من يدافع عن ذلك، مما حدا ببعض المفكرين والدارسين إلى إطلاق تعبير الإخفاق الديمقراطي في الوطن العربي على الوضع السياسي العربي. هذا الإخفاق الذي تولدت عنه حالة يأس من أيّ إصلاح ديمقراطي يمكن أن يمسّ المنطقة في حاضرها ومستقبلها.
ولمزيد فهم مظاهر هذا الإخفاق والأسباب البنيوية العميقة التي تكمن وراءه، وهل ثمة بصيص من الضوء في آخر هذا النفق المظلم، توجهت "أقلام أون لاين" إلى الدكتور منصف ونّاس أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية، الذي اشتغل كثيرا على مسألة الدولة في الوطن العربي، وخاصة في منطقة المغرب العربي، وله العديد من الدراسات التي تخص الديمقراطية والفساد والتنمية، وكان لنا معه الحوار التالي:

* هل هناك فعلا حالة من الإخفاق الديمقراطي في الوطن العربي؟ وما هي أهم تجليات هذا الإخفاق إن وُجِدَ؟
- حتى نكون أكثر دقّة يمكن القول إنّه توجد صعوبات عميقة في مجال التحوّل الديمقراطي في المنطقة العربية، بدليل أن العملية الديمقراطية في هذه المنطقة تُراوِح مكانها منذ أكثر من عقدين من الزمن، أي منذ الثمانينيات من القرن العشرين إلى حد الآن، إذ سجلت بعض الخطوات المعقولة في مجال التحول نحو الديمقراطية، ولكن سرعان ما تم التنازل عنها. وتعود هذه الصعوبات إلى ثقافة سياسية هي بالأساس غير ديمقراطية، إن لم نقل تَسلُّطية، الأمر الذي يفسر جزئيا عدم اعتبار الديمقراطية أولوية رئيسية في سلَُّم أولويات المجتمع.
وبما أن الثقافة السياسية غير ديمقراطية فإن ذلك يفسر عدم تحقيق أي تحوّل فعليّ في المسارات الديمقراطية، بل ثمة أحيانا نوع من التراجع، قياسا بالتعددية الموروثة من الأربعينات والخمسينات، في مجال تكوين الأحزاب وخلق الجمعيات وتوفير منابر للتعبير الحرّ. كما لا يجب أن نُغْفِل الإشارة إلى أنّ المجتمعات المدنية في المنطقة العربية غير فاعلة وناجعة بما فيه الكفاية لتفرض بقوة القانون والمطالبة مبدأ التحول الديمقراطي.
فقد ساهمت الثقافة السياسية غير الديمقراطية في توهين المجتمعات المدنية العربية وفي إرباك فاعليها من جهة، وفي محاصرتهم وعزلهم من جهة أخرى. فمثل هذا الالتقاء الغريب بين عنصرين يبدُوَان في الظاهر متنافرين ولكنهما يرمزان إلى أزمة واحدة، وهي أزمة التحوّل الديمقراطي في المنطقة العربية. فالمشكلة أن دول الاستقلال أضعفت نفسها في مواجهة الضغوط الخارجية، وأضعفت المجتمع المدني، الذي كان يمكن أن يكون معاضدا لها أو مُوِجِّها لمعالجة الأخطاء ومشخِّصا لها.

* ما هي إذن العلاقة بين دولة الاستقلال ومسألة الإخفاق الديمقراطي؟ ولماذا فشلت النخب الحديثة التي مسكت بزمام الحكم بعد خروج المستعمر، والتي تكونّت في جامعات العالم الديمقراطي، وتشبعت بمبادئ الحداثة في ترسيخ نظام سياسي شبيه بالنظام الذي درست في جامعاته؟ هل يعود ذلك إلى أن قيم الديمقراطية والحداثة هي قيم غريبة عن البنى الفكرية والذهنية العربية، أم يرجع الأمر إلى عوامل أخرى؟
- لا بد أن نشير إجابة عن هذا السؤال إلى مستويين اثنين نراهما على درجة من التكامل:
المستوى الأول هو أنه لا بد أن نشير منذ البدء إلى أن المشروع الاستقلالي في المنطقة العربية غالبا ما أنبنى على مبدأ واحد فقط وهو مبدأ استبدال الحكم الأجنبي بحكم وطني. أي استبدال حاكم غريب بحاكم من أهل البلد. كما تمّ في السياق ذاته اختزال الوطنية في هذا البعد فقط أي اعتماد الوطني بدل الأجنبي.
