تمثل الإجابات عن إشكالية العلاقة بين الدولة والدين في واقعنا الوطني والقومي جوهر الإجابات عن شكل الدولة التي نريد ونمط المجتمع المستهدف وخصائص الثقافة المرادة ونمط التعليم والقيم المنشودة وقد تراوحت تلك الإجابات بين التبشير بالدولة الدينية في جمعها بين السلطة الزمنية والروحية والدولة اللائكية التي تنادي بفصل الدولة عن الدين وإجابة ثالثة تخالف الإجابتين السابقتين برفضها للدولة الدينية واللائكية وتبنيها لدولة لها دين. فما هي مآخذنا على الدولتين الدينية والعلمانية؟ وما هي طبيعة الدولة ذات الدين وما مميزاتها؟ 1- في تهافت الدولة الدينية والدولة العلمانية: إن المتأمل للدولتين الدينية والعلمانية يكتشف طبيعتهما المخاتلة فكلتاهما مخادعة. فالدولة الدينية ترفع شعار المقدس لتغري به المؤمنين وترهب به المرتدين والرافضين. والحركات الإسلامية تعرف قيمة الدين عند العرب. وتدرك منزلة دولة النبوة والخلفاء الراشدين في المخيال الجمعي للمسلمين وتفهم مرارة الواقع العربي اليوم وانحداره إذا ما قيس إلى قوة المسلمين بالماضي وتفوقهم بالأمس لذلك فهم لا يزيدون على تأجيج الذاكرة واستعادة صورة مثالية لا تاريخية مشرقة للماضي الإسلامي يتخذونها وسيلة للدعوة إلى الدولة الإسلامية من طريق الدعوة إلى تبني الشريعة الإسلامية وفرضها على الحكام والمخالفين. وهو أسلوب في رأيي عاطفي تجييشي للمسلمين المهزومين اليوم والمحرومين لا يقدر على بناء المستقبل. إذ أن بناء المستقبل يقوم على وجود إنسان حر يستخدم عقلا سليما ويرفض الاستبداد مهما كان مصدره! والدولة الثانية ترفض المقدس لخطورة توظيفه في دنيا الناس وتدعو إلى فصل الدين عن الدولة وإقامة حكم مدني قوامه العقل البشري ولا أثر للدين فيه. غير أن هذا القول لا يسلم من تلبيس ومخاتلة. فما المقصود بالعقل؟ هل هو العقل المتحاور مع الدين أم الرافض له؟ إن المقصد الخفي للعلمانيين العرب ليس مجرد فصل الدين عن الدولة والمعبر عنه باللائكية. فقد يكون مجديا عدم الخلط بين مصالح الناس واعتقاداتهم الدينية. فالدولة الديمقراطية هي تلك التي تعامل الناس على قدم المساواة أمام القانون وبصرف النظر عن معتقداتهم الدينية. ولكن ما هي طبيعة القانون الذي ينظم العلاقة بين أفراد المجتمع وما هي مصادره؟ هل هو ذلك القانون النابع من ديننا وثوابته وقيمنا وهويتنا العربية الإسلامية وواقعنا الحي المتجدد أم القانون المنسوخ عن الغير وغير الملائم لهويتنا وواقعنا؟ لئن كان العلمانيون يرفضون التشبث بالماضي والانغلاق وتجاهل أسئلة العصر فإنهم لا يجدون غضاضة في تقليد المغاير واستيراد قوانينه ما دامت عنوانا للتقدم ورمزا للتحضر والعقلانية. ولذلك نرى أغلبهم يخفون عداءهم للدين ولكنهم يعلنون رفضهم أن يكون أحد مصادر التشريع الدستوري والقانوني بأي وجه من الوجوه. إنهم يدعون إلى قطيعة شاملة مع الدين. وبعبارة أخرى إن العلمانيين العرب يدعون إلى "إيديولوجيا تتبناها الدولة وتسعى إلى تطبيقها في كل المجالات وهي إقصاء الدين عن كافة مجالات الحياة وخاصة التعليم والثقافة..." بما يعني أن مقاصد العلمانيين الحقيقية يمكن إجمالها في عبارة جامعة ألا وهي: "تعطيل الشرع والقواعد والآداب الإسلامية واستبعادها من حياة المسلمين". إن إقصاء الدين عن حياتنا نحن العرب المسلمين ليس إلا دعوة صريحة إلى الاندماج في حضارة المغاير والانبتات والتبعية وهي أهداف لم تخفها الحملات الاستعمارية المباشرة التي عرفتها أرضنا وشعبنا منذ زمن قصير وهي أيضا مرامي العولمة المتوحشة اليوم التي تهدف إلى محو الخصوصيات الثقافية وفرض نمط عولمي واحد تكون فيه الحضارات والثقافات المغايرة للدول العظمى مجرد توابع لأسيادهم ومستهلكين لمنتوجاتهم. فهل ينتبه العلمانيون إلى خطورة ما ينتهون إليه؟ 