عند استقراء تاريخ تونس المعاصر منذ بدايات القرن العشرين واخضاعه لدراسة نقدية تنأي به عن كل تحامل او محاباة وتلتزم بالموضوعية والعلمية فانها ستكشف عن ظاهرة تكررت حتي امكن لها ان تتأصل وتصبح في حكم القاعدة في ممارسة الحكم والممارسة السياسية في تونس. هذه الظاهرة هي الاقصاء والالغاء كشكل تعامل وحيد مع الاخر.. الآخر هنا بمعني كل مخالف للراي يستوي في ذلك ان يكون من المجموعة الحاكمة او من خارجها. يقصد بالإقصاء في التعبيرات المنمّقة انه ذلك الاسلوب في التعامل الذي يجنح الي عدم التحاور مع الاخر او تبادل الراي معه لتجاوز الاختلاف اذا وجد اما في حقيقته فهو اختصار الوجود سياسيا او فكريا او اجتماعيا في فهم المقصي وحده والغاء المخالف في الرأي منه. ان تتبع ظاهرة الاقصاء في تاريخنا قد يظهرها موجهة الي رموز وشخصيات نافست او كان منتظرا لها ان تنافس علي المسك بزمام السلطة وادارة البلاد، لكنه ابعد من ذلك اثرا واشد خطورة لانه اسس لحالة سياسية واجتماعية مرضية غريبة. ولإظهار الصورة سنبدأ اولا بتعداد مراحل الاقصاء ومظاهره في تجلياتها التاريخية ثم نعرج لاحقا للبحث عن الدوافع الذاتية والموضوعية التي ساهمت في اعتماد هذا الاسلوب في التعاطي السياسي لنخلص الي غرابة الحالة السياسية والاجتماعية التي اسّّس لها. يمكن ارجاع التاريخ لبداية ظهور الاقصاء واعتماده الممنهج كوسيلة الغاء للاخر الي ما قام به بورقيبة من مناورات وتجييش لبعض انصاره من منخرطي الحزب الحر الدستوري الذي كان أسسه عبد العزيز الثعالبي منذ 1920 وتحريضهم علي التنظم في عصابات في قري الساحل وتكليفهم بالتشويش وافساد كل اجتماع يعقده زعيم الحزب او احد من مساعديه ممن لا يرغب بورقيبة في استمرارهم معه وترهيبهم بشتي الوسائل الي ان تم له الامر في مؤتمر قصر هلال سنة 1934واصبح بورقيبة بفضل اول عمل اقصائي يمارسه زعيم الحزب، وتم الغاء الوجود السياسي لعبد العزيز الثعالبي. بعد عشرين عاما كان علي بورقيبة ان يعيد فعله ويقوم بحركته الاقصائية الثانية وكان المستهدف هذه المرة مساعده في الحزب وامينه العام صالح بن يوسف. فباعتماد الاسلوب الغني بعبارات التقزيم والتخوين واعتبار الخصم (الاخر) قصير النظر وجاهلا بابعاد اللحظة التاريخية وبعلم السياسة وموازين القوي عقد مؤتمرصفاقس في 1954.. وازيح صالح بن يوسف من الحزب اولا ومن الحياة لاحقا. اما الاقصاء الثالث فكان مختلفا بالنظر الي ظرفيته التاريخية واسلوبه وتمثل في تحويل وجهة عمل المجلس القومي التأسيسي من مجلس مكلف بوضع دستور للمملكة التونسية الي مجلس متجاوز لصلاحياته.. مجلس يعلن انه بما لديه من سلطات مستمدة من الشعب الذي انتخبه يلغي النظام الملكي ويعلن قيام الجمهورية ويعين بورقيبة رئيسا لها الي تاريخ اجراء انتخابات رئاسية نزيهة في ظل نظام ديمقراطي يقر التداول السلمي علي السلطة.. فتم في 25 تموز (يوليو) 1957اقصاء محمد الامين باي ورسخت قدما بورقيبة في سياسة الاقصاء اولا وفي السلطة ثانيا. ولان همّّ الاقصاء شطب كل مخالف في الراي من المعادلة مهما كانت درجة قربه او بعده من الحاكم فقد كان اعمي في الضرب ذات اليمين وذات الشمال وطالت عملية الاقصاء في مظهرها الرابع احمد بن صالح الذي كان كاتب دولة في 9 اختصاصات وميادين مختلفة! فبعد اطلاق يده ليفعل ما يشاء