أما المستوى الثاني فيتمثّل في التعامل مع جهاز الدولة الناشئ تعاملا تَمَلُّكيا استفراديا، وإقصاء كل من يريد المشاركة أو التعبير، حتى لا نتحدث عن المنافسة، فأصبحت الدولة بمقتضى ذلك دولة الأقليّة، ولا تعبر عن الأغلبية. كما تمّ الحرص على أن تكون الدولة بمختلف أجهزتها الناطق الوحيد باسم المجتمع، أي ما يسمى في العلوم السياسية بظاهرة الدَوْلَنة Etatisation)) أي الاستفراد بحق التعبير، وإلغاء الأصوات الأخرى، وكبت الحريات.
ومن أجل تعميق ظاهرة الدولنة هذه فإن النخب المتملكة لجهاز الدولة تعاملت مع المجتمع تعاملا زبونيا، بمعنى تغليب الولاء على الكفاءة، وتقسيم الغنيمة وفق مبدأ المبايعة والولاء.
إذن التقاء الزبونية والدولنة ولّد كثيرا من المشاكل من حيث تأبيد شخوص الحكم، وعدم تغيير النخب، وعدم الاستماع إلى الصوت المختلف. فأصبحت الحكومات في بعض الحالات معبِّرة عن جهة دون غيرها، أو عن قبيلة بعينها، أو امتدادا لإحدى الأسر.
إن مثل هذه البيئة السياسية لا يمكن بحال من الأحوال أن تعتبر الديمقراطية أولوية بالنسبة إليها، ولا يمكن أن تحرص على تحوّل ديمقراطي، حتى وإن كان تحوّلا بطيئا وتدريجيا، ويستغرق عقودا من الزمن، وتلك هي واحدة من المعضلات العويصة في المنطقة العربية. ذلك أنّ مرحلة الاستقلالات وفّرت البيئة الضرورية لتشكُّل فئات وشرائح اجتماعية مستفيدة من الوضع السياسي، ومستفيدة كذلك من الأوضاع الاقتصادية والتنموية، وحريصة على إبقاء البحيرة راكدة، حفاظا على مصالحها من كلّ شكل من أشكال المساءلة والملاحقة والمراقبة.

* ولكن دكتور منصف إذا كان هذا هو حال النخب، التي توّلت الحكم إثر خروج المستعمر، فماذا عن التيارات الفكرية والسياسية الكبرى في الوطن العربي – العروبية والإسلامية منها بالخصوص – والتي وصل بعضها إلى الحكم في بعض الأقطار العربية؟ كيف كانت علاقتها بالمسألة الديمقراطية؟ وإلى أي حد ساهمت في الوصول إلى حالة الإخفاق الديمقراطي التي نحن بصددها؟
- لا يجب أن نُخفي أن التيارات العروبية والإسلاموية لم تكن تعتبر التحوّل الديمقراطي أولوية الأولويات بالنسبة إليها، وهذا يعود في تقديرنا إلى عامل سابق كنا أشرنا إليه وهو عامل الثقافة السياسية، التي تعتبر بأن تَمَلُّكَ جهاز الدولة يكفي لوحده لتغيير الواقع المجتمعي برمّته. ولكن تجارب كثيرة هنا وهناك أثبتت بأن امتلاك جهاز الدولة شرط ولكنه غير كاف إطلاقا لإيجاد التغيير الممكن.