2- في الدولة المدنية ذات الدين: إن الدولة كيان اجتماعي وسياسي مركب ومتشابك المكونات والأبعاد وليس بإمكانها – إذا توفرت على شرائط الدولة الحق – إلا أن تعكس هوية الشعب وثوابته الحضارية من جهة وحركيته ومطالبه وقضاياه الحق من جهة أخرى. إن دين الدولة التونسية هو الإسلام باعتباره دين التاريخ والحضارة والواقع بحكم أن أغلبية الشعب العربي في تونس مسلم فلا خلاف لنا إلا مع من يخالفون ذلك. وذلك معلن في دستور البلاد. غير أنه لنا خلاف في مفهومنا للإسلام مع مفاهيم أخرى معلنة في الساحة. فهل هو المفهوم السائد للشريعة؟ أم هو النظام الإسلامي كما نعتقد؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى هل يوجد توافق مرض بين شعار الإسلام في الدستور والتطبيق في الواقع؟ إنها أسئلة حارقة ولا شك ولا سبيل إلى الإجابة عنها إلا بالعقل والحجة والبرهان. أولا: الشريعة الإسلامية لقد اقترن الحديث عن الإسلام بتطبيق الشريعة الإسلامية باعتبارها مدونة دينية متكاملة من الأوامر والنواهي الشرعية والحلول العملية لكل مشاكل المسلمين يكفي اتباعها والتقيد بتعاليمها حتى تستقيم أمور المسلمين ويفوزوا بالدارين... وهو تعريف مثالي مجاف لحقائق الأمور وملتبس يظهر عكس ما يبطن. أما أنه مثالي فمرد ذلك إلى قََرْن شرط التقدم في الدنيا والنجاة في الآخرة بالتقيد بالشريعة والحال أن كثيرا من البلدان الإسلامية الملتزمة بالشريعة مازالت تعاني التخلف والأزمات وتتهم بالكفر والفساد... وتقف غير بعيد عنها دول أوروبية وغربية متطورة ومتقدمة بالرغم من علمانيتها. وأما أنه متلبس فبسبب الغموض حول المقصود على وجه الدقة بصفة إسلامية منسوبة إلى الشريعة. فهل هي شريعة إسلامية لأنها تتضمن قول الله ورسوله قولا واضحا دقيقا مفهوما من الجميع أم أنها إسلامية لأنها مجموعة مذاهب وآراء فقهاء وعلماء مسلمين في تأويلهم للدين؟ إن المفهوم السائد للشريعة الإسلامية هو "كل ما يشمل الآراء والمذاهب الفقهية السنية المختلفة" وهو مفهوم بشري نسبي لا تقديسي مطلق ما دام يعني التفكير البشري لعلماء مسلمين حول أوامر ونواهي الشريعة من حلال وحرام ومندوب ومباح ومكروه... الخ إن كل الآراء والمذاهب التي يشملها تعبير الشريعة الإسلامية ليست إسلامية بذاتها وليس أصحابها رسلا بعد الرسول. إنما تستمد هذه النسبة من أنها اجتهادات داخل دائرة الدين من قرآن وسنة وبالتالي إنها تفكير ديني وليست دينا. ثم إن هذا المفهوم أحادي وإقصائي لأنه يقصر الشريعة على المذاهب السنية ويضرب صفحا عن المذاهب الشيعية ومذاهب الخوارج لأنها تكفرها وهي بدورها تكفر السنة. وإذا كانت هذه هي حقيقة الشريعة الإسلامية فإن الأولى بالإتباع هو النظام الإسلامي. ثانيا: النظام الإسلامي لكي يكون الدستور – باعتباره نظاما عاما – صالحا لتنظيم المجتمع حائزا قبوله يجب أن يشمل قواعد سلوك عامة (تخاطب الكافة) مجردة (لا تنصب على واقعة معينة زمانا أو مكانا أو أشخاصا)، ملزمة (آمرة وناهية). ولكي يكون هذا النظام العام إسلاميا وجب أن يكون مصدره القرآن والأحاديث المتواترة، يقينية الورود، قطيعة الدلالة، هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن كون هذا النظام جملة قواعد عامة مجردة فإنه يتسع ضمنا إلى كل ما يمكن للإنسان العربي مسلما كان أو مسيحيا أو يهوديا أو بلا دين أن يضيف إلى تلك القواعد "لأنه مباح للناس أن يضيفوا إليها ما يرون لأسباب تتصل بظروفهم المتغيرة في المكان، المتطورة في الزمان، قواعد وضعية يرفعونها عن مخاطر الخلاف إلى مرتبة قواعد النظام العام". إن مفهوم النظام الإسلامي أرحب من الشريعة الإسلامية وأدق. أما أنه أرحب فلكونه يجمع بين ثوابت الدين من محكم الآيات ومتواتر الحديث واجتهادات العقل في متشابه الآيات ونوازل القضايا فيجسد قاعدة صلوحية الدين لكل زمان ومكان لا على أساس الحلول الجاهزة لكل عصر ومصر مثلما يجسده الفهم السائد للشريعة ولكن على أساس مشروعية استنباط قوانين وحلول متلائمة مع زمننا وشرعية التخلي عن القواعد الفقهية والحلول التي تجاوزها الزمن لأنها اجتهادات بشرية. أما