عشية مؤتمر بنزرت سنة 1963الذي أضاف عبارة الاشتراكية الي اسم الحزب الحر الدستوري.. عاد بورقيبة اثر الاحساس بتململ شعبي ناتج عن عدم رضا عن سياسة التعاضد الي سوق التهم وكيل الجرائم اليه وسجنه وقد كان قبلا عضده وكأن ما انجزه ومارسه طيلة 6 سنوات كان خافيا عليه وجاهلا به وفي نفس الوقت لا يتحمل مسؤولية الجهل او عدم العلم بما يدور ويحدث في بلاده وتحت امرته. استمر عمل بورقيببة بالفعل نفسه وان حتمت بعض المتغيرات السياسية في طبيعة الاسلوب. ففي 1978 امتدت آلته لتضرب الاتحاد العام التونسي للشغل بسبب عدم خضوع قيادته ووراءها قواعده الي سياسة الامر الواقع التي ارادت حكومة الانفتاح الاقتصادي فرضها عليه، فاعلن الاضراب العام، وقد لخصت عملية الاقصاء التي طالت الاتحاد كجهاز نقابي تحكمه قيادة مستقلة عبارة لبورقيبة يقول فيها ان البلاد لا تحتمل وجود حبيبين مشيرا ضمنا الي الحبيب عاشور الامين العام للاتحاد العام التونسي للشغل آنذاك. لم يقف تاريخ بورقيبة مع الاقصاء الا بحركة الغاء ازاحته بطريقة سلمية من السلطة في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 1987. غير ان خروج بورقيبة لم يغير من اسلوب تعامل الحاكم مع الاخر في شيء فظل كل مخالف الرأي غير حقيق بممارسة العمل السياسي فتمت عملية استئصال لحركة النهضة في اوائل التسعينيات من القرن الماضي ولم ينج اقصي اليسار من الاقصاء والالغاء فتم سجن حمة الهمامي ولا يزال حزبه معتبرا خارجا عن الشرعية. كان بورقيبة شخصية غير مستقرة فلا هي رافضة لما طورته الحضارة الغربية لاسلوب الدولة واعتمادها علي المؤسسات في تسيير شؤون شعبها، ولا هو بالقادر علي ان يقبل بالديمقراطية في اطلاقها فيقبل طوعا التنازل عن دولة وسلطة مدينين له في وجودهما، بل انه لا وجود لهما خارجا عنه. يلخص ذلك قوله في تأثر غير خاف بلويس الرابع عشر انا النظام . انه في هذه العبارة ينحاز امام الحيرة الي الغاء المؤسسات التي طالما تبجح بها وانه المسؤول الاوحد علي وجودها وبنائها، واعترف انه مركز النظام السياسي وهو الوحيد من يحدد اتجاهه ويضبط بوصلته. ان بورقيبة اعتمد الالغاء والاقصاء لخدمة مخطط ممنهج ينتهي به الي سلطة مطلقة في دولة يخاط فيها كل شيء علي مقاسه ولتحقيق ذلك كان عليه ان يتخلص من الاشخاص ومن الرؤي التي تطرحها بديلا عن رؤيته الهلامية لاتجاه الدولة وسياستها بعيدة الامد او ما يعبر عنها بالاستراتيجيا. ومهما كانت الاعتبارات الايديولوجية التي ساقها بورقيبة فانها لا تنفي اعتبارات الرغبة في الاستئثار بالسلطة. يفسر ذلك اقصاء محمد الامين باي بزعم ان النظام الجمهوري يقر سيادة الشعب ويضمن ممارستها ولكن حقيقة الممارسة في هذا النظام كشفت القناع عن زيف الايمان بالديمقراطية وانها لم تكن سوي مطية وخيار في ظرفية فرضتها كافضل الحلول، فلما تغيرت المقاييس واصبح تحكمه في السلطة اقوي وامكن قام بعملية اخراج لتعديل للدستور اقره رئيسا لتونس الجمهورية مدي الحياة. بعد ازاحة بورقيبة واقصائه تواصل حضور فعله وتجليات تخطيطه، فضرب الخصوم لا يستثني اليمين ولا اليسار، وحتي الوسط المعتدل الذي يعمل ضمن الشرعية طاله باستمرار عنف السلطة بحرمانه من التمويل العمومي والتضييق علي نشاطاته ومحاصرة مقراته.. ان الادعاء فقط بأن هؤلاء لا يلتزمون بالشرعية