كما يتوجَّب أن نشير إلى أن هذه التيارات انشغلت أساسا بالحفاظ على جهاز الدولة، الأمر الذي أدّى بها إلى مواجهات كثيرة. وغالبا ما كانت عنيفة مع تيارات مُجَايِلَةٍ لها، وتعيش معها في نفس الفترة، وتقاسمها الرغبة في التغيير. فمثل هذا الصراع السياسي لم يُمْهِلْ قوى كثيرة الوقت الكافي لتحديث مجتمعاتها، وإنجاز مشروع حضاري حقيقي، وبالتالي تحقيق التحول الديمقراطي المنشود. فبدل أن تجلس القوى السياسية إلى بعضها البعض وتتحاور فكريا وسياسيا، وتحاول أن تؤسس أرضية مشتركة، وأن تُغلِّب نقاط الالتقاء والتكامل على نقاط الاختلاف والفرقة، فإنّها انشغلت على امتداد عقود طويلة بإدارة الصراع السياسي، الذي أدى في بعض الأحيان إلى تناحر دموي، وإلى صراع مفتوح على السلطة ومن أجلها. فكانت النتيجة الكبرى هي تآكل المشروعية التاريخية والسياسية للدولة، وانغلاق الفئات الحاكمة على نفسها دون تقديم مشروع حقيقي، ودونما تعميم لخيرات التنمية على كل أفراد المجتمعات. فالإخفاق الديمقراطي هو ثلاثي الأضلاع:
1 – الإخفاق في التوصل إلى بناء سياسي توافقي يجمع كل المكوِّنات والفاعلين داخل المجتمع.
2 – الإخفاق لأسباب بنيوية عميقة في توزيع الثروة على كل مكونات المجتمع بشكل شبه عادل.
3 – الإخفاق في إنجاز التحوّل الديمقراطي حتى في حدّه الأدنى، بحكم أن الثقافة السياسية السائدة تسلُّطية واستفراديّة، يغيب فيها مبدأ الاختلاف واحترام الآخر.

* انشغلت النخب الحاكمة في الحفاظ على مملكاتها وجمهورياتها، ولكن هذا وحده لا يفسر حالة الإخفاق الديمقراطي. فماذا عن دور النخب المثقفة؟ أي إسهام قدمته في سبيل ترسيخ الديمقراطية، خاصة إذا ما قارنا الحالة العربية بمثال إسبانيا والشيلي. ففرانكو بذل كل الجهد للمحافظة على "دولته"، وكذلك فعل بينوشي، ولكنهما لم ينجحا أمام إصرار النخب والمجتمع على التغيّير؟
* يبدو لي أنه من الصعوبة أن نفصل النخب عن مجتمعاتها، ذلك أن المجتمعات لم تكن ضاغطة بما فيه الكفاية، ولم تتمكن من إيجاد الصيغ والقنوات والمؤسسات، التي تسمح لها بالتعبير، بما يفسر ظاهرة الدولنة من جهة، وعدم رغبة النظم الحاكمة في تقديم أي تنازل من جهة أخرى.
فالملاحظ أنّ النخب العربية إمّا أنها سايرت مختلف التجارب، وإمّا أنّها فضّلت الصمت المطبق، في حين لم تقاوم إلا أجزاء بسيطة ومحدودة من النخبة العربية. ولعل هذا ما يفسر هُزال مردود هذه النخب، وعدم قدرتها على التأثير في مسار مجتمعاتها. ولكن مثل هذا المردود لا يقدر على مجابهة بيئة سياسية متسلِّطة واستفرادية ولا تنظر إلى النخب إلا من زاوية الولاء والمبايعة والتزكية. وتلك هي واحدة من أمهات المشاكل في المنطقة العربية، التي تكاد تكون اليوم هي المنطقة الوحيدة في العالم، التي لا تتوفر على عقد سياسي واجتماعي بين الحاكم والمحكوم. ولا تتوفّر على الحد الأدنى من مستلزمات الحوار بين الدولة والمجتمع. ولذلك فالسلطات السياسية أضعفت نفسها، وأضعفت النخب معها في نفس الوقت، وكأنّ الأمر يتعلق بتهرئة متبادلة.