أن النظام الإسلامي مفهوم دقيق فلأنه يحدد بدقة مجال المقدس في قصره على الآيات المحكمات والأحاديث القطعية الدلالة ويفسح المجال لإضافة العقل عبر ما يستنبطه من قوانين وضعية. إننا نختار النظام الإسلامي بهذا المفهوم الواسع والدقيق في آن ونتجاوز مفهوم الشريعة السائد الغامض والملتبس في آن واحد وعلى أساس هذا الاختيار فإننا نرفض الدولة الدينية والعلمانية ونتبنى دولة مدنية ذات الدين. إنها دولة منسجمة تمام الانسجام مع هويتنا وواقعنا. إنها دولة تصالح بين الدين المقدس والعقل البشري المنسّب وتخلق بينهما جدلا حرا مبدعا خلاقا لا يكاد أحدهما يستغني فيه عن الآخر. ولقدت بينت التجربة الإنسانية عبر مراحل الصراع بين الدين والعقل شرقا وغربا أن أي نظام مجتمعي وسياسي يقصر فيه قوانينه على أحد طرفي المعادلة (الدين أو العقل) لا يسلم من نقصان بل من شطط الغلو والخسران. وأن الحل الجدلي الحكيم لذلك الذي يوحّد بينهما، "فإن المعرض عن العقل مكتفيا بنور القرآن مثاله المتعرض لنور الشمس مغمضا للأجفان فلا فرق بينه وبين العميان فالعقل مع الشرع نور" (الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد). إن مثل هذه الدولة التي تجمع بين الدين باعتباره أحد أهم مميزات حضارتنا ومقومات شخصيتنا والعقل بصفته أعظم وسائل التفكير والتدبير والاجتهاد في الدين والحياة لا يمكن بأية حال أن تفسح المجال للصراع على أساس الدين أو المذهب أو الطائفة أو الرأي... وإن دولة لها دين أنسب لدولة ديمقراطية لا فضل فيها لتونسي على آخر إلا بعمله وإخلاصه لوطنه وأمته وأما الاختلاف العقدي بين المواطنين مسلمين ومسيحيين ويهود وملحدين فلا شأن للدولة والقوى السياسية في السلطة أو المعارضة به. فالتونسيون أحرار لهم كل الحقوق وعليهم كافة الواجبات – بدون أدنى فرق – أمام القانون. وأما لغة التكفير ومحاسبة الناس على معتقداتهم فمرفوض ذلك أن العقاب بسبب عدم الإيمان أو المغايرة في الدين أو المذهب شأن إلهي ولا دخل للبشر –اليوم- فيه، شرط - طبعا - أن لا يفرض ذلك المغاير دينه أو مذهبه على الغالبية العظمى للمجتمع ذلك أن الفرض عدوان وكل عدوان مرفوض شرعا ووضعا. نحن ضد تحول بعض القوى السياسية المحسوبة على الإسلام إلى إكليروس ينصبون محاكم التفتيش يطاردون مخالفيهم مبيحين دمهم بتهمة تكفيرهم فقد قال الله تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" (البقرة 256) ودعانا إلى مجادلة المخالف لنا بالحسنى حينما قال "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين". (النحل 125). لقد ولى عهد الأباطرة والمستبدين والحاكمين بأمر الله ف... إننا ننادي بدولة ذات دين تنأى بنفسها عن توظيف الخطاب الديني في السياسية وتحجر هذا المسلك على كافة الأطراف المجتمعية من أحزاب ومنظمات بما في ذلك الطرف الماسك بالسلطة وهي دولة يجب أن تكون حامية للدين ... ونحن ضد فصل الدولة عن الدين، ذلك الفصل الذي يتحول فيه دعاة اللائكية إلى مبشرين يعمّدون الشعب ويطمسون دينه ويعطلون شرعه ويلحقونه بغيره ويمسخون هويته. وإننا من دعاة دولة مدنية يتسع فيها رحاب الديمقراطية للجميع دون تكفير أو تخوين لمجرد الاختلاف في الرأي أو الدين أو المذهب بما يجسد البعد الأصيل في ديننا ألا وهو التسامح... وإننا ننشد دولة تعظم فيها دوحة الإسلام وتتفرع أغصانها الخضراء لتزهر فيها فضائل الأخلاق وتعم جميع مناحي الحياة من تعليم وثقافة وإعلام... إننا من دعاة دولة ذات دين متجذر متجدد رافض للتعصب والانغلاق دولة تعتز بهويتها الممتلئة عروبة وإسلاما وسماحة وتيمم وجهها شطر المستقبل على الله تتكل وعلى أبنائها وبناتها تعول. § إننا من دعاة دولة مدنية يتسع فيها رحاب الديمقراطية للجميع دون تكفير أو تخوين لمجرد الاختلاف في الرأي أو الدين أو المذهب "لقد ولى عهد الأباطرة والمستبدين والحاكمين بأمر الله ف..." صحيفة الوطن التونسية بتاريخ 25 جانفي 2008- العدد 22