لا يعفي السلطة من مسؤوليتها باعتبار ان السبب في عدم التزامهم يعود الي ان القوانين المنظمة للحياة السياسية في البلاد لم توضع لتيسر مشاركة جميع ابناء الشعب في العمل السياسي وادارة الشأن العام بقدر ما وضعت حسب مقاييس محسوبة لتضمن استمرار سلطة الحزب الواحد الحاكم منذ 1934وباسلوب واحد هو الاقصاء. ان اثر عمليات الاقصاء والاستئصال التي طالت الحياة السياسية في تونس وحكمتها ما يقرب من القرن انتجت شخصية تونسية غريبة عن هويتها العربية الاسلامية، وفي نفس الوقت وبالرجوع الي الروح الشرقي الممتد الي آلاف السنين لم يستطع بورقيبة رغم عمق فعله ان يجرها الي التغريب التام فتشكلت من هذه المعادلة لهجة هجينة هي الاغني باقسي العبارات فحشا واكثرها غرابة وعادات وتقاليد اغرب. واصبح لا يكاد يتفق اثنان علي فهم واحد لمصطلح واحد كما نتج عن سلطة الرجل الواحد للحزب الواحد والتي لم تكن تلتزم دائما براي واحد في المسالة الواحدة. ان المتابع من الشعب يصاب بعسر في فهم الواقع او التأقلم معه. فبورقيبة مع الاسلام عند بداية مغازلته للثعالبي، اما بعد ان تمكن من قلب الموازين لفائدته فعدو له.. وهو عروبي في مصر ايام الاغتراب في المشرق وثائر علي العروبة بعد الخلاف مع بن يوسف.. وهو اشتراكي مع بن صالح كافر بها مع نويرة. وفي كل مرحلة يتجاوزها يقف البعض مسائلا ذاته ايهما الصحيح: أما كنت اعتقده بالامس ام ما صرت اواجهه اليوم؟ ولأن الخوف متأصل في النفوس وكذا الطمع والانتهازية فقد كان كثير من الرعية مع الحاكم بامره حيث وجه الدفة فيما آثر البعض ان يظل علي المبدا فتعرض الي التنكيل والتضييق.. ان ابعد اثر يتجلي لهذا التناقض في السياسات والتوجهات لدي الحاكم ما انتجه من ظاهرة داخل الاسرة تتمثل في انقسام افرادها وتصارعهم نتيجة اختلاف اتجاهاتهم الفكرية المتصارعة، وما كان هذا ليحصل في دولة تحترم عمل المؤسسات الحزبية ضمن ايمان حقيقي بتعددية تضمن حق الاختلاف.. أما عن حالنا في تونس، فالامر مفقود والحياة السياسية محكومة ابدا بحالة من الصراع وسائله هي الالغاء وإن الانعكاس كان حاصلا ومرئيا في العائلة التونسية التي كانت اهم ضحايا سياسة الاقصاء وعندما نتحدث عن غرابة اثار الاستئصال علي العائلة لا يمكن الا ان نشير الي ان الصاق تهمة المعارض المرادف دائما للخائن في فهم السلطة واعلامها المأجور باحد افرادها يعني حتما ان مصابها جلل، فلا حق في الوظيفة العمومية لباقي افرادها ولا منحة جامعية لطلابها ولا قروض فلاحية من المؤسسات البنكية الخاصة.. وباختصار ان وجود معارض في عائلة يحيلها آليا الي مجموعة من المواطنين من الدرجة السابعة (لا وجود لدرجات دون السبعة علي غرار القناة 7). ولأن ملعب السياسة المشروعة كما نظمته السلطة لا يتسع الا لمن يقاربها او يماهيها في فهمها للاسلام والعروبة والاشتراكية فقد كانت الاحزاب الاشتراكية راسمالية والاحزاب القومية شديدة القطرية والاسلامية لا تحمل من الاسلام الا اسمه...انها باختصار فنطازيا الحالة السياسية التونسية الفريدة في لاانتمائيتها وفي انبتاتها وفي احاطتها بكل شيء وفي حرمانها من كل شيء. آخر مظاهر الغرابة في الحالة التي اسس لها تاريخ الاقصاء هو ثبات الحالة السياسية في تونس منذ التغيير بفعلها واشخاصها في عالم محيط شديد التغير. ہ كاتب من تونس