* هل يعني هذا أن الجامعات العربية العديدة قد عجزت عن إنجاب مثقفين عضويّين يستميتون في الدفاع عن مطامح مجتمعاتهم في الديمقراطية وينيرون لأوسع الجماهير طريق الحريّة؟
- لا.. لا أشاطرك الرأي في هذا، ففي المنطقة العربية أمثلة عديدة على المثقفين العضويين، ولكن المشكلة تكمُن في أنّ البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية بيئة متكلِّسة لا تقدر النخب - على محدودية - أفرادها أن تُغيّرها. فالتغيير هو عمل جماعي وجماهيري تساهم فيه النخبة، دون أن تكون الفاعل الوحيد في إنجازه.

* إضافة إلى كل العوامل التي تحدثت عنها دكتور منصف كمعيقات للتحول الديمقراطي المأمول في الوطن العربي، نلاحظ منذ سنوات قليلة دخول فاعل جديد يربط البعض بينه وبين استمرار حالة الإخفاق الديمقراطي، ألا وهو عامل الفساد. هذا الفاعل الجديد يعتبر عديد الدارسين أنّه لا يمكن أن ينتعش إلا في ظلِّ أوضاع الاستبداد. إلى أي مدى يمكن أن يُعَطِّل الفساد عملية الانتقال الديمقراطي في منطقتنا؟
- يمكن أن نعرّف الفساد على أنّه إنتاج داخلي وخارجي يؤدي دورا سالبا في إفساد التنمية والحيلولة دون إنجاز التحول الديمقراطي. فليس خافيا على أحد أن المنطقة العربية تكاد تكون الوحيدة في العالم، التي تستهلك صفقات السلاح المغشوش، والأمثلة كثيرة على ذلك، منها على سبيل الذكر صفقة اليمامة بين المملكة العربية السعودية وبريطانيا، التي تكلفت ما يزيد عن 75 مليار دولارا.
وهي أيضا المنطقة الوحيدة في العالم التي تشهد التنمية الكسيحة والفاشلة. وهي حالة تتطلب نظما من طينة خاصة، ونخبا خاضعة ومتقبلة لمثل هذا الوضع الدولي الظالم. والبيئة الدولية تساعد على تعميم الفساد، وعلى إفساد النخب، وجعلها غير قادرة على المقاومة. ولكن لا يجب أن ننكر من جهة أخرى أن البيئة الداخلية متقبلة لمثل هذه الأوضاع، ومساعِدة على إعادة إنتاجها، ومساهِمَةٍ في تنميَّتِها.
فالالتقاء بين الضغط الخارجي والاستجابة الداخلية أدى إلى خلق شرائح جديدة مرتبطة بالرأسمال العالمي وبالسوق الاقتصادية العالمية وبانتشار الفساد. ولذلك فهي تقاوِم كل تحوّل ديمقراطي، وتحول دون إنجاز أي تحسين في الأداء السياسي، وتسعى إلى الإبقاء على البحيرة راكدة، وتعمِد إلى تعطيل مؤسسات وهياكل الرقابة، من أجل الحيلولة دون اكتشاف التجاوزات الممارسة بحق المال العام. فالفساد هو فاعل مهم في الداخل والخارج، ويمكن أن يصل إلى مرحلة ارتهان القرار السياسي، وإلغاء المطالب الديمقراطية، والحيلولة دون تحقيق أي تقدم في اتجاه البناء الديمقراطي. ويمكن أن نشير في هذا المثال إلى النخب الإسبانية التي لم تقاوم استبداد فرانكو فقط وإنّما قاومت، بالمقدار والحرص نفسه، الفساد الذي يترافق غالبا مع حالات الاستبداد.

* أمام حالة اليأس من تحقيق التحوّل الديمقراطي بأيد عربية، والعجز التام للنخب عن تحقيق أي اختراق ديمقراطي للمنظومة الاستبدادية العربية، توهّم بعض هذه النخب حلّ "الديمقراطية المستوردة"، فهل ثمة فعلا ممكنات "لإنقاذ ديمقراطي خارجي"؟
- إنّ المراهنة على الأجنبي من أجل تحقيق الديمقراطية مراهنة خاسرة، كما أثبتت ذلك تجارب عديدة ومتكررة. ولذلك نقولها دونما لبس إن الغرب ليس حريصا على الديمقراطية في المنطقة العربية، إذا كانت هذه الديمقراطية ستؤدي إلى المساس بمصالحه، وبأمن إسرائيل، وبتدفق الطاقة إليه بكل ليونة ويسر. وبهذا نفسِّر هذا الاستيراد الفاشل للتكنولوجيا والعجز عن توطينها، وعدم تمَكُّنِ المنطقة العربية من التقدم اقتصاديا وتنمويا. ولذلك فجزء من الغرب متورِّط في إنتاج العجز العربي وتأبيده. ولكن ثمة غرب آخر حريص على حقوق المنطقة العربية والدفاع عنها وعن حقّها في الحياة والكرامة، بدليل الهبّة الأوروبية الغربيّة في وجه الحرب الهمجية على غزّة. ومن ثمّ يتَوَجَّب أن نُفرِّق بين هذين المستويين، حتى لا نقع في التعميم والتبسيط المخلَّيْن بالموضوعية.
فالمعضلة الكبرى هي أن المنطقة العربية غير محصّنة، ولا تتوفر على آليات الدفاع عن نفسها، وغير قادرة فعلا على المواجهة، وعلى التعامل تعاملا نديّا مع الدوّل الغربيّة. فإذا ما أخذنا مثال فرنسا فإننا نلاحظ تناقضا غريبا في أدائها السياسي. فهي من جهة تريد تبييض جرائم إسرائيل وتدافع عنها حتى لا تقع تحت طائلة القانون الدولي. ولكنّها في مقابل ذلك تفتخر بتاريخها الاستعماري في الجزائر، وتُصِّرُ على عدم الاعتذار عن الحقبة المظلمة، وتلك خاصيّة من خصائص الوضع الدولي الراهن.

* أمام تضافر العوامل الداخلية والخارجية لتأبيد حالة الإخفاق الديمقراطي، أليس هناك من ضوء في آخر النفق العربي المظلم؟ ألا يمكن أي تولد رحم العجز ممكنات تحقيق الانجاز الديمقراطي بدل الإخفاق..؟
- هناك عاملان يتكاملان إلى حدّ كبير يمكنهما وضع حد لحالة اليأس هذه. يتمثل العامل الأول في ضرورة استمرار النخب، بكل هوياتها والفاعلين في المجتمع المدني، في الضغط من أجل تيْسير التحوّل الديمقراطي، ومن أجل فرض صيغة تعاقدية جديدة مع السلطات القائمة، لا تكون استفرادية أو تسلطية. بل تنبني على عنصري الحوار والاتفاق على المصلحة المشتركة. ولذلك فالنظم القائمة مطالبة بتقديم تنازلات ذات بال لمصلحتها أولا، ولمصلحة شعوبها، ومن أجل تأسيس الحدّ الأدنى من الشروط للمستقبل، الذي هو مشترك بينها وبين والمجتمعات.
وأما العامل الثاني فيتمثل في مزيد تدعيم روح المقاومة عند هذه الأمة في مواجهة الضغوط الدولية، وفي مقدمتها الضغوط الإسرائيلية.
إن المقاربة التي تكون أكثر تلاؤما مع مشاكل المنطقة العربيّة هي هذه المقاربة، التي تجمع بين البعدين والمستويين. وهذا أمر مهم إذا كنّا نريد أن نغادر الأزمة، وأن نتهيأ تدريجيا لإعداد المستقبل، فالمستقبل هو في النهاية حصيلة ما استثمرناه في الحاضر.

* لننظر دكتور إلى التجربة التونسية، فالبلاد شهدت تجارب إصلاحية حتى قبل انتصاب الاستعمار (خير الدين التونسي...) وتنامت فيها هذه الأفكار مع تيارات الشباب التونسي والحزب الحر الدستوري التونسي بفرعيه القديم والجديد، والتيار اليساري المتمثل في الحزب الشيوعي التونسي، ولكنّ آباء دولة الاستقلال عجزوا عن تحقيق الديمقراطية، رغم النجاحات النسبية في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، إذ بقي الجانب السياسي مشوبا بسيطرة الحزب الواحد والفكر الواحد، وكان تاريخ دولة الاستقلال في جانب كبير منه هو تاريخ المحاكمات السياسية لخصومها السياسيين من اليوسفيين والبرسبكتيفيين والشيوعيين والإسلاميين والنقابيين وحتى بعض الليبراليين.. وعوض أن يحاورَ السياسيُّ السياسيَّ لم تجد المعارضات من مُحَاوِرٍ سوى أجهزة الأمن.. هل لكم أن توضحوا لنا العوامل التي أدّت إلى مثل هذه الوضعية؟ وهل ثمة ممكنات اليوم للخروج من هذا الوضع؟
- حتى نكون أكثر دقّة لابد أن نعود قليلا إلى التاريخ. فلم يكن بورقيبة ديمقراطيا مثلما قلناه نحن في ندوات علمية ونشرناه في مؤلفات. ولم يكن يعتبر الديمقراطية أولوية بالنسبة إلى مشروعه التحديثي. هو كان يعتبر أن توفير الخدمات الضرورية من تدريس وتطبيب وتغذية وتثقيف غاية الديمقراطية، ومنتهى ما يمكن أن تصل إليه. فكانت النتيجة أن ترافق التحديث الاجتماعي والثقافي في تونس - على أهميته وإيجابيته - مع ظواهر سلبية مثل الدولنة والمحسوبية والزبونية، وتغليب الولاء على الكفاءة، وتقديم الجهة على المصلحة الخاصة.
فالمؤسف هو أنّ المشروع التحديثي الذي كان واعدا بمختلف مستوياته، أفضى إلى حالة من الانغلاق السياسي، ومن انسداد الأفق الديمقراطي. ولكن حتى نكون موضوعيين، يكون مفيدا أن نشير إلى أن تونس تتوفر على نخبة فكرية وسياسية على درجة من النضج والعمق والتميز قياسا بنخب أخرى. كما إنّها تتوفر على موارد بشرية وسياسية، تجعلها قادرة على النجاح في تحقيق التحوّل الديمقراطي، فلا تتوفر تونس على معارضات مسلّحة، ولا على توترات عرقية وطائفية ودينية تساهم في خلق المشاكل. فالمجتمع التونسي منسجم ثقافيا واجتماعيا وديمغرافيا، ويقدر على الوصول إلى ديمقراطية توافقية تفيد الحاكم والمحكوم، وتحصِّن البلاد في وجه التأثيرات الخارجية والتدخلات الأجنبية، من خلال آليات بسيطة مثل: توسيع المشاركة، ومأسسة الاختلاف وجعله ظاهرة طبيعية ومستساغة في المجتمع. فالديمقراطية التونسية قادرة أن تكون مثالا يُحْتَذَى به في محيطها القريب والبعيد، فيكفي أن تبدأ بخطوات بسيطة، ولكن تكون واثقة لتصل إلى مطامح المجتمع في ديمقراطية حقيقيّة.
"أقلام أون لاين"- العدد الخامس والعشرون السنة السابعة/ ماي - جوان 2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.